قضايا

قراءة في مستقبل الاقتصاد السياسي للعراق

mudhir mohamadsalihيمثل السوق بشكل دقيق واسطة تمتاز عن اي من أشكال التنسيق الاقتصادي الاخرى، ذلك بتوفيره آصـرة اجتماعيـة مـلزمة للملكية الخاصة. فالسوق المتروك لنفسه يضل اعمى البصر اجتماعياً وبيئياً، وهـو ليس في وضـع يستطيع فيـه ان يهيئ السلع بوتيرة مناسبـة ليضعـها تحت التصرف العام. ولكي يستطيع السوق ان يفتـح بـذور وازهار فعاليته بإيجابية حقيقية فإنـه بـحاجة الـى انظمـة وضوابـط وعـقوبـات كفؤة ترسمـها الدولـة لفـرض الانضـباط تؤازرها قوانين أكثر فعاليـة لانتظام الكيان الاقتصادي وبناء اسعار عادلة ومستقرة.

من وحي تلك الأسطر التي جاء بها برنامج هامبورغ للحزب الاجتماعي الديمقراطي الالماني (SPD) للعام 2007 في أعلاه وجدنا من المناسب التصدي لمستقبل العلاقة بين الدولة والسوق في الاقتصاد العراقي والوقوف على طبيعة التحول من المركزية الريعية الى ديمقراطية السوق اذ مازالت الثروة النفطية هي المورد السيادي المالي الغالب الذي تصطف حوله قوة الدولة الاقتصادية والسياسية مركزياً، سواء في دور عوائد النفط في تركيب الناتج المحلي الإجمالي الذي لا يقل عن 45 – 55% من اجمالي الناتج المذكور أو في موارد الموازنة العامة الاتحادية التي تزيد على 90%.  لذلك وُسم النظام الاقتصادي في العراق (الذي مازال يحمل صفات الدولة الريعية وبميول وتوجهات اقتصاد السوق) بنظام: الدولة – السوق لكن دون تلازم حقيقي يذكر.  فالتحقق في طبيعة الامن الانساني (الذي لازم نظام الدولة – السوق) قد أعطى تعظيماً لدور الدولة في تشغيل وتوليد ما يسمى بالدولة الكبيرة.  إذ تعاظمت أعداد المشتغلين في الوظائف الحكومية خلال السنوات العشر الأخيرة بنحو 4 مرات في حين تزايدت المعاشات من أجور ورواتب بنحو 7 مرات وأصبح الدخل الحكومي مسؤولاً عن توفير العيش لقرابة 20 مليون انسان باستثناء المتقاعدين والرعاية الاجتماعية وعلى وفق نظام الإعالة في العراق.  بمعنى آخر، ان اربعة ملايين موظف أو أكثر أصبحوا مسؤولين على إعاشة خمسة افراد (موظف واحد لكل اسرة) ليصبح الأمن الإنساني مغطى مباشرةً بنسبة 60% من سكان العراق عدا (الرعاية الاجتماعية والمعاشات التقاعدية).  فتوزيع الدخل على منحنى لورنس في العراق يقدر بنحو 39% وهو أفضل من مجموعة كبيرة من البلدان ذات الأسواق الناشئة في آسيا وامريكا اللاتينية من حيث عدالة التوزيع.  وهكذا وُلدّ من نظام (الدولة – السوق) صمام أمان في الامن الإنساني، وهو نظام حصانة مجتمعية ذاتي يحمل الكثير من العدالة ولكن لا يمكن اعمامه كنظام لبناء الحياة الاقتصادية واستدامتها طالما ظل التشغيل مقتصراً على الوظائف الحكومية أو الارتباط بها (بغض النظر عن كونها منتجة أو غير منتجة) كسياسة لتوزيع الدخل الوطني الريعي عبر موازنات الدولة وتوفير فرص العمل الحكومية دون تعظيم الإنتاج الحقيقي وتنويع مصادر الدخل الوطني الاخرى في النشاط الخاص وجمود برامج تنمية قوية وفاعلة موجهه نحو استدامة اقتصاد السوق.

1- اجتماعيات الاقتصاد السياسي في العراق ومشكلاته

ثمة تضاد بين نشوء السلطة الريعية الشديدة المركزية وبين السوق الوطني المولد للطبقة الوسطى والموفر للأمن الإنساني ومواجهة الفقر.  وهما متغيران متضادان في رسم صياغة متسقة للنظام الاقتصادي للعراق.  فالسلطة المركزية الريعية لا تسمح بطبيعتها بولادة السوق المستقل مما يعني موت الطبقة الوسطى المستقلة بموت السوق او تدهوره.  وبناء على ذلك فالتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها صراعات الانظمة السابقة في إدارة الاقتصاد السياسي للعراق اقتصرت على طبقة وظيفية محدودة ومجموعات منتفعة مرتبطة بتلك الانظمة.  ومع تدهور الريع النفطي او عوائد النفط بسبب الحروب والصراعات الماضية انحدرت الطبقة الوظيفية، على سبيل المثال، الى صفوف الطبقة الفقيرة لتشكل الطبقة الفقيرة خلال العقد التسعيني قرابة 80% من سكان العراق.

