قضايا

هوسرل وعلاقة الذات بالموضوع

ali mohamadalyousifبضوء الدراسة الفلسفية للباحث د. جميل حمداوي المنشورة على موقع (المثقف) تاريخ 29/8/2017، بعنوان: (الفلسفة الظاهراتية بين الفينومين والنومين) ادرج مناقشة هذه الجزئية، حول عبارة ديكارت (انا افكر اذن انا موجود).

ذكر الاستاذ الباحث انه كان الأجدر كي تكون العبارة اكثر مقبولية فلسفية حسب احالة العبارة ورؤيتها الى مرجعية فلسفة هوسرل في الظاهريات (الفينامينالوجيا) قولنا: (انا افكرفي شيء مقصود اذن انا موجود.)

لا اعرف ان كانت  الاضافة للعبارة هو استنباط الباحث ام هي (الاضافة) منسوبة نصّا لهوسرل؟

وتعليقي هو ان فاعلية الفكر بادراك الشيء والوعي به مصدرها العقل، عليه نضع انفسنا امام استحالة ادراكية في الوعي بشيء مادي او غير مادي، بمجرد قولنا حسب هوسرل ان الاشياء ومواضيع الادراك غير موجودة ولا فائدة منها بمجرد عدم وعينا وادراكنا لها. وهنا يكون الادراك مثاليا تم تجاوزه فلسفيا  كما  موجود في فلسفة هيجل المثالية الجدلية، على يد ماركس في المادية الديالكتيكية التي تذهب عكس ما ذهب له هوسرل في اسبقية الوعي على المادة، بأن المادة  حسب ماركس  اسبق على الوعي ومفروزة عنه. كما ان ما لاندركه لا اهمية له لدى هوسرل قد ينطبق مع عدم حاجتنا او بعضنا التفكير في امور الميتافيزيقيا فهي لا تعني كل الناس في اهمية ووجوب التفكير بها والتوصل الى يقينيات بشأنها، ومن دعوة هوسرل (انه لا ذات بلا موضوع) التي هي سليمة وصحيحة الى حد ما، وتصبح باطلة غير صحيحة في قول هوسرل: ليس هناك من حاجة او اهمية  لفصل الذات عن الموضوع!! والذات والموضوع متداخلان لا يمكن ولا يجوز الفصل بينهما، والذات والموضوع شيء واحد في فلسفته.

 ان امتلاك الانسان قدرة وآلية التفكيرلا  تجعل من الانسان مفكرّا، الا بعد ان يكون في وعيه وادراكه موضوعا او شيئا متعيّنا مفكّرا به، ولا يمكننا الحديث عن ادراك للذات بدون موضوع (آخر غير الانا المفكّرة) ووعي الانسان بذاته لا يتحقق من دون ارتباطه واقترانه بشيء مغاير لذاته. ولا يمكننا التأكد من حضورنا كذوات  مفكّرة وموجودة دون وجود الغير المتعّين بأي شكل او صيغة، اي دون احساسنا بالوجود الخارجي للاشياء. القائم بذاته خارج رغباتنا.وجود الذات هو في المغايرة مع وجود الآخر كمتعيّن حاضر في علاقة الارتباط بغيره.

وفي قول هوسرل – حسب الباحث- : (انا افكر...دون ان يذكر لنا ديكارت، في اي شيء كان يفكر، فالتفكير بغير شيء يتعلق به ضرب من الخيال) وهو تعقيب من الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود صحيح فلسفيا ومنطقيا، ثبتّه في معرض محاججته هوسرل.(ص35 كما مثبت في هامش الباحث / كتاب نافذة على فلسفة العصر). بمعنى ان مادة او موضوع التفكير يجب ادراكها حسيا والتفكير بها عقليا لا خياليا، الذي لا يخضع لا للحس ولا للمدركات العقلية.

لذا اجد ان مقولة ديكارت كما اطلقها وجرى تداولها فلسفيا اكثر مقبولية منطقية قبل اضافة هوسرل (انا افكر (في شيء مقصود)... اذن انا موجود) لان ما اراده ديكارت يعني ضمنا حاجة الفكر لمادة يفكّر بها، معزولة ومفصولة عنه وهو ما لايقّر به هوسرل فعنده الذات هي الموضوع في تلاحمهما واندماجهما. ومن الخطأ الفصل بينهما. ان في عدم حضور موضوع او شيء متعيّن مدرك حسّيا او عقلانيا امام الانسان المفكّر يعني استحالة الوعي الادراكي، وكذلك استحالة وانتفاء التفكيراو الحاجة له. وهذا ايضا يسقط اشتراط هوسرل انه لا وجود لموضوع او مادة خارج احاسيسنا بها وادراكنا لها. فمثلا هل من الصحيح ان ننكر وجود منضدة في غرفة لا نحس بوجودها نحن في مكان وزمان معينيين؟! وجود الشيء لا يحدده عدم الادراك به، فالطبيعة وكل ما يحيط بنا موجود بمعزل عن وعينا وادراكاتنا. وقوانين الطبيعة موجودة ولا تشتغل على وفق رغبات الانسان واهوائه. ولا يبطل وجود او فاعلية تلك القوانين لمجرد عدم معرفتنا وادراكنا لها.

