قضايا

الدين والسراطات المستقيمة

ali almirhigلا شك أننا نبغي قبولاً لفهمنا للتدين وتعقلاً، كما لا شك في أن كل المتمذهبين والطائفيين والمتدينيين يدعون أنهم "سفن النجاة"، أو من سماهم سروش "الحصريون" الذين يُقابلهم "التعدديون"، وبسبب تكافؤ الأدلة بين الفريقين، فالصراع يبقى مُستمراً، وأنا أرى أن العاطفة سبيل العامة للإيمان، ولا سبيل لقبول التعددية عبر"الهداية والإيمان" كما يتمنى سروش، وستبقى تحليلاته تسويغات وأمنية لقبول المختلف، ولكن الدنيا ستدور وتدو ويبقى"كل حزب بما لديهم فرحون"، وستبقى "بلورالية" سروش وتعدديته حُلماً من "يوتوبيا" الحالمين، حالها كحال "المدينة الفاضلة" عند إفلاطون والفارابي، فلا الأدلة والبراهين تُثني "الحصريين" وليس بمقدورها كفهم عن نزوعهم الطائفي والمذهبي، ولا دور كبير لتعطيل "البلوارليين" التعدديين، عن حُلمهم، وسيظل منظري كلا الفريقين يعملون ليُغيروا قناعات بُنيت وفق مقتضيات الصراع الاجتماعي: الديني والطائفي، الذي نزفت كل طائفة أو دين دماءً لتثبيت الإيمان بمعتقداتها، وإن غيّر البعض جزءً أو كل قناعاته العقائدية والفكرية التي حكمتها آيديولوجيا الصراع، فلا يُغير ذلك من الأمر شيئاً، وإن حلفت للمؤَدلجين بكل الرسل والأنبياء بأن سراطات الحقيقة ليست واحدة وإن نظّرت وإستخدمت منطق أرسطو أو منطق الإستقراء البيكوني أو منطق النقائض الهيجلي، فلن تجد مُجيباً، وإن وجدت فلن تجد منهم سوى آحاداً، لأن التربية الاجتماعية الدينية بطابعها التسليمي الإيماني غرست وزرعت وحصدت وستجني ثمار غرسها وزرعها وستحصد ما غرست دماء شبابها أُضحية لركوب "سفينة النجاة".

فلا يوجد تأثير إلا قليلاً للتربية النقدية في التعليل والتحليل دراسة ودراية، وليس بمستطاع الجميع سوى القلة الجمع بين "النقل والعقل" على مستوى الدراسة والدراية وشحذ همم العقل لرفض تواتر الحكاية وثُقاة آحادها ونقض أقوال القائلين بها، وليس بإستطاعة مفكر تغيير معتقد جماعة وإقناعها برفض أو حتى نقدٍ لفكرة "النجاة" وركوب سفينتها، فمن تعلق بها وركبها فقد نجى ومن تركها فاليأمل بكرم الله المُرتجى. وعند الشيعة حديثٌ شريفٌ: "أن أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك وهوى"، فتعدد الفهم للنص الديني لا يعني القبول بالتعددية الدينية كما يعتقد بذلك سروش، فالنص القرآني بإعتقاد "الحصريين" ليس صامتاً كما يُصرح بذلك سروش، وتعددية تفسيره عند المُغايرين لا يعني أن حقيقته وصدقيته عند المذهبيين مفقودة، لأنهم لا يعترفون بأن للنص "طراوته" التي تضمن خلوده، لأن خلوده مُتحقق عند الجماعة الذين بنوا رؤيتهم للنص وفق قابليته للتفسير الأحادي، فهو عند الشيعة يُفسره المعصومون الذي منحهم الله هبةً هي إدراك ظاهر النص وباطنه. والنص عند "الجماعة" هو الحكم، "فلا حُكم إلا لله"، وكلا الفريقان من "الحصريين" الطائفيين يدعي معرفة ودراية بعلم التفسير وأسباب التنزيل، وطُرق التأويل.

لم أجد في كتابات سروش سوى أحلاماً "يوتوبية" لا يغيب عنها ولا يُغيب البُعد الصوفي الحالم والتجربة القلبية على وفق ما أطلق عليه المتصوفة "وحي القلب" أو "الكشف"  الصوفي ليُقارب بينه وبين "الكشف العلمي"، وشتان بين الكشفين، فقد إستخدم "بوبر" مفهوم "الكشف" ليُزيد الإستقراء علميةً، ولم أجد مسوغاً لربط مفهوم الكشف ببعده الوجداني الباطني الحدسي عند الصوفية مع "الكشف" ببعده البوبري التجريبي الإستقرائي.