وهكذا فإن الاشكالية المركزية في تركيبة النظام السياسي أدت الى ولادة إشكالية أكبر في عجزها في حماية الطبقة الوظيفية نفسها والتي تدهور أمنها الإنساني باهتزاز مقومات الأمن العام في البلاد.  ولم يستطيع النظام السابق، على سبيل المثال، من فصل رعايته لموظفيه الحكوميين عن مشكلاته الأمنية الواسعة ومن ثم فقدانه لنظام مستقر للرعاية الاجتماعية.  وعلى الرغم من تواجد رأسمالية الدولة والتي تقابلها اليوم رأسمالية مالية ليبرالية، ولاسيما بعد العام 2003، إلا ان سياسة التوظيف الحكومي الواسع كانت مصدة قوية لتوليد نظام مؤقت ذاتي وكبير للرعاية الاجتماعية.  فثمة تضاد مازال مستمراً بين نشوء السلطة الريعية المولدة للطبقة الوسطى الوظيفية والتي رافقها نظام رعاية وأمن اجتماعي وظيفي واسع النطاق، وبين تعطل السوق في توليد طبقة وسطى مكتملة مستقلة من خارج الحكومة تضمن النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام.  وبهذا فقد العراق جزءاً من بوصلته الاقتصادية الذي انتهت بموجبه كلتا الرأسماليتين (رأسمالية الدولة والرأسمالية المالية الليبرالية) متباعدتين دون ان يتوافر فكر انمائي موحد او رؤية مشتركة في ادارة التنمية وايجاد رابطة موحدة للأمن الانساني الا من خلال الوظائف العامة.  كما استمر النظام الاقتصادي بإيجاد معادلة غير مكتملة بين رأسمالية الدولة الريعية ونظام السوق الحر (كقوة ليبرالية خارج الحكومة) في وقت ظلت اجهزة الدولة تعامل الأخير كمقاول ومجهز وليس كشريك واضح في صنع المستقبل الاقتصادي وعلى وفق مبدأ توازن المصالح وصناعة شراكة تنموية حقيقية.

2- الرؤية المستقبلية

لم تظهر الآصرة الليبرالية – الريعية او الدولة – السوق وعلى مدى عقد من الزمن الا انموذجاً فريداً يقوي الاندماج في السوق الاستهلاكية العالمية او الذوبان بالعولمة الاستهلاكية وعلى وفق شروط التحول السياسي الديمقراطي نحو اقتصاد السوق.  ان تعظيم الانفاق غير المنتج لعوائد الثروة النفطية وضياع العوائد الريعية في نظام توزيعي – استهلاكي قد اسس لاقتصاد لا يقوى على الاستثمار والانتاج باستثناء موارد الثروة النفطية، ويقوي في نفس الوقت الاستهلاك الذي تغذيه اسواق العولمة وتؤازره وفرة نسبية من التراكمات المالية الادخارية وهي شبه معطلة وتتسرب في نهاية المطاف من ايدي القطاع الخاص الى معاقل مالية خارجية، وتدفع بها حالة اللايقين والتردد في اتخاذ القرار الاقتصادي الاستثماري المحلي او صناعته.  وبناء على ذلك، فقد اصبحت الديمقراطية السياسية – وتعظيم الاستهلاك وعلى وفق تدني فرص العمل المنتظمة المنتجة في نشاط السوق، عنوانا ً لفراغ التنمية وضياع مستقبل البلاد الاقتصادي كقوة منتجة خارج حدود ومحددات الريع النفطي.  وعلى الرغم من ذلك لا تنفي الديمقراطية السياسية نظاما ًاقتصاديا ً بديلا ً يحل محل الانفلات الليبرالي الاستهلاكي ويعظم من آصرة الدولة – السوق (الانتاجية) الاجتماعية.  إن شرط الضرورة الموضوعية في مثل ذلك التحول يقتضي ما يأتي:

اولاً: إجراء تحول ايديولوجي في بناء الاقتصاد السياسي للعراق من (دولة – السوق) الى (دولة – السوق / الاجتماعي) وهو مفهوم يتفوق على مفهوم الدولة – الامة نفسها.  فالمواطنة العراقية هي الأساس الموضوعي في تكوين الانتماء السياسي لمستقبل التنمية الاقتصادية المستدامة في العراق.

