قضايا

ليلة تسليم جلجامش لليهود؛ فضح مغالطات التناص بين الفكر العراقي القديم والفكر التوراتي (24)

husan sarmakبعد هذه الاختلافات هل يبقى "تناص" بين الحكايتين؟

سأحاول "تفكيك" ما نقلته أعلاه مما اعتبره ناجح تشابهات وتناصات بين حكاية الأخوين وقصة يوسف التوراتي على الرغم من قناعتي الراسخة بأن المقارنة بين ما هو اسطوري وما هو واقعي ديني خاطئة وغير صحيحة كما ساثبت ذلك بعد هذا القسم من البحث :

كان باتا فلّاحاً يعمل في أرض زراعية، في حين كان يوسف بدويّاً راعياً (بالرغم من أن أباه كان يخشى عليه من كل شيء)، وهذا فارق جذري بين مناخين ومكانين حضاريين . 

أنبو الأخ الأكبر كان بمثابة الأب بالنسبة لباتا بسبب عدم وجود الأب (بفعل الموت أو أي سبب آخر)، ودوره يوازي دور يعقوب الأب الأصلي ليوسف وليس لفوطيفار الذي كان بمثابة الراعي والمربّي ليوسف (الأب الإجتماعي إذا جاز الوصف). وقد أهمل ناجح يعقوب الأب الأصلي بسبب انتقائيته من جانب ولأنه يريد مماثلة الشخصيتين المصرية واليهودية على أرض مصر حسب .

كانت علاقة أنبو بأخيه باتا طيّبة ويسودها السلام والرعاية من قبل الطرفين، ولا يمثل أنبو أنموذج السلطة البطرياركية القامعة والخاصية .

لم تكن زوجة أنبو الأخ الأكبر أمّاً لباتا الأخ الأصغر إلّأ من وجهة نظره هو وأخيه، فمن جانبها كانت تمثل أنموذج الأنثى الأفعوانية (حسب وصف ناجح) المغوية .

ولم تكن زليخة أمّاً ليوسف بل كانت ايضاً أنموذجاً أنثوياً مغوياً يتحيّن الفرص لمضاجعة يوسف .

لم تفلح وشاية الزوجة بباتا إلّا وقتياً فقد اقتنع أنبو ببراءة أخيه وقام بقتلها ورمي جثتها للكلاب، في حين نجحت وشاية زليخة بيوسف فأودع السجن، ولم تُكشف خديعتها ولم يقع عليها أي عقاب حسب تفاصيل القصة في التوراة (بخلاف ما جاء في القرآن الكريم) .

قام باتا – في ختام حكايته – بمحاكمة أمّه/ زوجته السابقة علناً واصدر الحكم عليها بالموت ذبحاً حسب نبوءة الإلهات الحاطورات، في حين اختفت زليخة من حياة يوسف بعد سجنه حسب النص التوراتي، وهناك روايات تقول أنّه تزوّجها بعد موت زوجها – سيّده السابق – فوطيفار ! وهل كان يوسف إبن زليخة وهل حبلت به حتى لو كان ذلك رمزياً ؟!

هرب باتا من أخيه وتدخل الإله رع لإنقاذه بخلق نهر مليء بالتماسيح بينهما .

من "قتل" يوسف رمزياُ ليس سلطة الأب بل الأخوة الذين رموه في البئر .

قام باتا بإخصاء نفسه ولم يقم يوسف بذلك لأن سياقي القصتين مختلفين تماماً، فالقصة الفرعونية تعكس تاريخا تميّز بمؤامرات الحكم بين الأخوين وتدخل النساء بصورة خطيرة في شؤون الحكم، والزواج من عامة الشعب وبناء مقابر لأجانب وكلّها غريبة على سياقات السلطة الفرعونية وديانتها . وجرت الحكاية في مجتمع زراعي متحضّر، في حين أن قصة يوسف تعكس قيم الحياة البدوية وتحاسدها ومطامحها وتغلغلها في حياة مصر المتحضرة، وصياغة قصّة لمداراة النرجسية الجريحة والسطو على تراث وثروات الشعوب المجاورة، والتمهيد المُخطّط للخروج المُقبل .

كان قرار باتا بإخصاء نفسه قراراً إراديّاً عكس الرغبة الشديدة في الإستقلال والتخلص من منابع الإغواء والتبعية، وذهب إلى وادي الطلح البعيد بقرار فردي مستقل، في حين أن يوسف "يُنقذ" بفعل قوة خارجية ويُسلم من يد إلى يد .