ان في تأكيد هوسرل ان الذات المفكّرة لا تنفصل عن موضوعها،وان كل مالا ندركه ليس له وجود خطأ جوهري كبير. عدم انفصال الذات عن الموضوع كما يريده هوسرل يعني استحالة الوعي والاحساس بالاشياء، وبالتالي استحالة تفكيرية ايضا. الموضوع او الشيء المراد ادراكه والتفكير به يحتاج الى مسافة رصد ومعاينة من قبل الذات لتحقيق الوعي به ومن ثم التفكير به. وفي حال اندماج الذات

بالموضوع وتلاحمهما من غير مسافة رصد بينهما يكون في استحالة معرفة الشيء والتفكير به. الموضوع واقع استثارة للتفكير به،ولا تحمله الذات المفكّرة معها في الخيال وما يذهب له هوسرل في عبارته: (ان كل ذات مفكّرة او كل حالة تقصد شيئا ما، وان هذا الوعي يحمل في ذاته ذلك الشيء الذي يفكّر به.)  فهذا لا يمنحنا  التفكير في الشيء كوجود مستقل عنا،او حالة واقعية ايجابية لا تكرّس انتفاء الوعي بالمادة والمحيط وما يحتويه من مواضيع لا نهاية لها في تفكير الانسان، وتشكّل عند الانسان حيثيات استثارة العقل على التفكير. وفي اهمية فصل الذات الادراكية المفكرة عن موضوعها، هو الذي يمنح الذات حضورها وقابليتها على الادراك والوعي والتفكير.

ان الموضوع او الشيء يبقى استثارة واقعية لجدوى التفكير به، وفي قصدية الحاجة الى التفكير ومحاولة تفسير وفهم الاشياء.

وحتى بعد غياب الموضوع المفكّر به، او تغييبنا له كوجود واقعي يمثّل لنا استثارة واقعية للتفكير، واهمية مانفكر به ايضا، وان وجود الشيء خارج ادراك الحواس والعقل المفكّريعني حسب هوسرل لا وجود له ولا اهمية له ان يكون مادة او موضوعا مفكّرا به . غير صحيحة ابدا في محاكمتنا ان الاشياء لاتوجد حسب رغباتنا او اهمية الوعي بها وادراك او عدم ادراك الانسان لها، وهي موجودة بمعزل عنا وعن اهمية ادراكنا لها او الوعي والتفكير بها. فوجود الشيء باستقلالية عن الفكر لا يعني انتفاء وجوده كما يرغب هوسرل. وجود الشيء لا تحدده الرغبة الذاتية في اهميته من عدمها.

 وما يدركه انسان لا يشترط ادراكه من غيره . فمثلا اللون الاحمر يدركه البصير بينما لا يدركه المحروم من نعمة البصر، وفي كلا الحالتين فالاحمر موجود حتى لو لم يدركه الاثنان البصير والاعمى. فعدم ادراك الشيء لا يلغي وجوده المادي، والفكر لا يخلق وجود الاشياء بمجرد رغبة التفكير بها. ووجود الشيء يسبق اهمية الوعي به وادراكه. وان كل ما لا يدركه انسان لا يلغي عدم وجوده.

كل ما ذكرناه يؤكد اهمية فصل الذات عن الموضوع كي تكتسب فعالية التفكير واقعيتها واهميتها وضرورتها، وفي قول هوسرل التصاق الذات بالموضوع يعطي اهمية التفكير، منطق غير سليم ولا يؤخذ به. ان في تغييبنا استقلالية وجود الشيء عن التفكير به، لا يلغي وجوده ولا يلغي اهمية ووجوب التفكير به.

في غياب الذات لايغيب الموضوع كما في غياب الموضوع لا تغيب الذات، حتى لو جرى تغييب الموضوع قسرا واراديا، فأن تلازم الذات والموضوع لا تحدده الرغبة الذاتية العاقلة والمفكرّة في الاشياء. ونؤكد ان استقلالية الذات وادراكها لنفسها لا يتأتى من غير الوجود المستقل للموضوع، وفي ذلك فقط يكون التفكير بالاشياء ممكنا، وانه لا ذات مفكّرة او واعية بدون موضوع، والموضوع وجود ازلي قائم بذاته سواء تناوله تفكير الانسان ام لم يتناوله.

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم