قضايا

باحث مصري يفكك أسطورة الحداثة السياسية لدي ليو شتراوس

تتناول هذه الدراسة التي بين أيدينا مشكلة العلاقة بين الفلسفة والسياسة في فكر ليو شتراوس (1899-1973) ، ونقطة الانطلاق التي يبدأ منها الباحث المصري أحمد فاروق رسالته التي نال عنها درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة عين شمس  هي نقد شتراوس للحداثة السياسية،

ويؤكد الدكتور أحمد فاروق أن ليو شتراوس، الذي يعد واحدا من أهم المفكرين السياسيين في القرن العشرين، نجح قبل رحيله بوقت طويل في أن يحتل مكانة سياسية بارزة في حقل الفلسفة السياسية، وأفكاره لا يمكن تجاهلها من قبل أي دارس جاد للأمور السياسية.حيث يقدم تحليل شتراوس للحداثة السياسية سبيلا يمكن من خلاله تأويل الاتجاهات التواصلية والثقافية لعصرنا،فهو يتناول التيارات الرئيسة للفلسفة في زمانه ويحلل الظاهرة الاجتماعية والفكرية المميزة لمولد العصر الحديث بغية تطوير فكر نقدي لديه القدرة علي تفكيك أسطورة الحداثة السياسية: ونعني بذلك فكرة التقدم. إن شتراوس لا يرفض التقدم كظاهرة تاريخية ولا الانجازات التكنولوجية المصاحبة له، لكنه ضد الإيمان بالتقدم بوصفه أسطورة جديدة تحل محل الأساطير التي حاربتها الحداثة السياسية وانتصرت عليها، فالتقدم بوصفه أسطورة أو سردية كبري للشرط الانساني ليس لديه القدرة على العمل كمعيار للتوجيه الأخلاقي الضروري للسيطرة على التقدم وعواقبه. وقد قادت مقاربة شتراوس اللاهوتية-السياسية للحداثة السياسية إلى النظر لليبرالية بوصفها ديانة، أكثر أشكال الدين راديكالية وجدت حتى الآن.وتري الحداثة السياسية الليبرالية بوصفها المرحلة النهائية والفريدة للتطور التاريخي للبشرية، وتعدها على هذا الأساس مرادفة للحضارة بمعني مطلق، ورغم ذلك فإن الليبرالية لا تقدم شيئا غير إعادة إنتاج نفس العدمية التي اقترنت بها منذ بدايتها.

وأضاف الدكتور أحمد فاروق أن أبو نصر الفارابي (870-950م) هو الشخصية المهيمنة في الفلسفة الإسلامية إلي الدرجة التي دفعت خلفاءه لأن يطلقوا عليه لقب المعلم الثاني بعد أرسطو. وقد أصبح الفارابي ذا أهمية معاصرة نتيجة لجهود شتراوس واهتمامه واقتناعه ليس فقط بقدرة القدامي- من أفلاطون وحتي موسي بن ميمون- علي التحدث إلينا، ولكن أيضا بقدرتهم علي تعليمنا أشياء عن طبيعة الحقيقة التي بامكانها مساعدتنا علي التغلب علي أزمة الحداثة السياسية.

علي هذا النحو فإن موضوع هذه الرسالة هو فلسفة ليو شتراوس السياسية وأسسها في الفلسفة الإسلامية والكلاسيكية، وعند الفارابي علي وجه الخصوص. وترتكز فلسفة شتراوس السياسية على ثلاثة قضايا أساسية. الأولي هي أن الفارابي بالنسبة لشتراوس كان على وعي في تفلسفه بوجود نوعين من الخطر: الخطر الذي تمثله الفلسفة للمدينة، والخطر الذي تعرض المدينة الفلسفة له. والقضية الثانية هي أن هذا الخطر المزدوج قد أدي بالفلاسفة إلى اللجوء لنمط خاص من التفلسف يهدف إلى إخفاء الحقائق الفلسفية، أعني الحقائق الخطيرة، عن جمهور أهل المدينة وقصرها على دائرة الفلاسفة. والقضية الثالثة تتمثل في الغاية التي تسعى إليها فلسفة شتراوس والتي تتجسد في محاولة فهم فلاسفة الماضي كما فهموا أنفسهم والحاجة إلى إنجاز ذلك الفهم تتعدى نطاق الانشغال الأكاديمي العلمي بالفلسفة الكلاسيكية: إذ يعد مثل هذا الفهم أو التأويل على خلفية أزمة زماننا ثلاثية الأضلاع- أزمة الفلسفة، الحداثة السياسية والغرب- بمثابة علاج أو خروج منها.