ولا أُخفيكم سراً أنني تُهت وتيهتني "بلورالية" سروش التي لا أُنفي عنها حُسن مقصده في رؤيته للحقيقة، وإن بدى لي أنه قد )ضيع المشيتين) كما يقول المثل، فهو مرةً يقول "الحقيقة واحدة، ولكن هؤلاء الأنبياء ينظرون إليها من ثلاث زاويا"، و " لهذا قدموا لنا ثلاثة أديان"، وكأن ما قدمه الأنبياء فهماً بشرياً للحقية الإلهية وهذا الفهم يتعدد بتعدد الفهم البشري، مُستشهداً بقول المولوي:

إن صوت الناي ينفخ فيه العازف.

إنما يخرج الصوت بمقدار الناي لا بمقدار العازف.

والواضح أن الناي هو مُعجزة النبي، (القرآن)، والعازف هو النبي، مُبلغ الوحي، فسيكون مقدار الأثر والتأير للمعجزة وليس للنبي. هكذا فهمت إستشهاد سروش بقول مولانا الرومي، وهنا سيكون لموسى سحر "المعجزة" الأقوى عند اليهودي، لأن الناي كان أقوى أثراً وإعجازاً لأن إعجاز نايه فيه رد على السحرة لأن فعله معجز لا يستطيعون الإتيان بمثله، فكان في شقه للبحر وتحويله العصى لأفعى قلباً لأفاهيم عصره.

وما كا عيسى بأقل إعجازاً من موسى، فولادته حسب التواريخ المسيحية وحسبما اخبرنا القرآن به كان مُعجزاً بكل ما للإعجاز من قبول لغوي واجتماعي، فهو روح القدس الذي كلم الناس في المهد ليُهدينهم طريق الحق، وما كان حوارييه سوى مُرشدين لسُبل الرشاد، "ولا تقولوا ثلاثة إنتهوا خير لكم، إنما الله واحد".

وما كان محمد خاتم النبيين بغير مُدرك لدين موسى وعيسى، ولكنه خَتمهم: "إن الدين عند الله الإسلام"، وإن إختلف الباحثون والمفكرون تفسيراً وتأويلاً لفهم الإسلام في هذه الآية، لكن "الحصريين" سيُحافظون على حصريتهم، سنة كانوا أم شيعة، وليس بإستطاعة الفكر الحر تغيير مُعتقداتهم، ولا أجد في عمل المثقف النقدي هماً وإنهماماً وفق المصطلح الفوكوي لتغيير مُعتقد المُعتقِد، إنما الهم والإنهمام مُنصب على إقناع المُعتقِد بمصداقية مُعتقده بأن هناك آخراً مُختلف، فتقبل حقه في المُغايرة والإختلاف.

فلا يوجد برأينا "صراطات مُستقيمة"، ولكن توجد تأويلات مُتنوعة لفهم النص الديني المُقدس تفرضها معطيات الواقع السياسي والبيئي والاقتصادي والثقافي، وأؤكد على الثقافي، لأن فهم النص وتفسيره وتأويله مرتبط بمقدار ثقافة الفرد أو المُتلقي، فإن كانت نشأته الثقافية والاجتماعية نشأةً فيها كثير من منتجات الوعي النقدي، فلا بد لمثل هكذا عقل وفق مواصفات التنشئة الثقافية والاجتماعية الحرة أن يكون عقلاً فاعلاً مؤنسناً.

فلا "قبض ولا بسط" ولا "سراطات مُستقيمة"، فلا إستقامة في السلوك الإنساني ولا في المعرفة، لأن خطوط الإستقامة تفرضها علوم المنطق والرياضيات، لا العلوم الإنسانية التي يصح فيها الخطأ ويُخطأ الصح فيها وفق مقتضيات المصلحة ونزوات الذات...

 

د. علي عبد الهادي المرهج

كاتب وأكاديمي من العراق. واستاذ الفلسفة والفكر العربي المعاصر في الجامعة المستنصرية.

 

 

في المثقف اليوم