قوّة باتا غير وسامته، فهي التي فتنت زوجة أخيه تعبيراً عن جسم الفلّاح الذي يصقله العمل الشاق والمثابرة اليومية العزوم، وهذه القوة هي التي ساعدته على العيش بعيداً معتمدا على صيد الوحش . وسامة يوسف هي الأولى طفلا وصبيّاً وشاباً ورجلاً، لم يَصِد الوحش، وعاش معتمداً على معونات ولي عمله فوطيفار وتدخل القوة الربّانية .

باتا لم يكن مفسر أحلام، بينما كان يوسف مفسّر أحلام، وكان تفسير الأحلام مهارته التي أنقذته وجعلته وزيرا للفرعون، في حين أن القوى الإلهية والأسطورية والسحرية هي التي تكفّلت بإنقاذ باتا .

حصلت القطيعة بين الأخوين بسبب غدر وفساد المرأة (الزوجة)، في حين حصلت القطيعة بين يوسف وإخوته بسبب الحسد وتفضيل الأب فألقوه في البئر .

لم يكن هناك حلم (رؤيا) أشعل الخلاف بين الأخ الأكبر وباتا، في حين أن الحلم هو الذي أشعل الخلاف بين يوسف وإخوته .

مع تطوّر الحكاية اكتسب باتا سمات الإله الشاب، في حين أن يوسف لا يحمل أي سمة من سمات الإله الشاب، فقصته ليست أسطورة، ورميه في البئر لم يعطل حركة الحياة والخصب، وخروجه لم يحفز الإنبعاث والتجدّد . ولم تكن له إلهة (أو زوجة) أمّ (أمّه امرأة عاديّة هي راحيل بنت لابان وقد توفيت وعمره خمس سنين فاعتنت به عمته فائقة بنت إسحق وخالته ليا بنت لابان) .

ولم يكن ليوسف مريدون يحتفون بانبعاثه سنويّاً ويجرحّون أجسادهم أو يخصون أنفسهم انفعالاً بذكراه . ولم يكن له "معبد" فالإله الشاب جاء ضمن بنية حضارية وثنية في حين أن يوسف جاء ضمن بنية ثقافية دينية .

لا نجد إشارة لتصالح فوطيفار مع يوسف أو اسفه لما حصل في حين أن أنبو أعلن عن ندمه وحزنه على أخيه فور مشاهدته حادثة إخصاء باتا لنفسه، ثم أنقذه من الموت المحقّق في وادي الطلح، وقاده إلى قصر الفرعون ثم صار نائبا لأخيه فملكاً بعد وفاته.

"تزوّج" باتا" في وادي الطلح من فتاة خلقتها له الآلهة، ولم يتزوج يوسف من فتاة خلقتها الآلهة .

قال باتا للفتاة أنه امرأة مثلها (مخصي)، ولم يقل يوسف لزليخا أو زوجته ذلك . 

لم يتزوّج باتا ولم يُنجب، في حين تزوّج يوسف من امرأة وثنية - هو الموحّد !! -، وأنجب منها ولدين (في رواية أخرى ولد وبنت) . 

تحوّلات باتا كانت أسطورية سحرية خرافية (نهر التماسيح، وضع قلبه على زهرة في وادي الطلح، تحوّله إلى ثور مقدّس ثم إلى شجرة لبخ) .. ولم تحصل ليوسف أي تحوّلات أسطورية أو سحرية من هذا النوع .

حكاية الأخوين هي حكاية خرافية وأسطورة امتزج فيها البشري بالإلهي، في حين أن قصة يوسف هي حكاية بشرية واقعية .

حكاية الأخوين مثبّتة في البرديات ولها ما يسندها في التاريخ المصري الفرعوني، في حين أن حكاية يوسف لا سند لها في التاريخ المصري .

جاء اختيار الفرعون لباتا وصيّاً على عرشه طبيعياً، لكونه إبنه، بالرغم من أنّه من أمٍّ من عامة الشعب (هي زوجته الخائنة سابقاً)، في حين لم يولد يوسف من أمّ هي زوجة للفرعون .

حبلت أم باتا (زوجته) بقطعة خشب من شجرة اللبخ التي تحوّل إليها، في حين أنّ من المؤكد أن زوجة يوسف قد حبلت بالطريقة الطبيعية (بفعل مضاجعته ومادته المنوية) .

كانت الآلهة (وخصوصاً الإله رع – أختي) تتجلى لباتا بصورة شخصية وتحدّثه وتناقشه، ولم يتجلّ أي إله ليوسف، ولم يأت في القصة اليهودية سوى ذكر أن الربّ (وهو يختلف عن الله) كان يُنجحه في أعماله .

هناك – كما قلت قبل قليل - اعتراضات على وصف يوسف بالإله الشاب لأسباب ذكرنا بعضها، ولكن هناك اعتراضات على كونه "نبيّ" أصلاً .

 

حسين سرمك حسن - بغداد المحروسة

 

في المثقف اليوم