ويري الدكتور أحمد فاروق أن هدف مشروع شتراوس الفلسفي هو تجاوز أزمة الفلسفة السياسية الحديثة التي تصل إلى ذروتها بحسب شتراوس في المذهب التاريخي، المذهب الذي يدعى أن كل الفكر الإنساني مشروط تاريخيا. وبالنسبة لشتراوس يمكن تجاوز المذهب التاريخي ونتائجه العدمية في نهاية تحليل جينالوجي عبر العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية. لكن كيف يتم الانتقال من عالم الفلسفة الكلاسيكية إلى التاريخية؟ المذهب التاريخي في رأي شتراوس هو رد فعل لأزمة التنوير، المشروع الذى ظهر للوجود مع ميكافيللي واستمر مع هوبز ولوك مؤسسي الليبرالية الحديثة. وبمقدورنا فهم التنوير الحديث لو قمنا بمقارنته بالتنوير الكلاسيكي- والتنوير الكلاسيكي تعبير يستعمله شتراوس لوصف تراث فلسفي يبدأ مع سقراط، ويستكمل من قبل أفلاطون وأرسطو، ويستمر في الوجود في العصور الوسطى في الفلسفة الإسلامية واليهودية عند كل من موسى بن ميمون والفارابي. وقد قمنا في الرسالة بالبرهنة على أن الفارابي في رأي شتراوس أفلاطوني، أفلاطوني حقيقي: فهم وحافظ على وأعاد إنتاج السمة الحقة لفلسفة أفلاطون. الفارابي بالنسبة لشتراوس أفلاطوني حقيقي لقيامه بإعطاء فلسفته شكل خاص مثله في ذلك مثل أفلاطون: شكل سياسي. وهذا الشكل السياسي هو المعنى الأول للفلسفة السياسية عند الفارابي، المعنى الأكثر مباشرة، لكنه ليس المعنى النهائي لها. إذ يفهم الفارابي هذا الشكل السياسي للفلسفة بوصفه معرفة- للذات تقع ضمن فضاء الفلسفة السقراطية. فلو كانت الفلسفة السقراطية هي تحويل للفلسفة ما قبل- السقراطية من ناحية، وفهم جديد للظاهرة الطبيعية والإنسانية من ناحية ثانية أو بعبارة أخرى إذا كانت فلسفة سقراط عن أو حول السياسي، فإن فلسفة الفارابي في رأي شتراوس أفلاطونية حقة بمعنى أنها فلسفة تدور حول الإنسان السياسي والمدينة السياسية. ومن خلال هذا المعنى الشامل للفلسفة السياسية يمكن للمرء أن يكشف معنى الكمال الإنساني والسعادة في عمل الفارابي، وأيضًا في عمل سلفه العظيم- أفلاطون.

وأوضح الدكتور أحمد فاروق أن شتراوس يتبع موسي بن ميمون في النظر للفارابي بوصفه المعلم والمتكشف الأول للفلسفة الأفلاطونية بعد سيادة وهيمنة أديان الوحي على ظاهرة الاجتماع السياسي: إن اكتشاف الفلسفة السياسية الأفلاطونية والحفاظ عليها والتباري معها والطريقة التي يتم بها كل ذلك هي "الحقيقة" التي يعتقد شتراوس أنها متاحة فقط في بعض الكتب القديمة، وفي أعمال الفارابي على وجه الخصوص. وعملنا هو إلقاء الضوء على طبيعة هذه الحقيقة الفلسفية، والطريقة التي وصلت بها إلى شتراوس، والحل الذي اكتشفه للمشكلة السياسية عند الفارابي. والصلة بين شتراوس والفارابي ذات أهمية قصوى لو كان الهدف هو فهم فلسفة شتراوس السياسية، ولا تنبع هذه الأهمية من كون الفارابي هو المعلم والمؤسس الأول لنوع خاص من الفلسفة السياسية فقط، ولكن ايضًا بسبب مبدأ شتراوس نفسه في القراءة الفلسفية، إذ يذهب إلى أن الفيلسوف الأفلاطوني الحق يخفي مذهبه في شروحه على أعمال الآخرين بدلًا من عرضها في الأعمال الموقعة باسمه.