ثانيا ً: على الرغم من ان الانموذج الاقتصادي (للدولة – السوق الاجتماعي) يعكس تمثيلاً قوياً لرأسمالية الدولة، لكنه يمتلك قوة الشراكة بين الدولة والسوق او خلق الدولة التعاونية او التشاركية في بلادنا التي مازالت الدولة تهيمن فيها على موارد البلاد الطبيعية الرئيسية وعوائدها المدرة للدخل السريع.  فالتيارات المركنتالية الحديثة التي تؤمن بدور الدولة الاقتصادية الجديدة في العالم (وعلى خلاف المذهب الليبرالي الاستهلاكي) مازالت تؤكد، على سبيل المثال، اولوية رعاية الدولة الإشرافية او الرقابية او التشاركية على الجانب الانتاجي في العملية الاقتصادية.  فالاقتصاد السليم، في نظرهم، يتطلب وجود بنية انتاجية سليمة ترتكز على بنية تشغيل عالية لقوة العمل وبأجور كافية ورقابة او شراكة فاعلة للدولة.  فالتجارة، وعلى وفق المذهب المركنتالي الحديث، هي ليست استيرادات جاهزة تتدفق من اسواق العولمة، بل انه إنتاج شراكة يرفد اسواق العولمة بالمنتج الوطني العراقي - اي تنويع النشاط الانتاجي المشترك، أي الغالب.  ان التجارب الاقتصادية التي خطها الانموذج الاقتصادي الياباني او الكوري وحتى الصيني قد وضعت على اسس بديلة ادت الدولة فيها دور المشارك والملازم للإنتاج.  وبهذا جسدت التجربة الصناعية الاسيوية دور الدولة الماركنتالية الجديدة وهي الرأسمالية الاعظم انتاجا والاوسع ازدهارا كشريك للقطاع الخاص.  وعليه فقد اشارت الموازنة الاتحادية للعام 2017 في المادة (14) صراحةً الى الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص.

إن فلسفة الدولة الراهنة هي الشراكة اولاً ثم الخصخصة المضمونة بقطاع حماية الانسان ثانياً، وهما المسار الراهن والقادم للتحول نحو اقتصاد السوق.  فالاقتصاد العراقي في ظروفه الريعية الحالية، والسير في البرنامج الاصلاحي الذي أعلن في اب 2015 من جانب الحكومة العراقية، والمنهج الوزاري الحكومي في العام 2014، هو توجه يتماشى مع الدور الاقتصادي الجديد للدولة، ويسهل الشراكة والاندماج بين الدولة والنشاط الانتاجي الخاص.  اذ ان هنالك نص واضح وصريح جاء في المادة 14 من قانون الموازنة الاتحادية للعام 2017 وكذلك المادة 15 من القانون نفسه للعام 2016 يؤكدان مبدأ الشراكة الاستثمارية بين القطاع العام والقطاع الخاص، وعلى وفق ايديولوجية او منهجية اقتصادية تتخطى المنهج الليبرالي الاستهلاكي السائد (الذي اذا ما أستمر فسيسهم لا محاله في تصديع الجغرافية السياسية والاقتصادية للعراق) من خلال العمل الجاد على تبني ايديولوجيا النشاطات الخالقة للسوق ذات النمط المنتج المتمثل بإشاعة الشركات المساهمة او المساهمة المختلطة وتهيئة الانتقال الى نظام السوق / الاجتماعي الموحد كبديل للنظام الريعي - الليبرالي (المستهلك) الحالي والتخلص من اقتصاد سوق الظل (الاقتصاد غير الرسمي وغير المعرف امام الهيئات الضريبية) والذي مازال يهيمن على 70% من نشاط القطاع الخاص حالياً.

3- العراق 2030

إن تشييد نظام ديمقراطي للاقتصاد السياسي للعراق يقترب من مفهوم (الدولة - السوق / الاجتماعية) والذي أشار اليه مشروع خطة التنمية الوطنية للأعوام (2018 – 2022) سيقود لامحالة الى ولادة الظروف الموضوعية في بلوغ غايات نظام السوق الاجتماعي بأركانه الثلاثة: الاول، خلق السوق: اي توليد انماط من الملكية المؤسسية التي تقوم على نظام الشركات وتسهيل تسجيلها واجازتها عبر تبسيط الاجراءات كسياسة عامة تتجه نحو تحسين مناخ الاعمال. والثاني، تمويل السوق: عبر توجيه موارد الريع النفطي وتحويلها الى طاقات اقراضية ميسرة لقوى السوق المنتج (صناديق الاقراض الممولة من المورد السيادي ومثال ذلك برنامج اقراض 5 ترليونات دينار الى القطاع الخاص من البنك المركزي العراقي).  والاخير، حماية السوق: بصندوق التقاعد الوطني الموحد للدولة والقطاع الخاص. وهكذا ستتولى الدولة ضمان وحماية التنافسية ومنع الاحتكار واشاعة دولة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال إشاعة كفاءة الانتاج وعدالة توزيع الدخول والثروات وهي البنية الفلسفية التي تؤازر ديمومة السوق / الاجتماعي.  وهذا ما نعمل علية في بناء الاقتصاد الوطني المتنوع وعلى وفق استراتيجية تطوير القطاع الخاص حتى العام 2030.

 

د. مظهر محمد صالح

المستشار المالي والاقتصادي لرئيس الوزراء العراقي

...............

(**) تلامس هذه الورقة ملامح السياسة الاقتصادية للعراق ومستقبلها المرتبط بالقيم والمثل الاصلاحية التي اعلنتها الحكومة العراقية في وثيقة الاصلاح الصادرة بتاريخ 9/ اب /2015 وتمثل انعكاساً صادقاً لتوجهات الحكومة العراقية في بناء اقتصاد وطني متنوع ومزدهر.

 

 

في المثقف اليوم