ويخلص الباحث أحمد فاروق، أخذًا في اعتباره المحددات السالفة، من دراسته بمزاعم وتوقعات معتدلة، بمعنى أن ما هو معروض هنا ليس هو التأويل النهائي لا إلى شتراوس أو الفارابي أو الفلسفة السياسية الأفلاطونية، وما ندعيه وندافع عنه هو أنه بدراسة تأويل شتراوس للفارابي تصبح مشكلة تأويل شتراوس نفسه قابلة للرؤية على ضوء مختلف عن ذلك الذي يشكل خلفية المناظرة الجارية الآن حول فلسفة شتراوس السياسية. أما عن مساهمة الرسالة في مبحث الفلسفة السياسية بشكل عام وفلسفة شتراوس السياسية على نحو خاص فتتمثل في حقيقة أنها المحاولة الأولى للاشتباك بجدية مع تأويل شتراوس لفلسفة الفارابي السياسية. والرسالة تلقي الضوء أيضًا على مسألة الفلسفة السياسية بوصفها مساهمة الفيلسوف في حل المشكلة البشرية. إن دراسة شتراوس للفارابي لم تقدم له أدوات أو مناهج للتأويل فقط: بل نتج عنها العديد من الأفكار الجوهرية حول القضايا التي ظلت تشغل عقل شتراوس طوال مسيرته الفلسفية، تلك القضايا التي يعالجها باعتبارها مسائل فرعية لقضية أساسية، قضية العلاقة بين الفلسفة والسياسة أو الفكر والمجتمع. وبعبارة أخرى فإن دراسة شتراوس لأفلاطونية الفارابي قد وفرت له منهجًا للتأويل، طريقة خاصة في التفلسف وفلسفة سياسية- فلسفة سياسية أفلاطونية!

وبناءً على ما سبق قسم الباحث أحمد فاروق هذه الدراسة إلى سته فصول ومقدمة وخاتمة، وقد عرض في المقدمة إشكالية الرسالة والمنهج في معالجته، ودرس في الفصل الأول رؤية شتراوس أزمة الحداثة السياسية بوصفها مشكلة فلسفية، وموضوع الفصل الثاني هو المواجهة مع هرمان كوهن على خلفية تأويل فلسفة موسي بن ميمون بوصفها فلسفة أفلاطونية وليست أرسطية؛ ويناقش الفصل الثالث التأويل السياسي الذي قدمه شتراوس لمذهب النبوة كما هو معروض في الفلسفة الإسلامية واليهودية.

أما في الفصل الرابع فقد قام بدراسة تأثير الفارابي على شتراوس وذلك فيما يخص رؤية الأول لفلسفة أفلاطون بوصفها فلسفة سياسية بالأساس تسعى لتناول مشكلات الوجود الإنساني بالجدية اللازمة مع إدراكها بأن من المستحيل على الفيلسوف تقديم رأى نهائي وقاطع عن طبيعة الأشياء والكون في بحث مازال جاريًا، وفي الفصل الخامس درس الباحث الفلسفة السياسية الأفلاطونية أو ذلك الاتجاه الذى تبناه شتراوس بوصفه موقفًا فلسفيًا شخصيًا يسعى من خلاله إلى إعادة مشكلات الحياة الإنسانية وتحديدًا المشكلة السياسية على جدول أعمال المشكلة السياسية.

وأخيرا فقد أنصب اهتمام الباحث في الفصل السادس والأخير على تحديد مفهوم شتراوس بالسيرة أو الحياة الفلسفية والدور الذي باتت تلعبه السيرة الفلسفية في الخطاب الفلسفي المعاصر كما هو الحال عند الفيلسوف الفرنسي بيير هادو.

 

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم