قضايا

تلفزة العقل بين ذاكرة فائتة وآفة نابتة

akeel alabodاخترت مقطعا واحدا من مقاطع هذه العلاقة، لتبيان دور الاعلام في التأثير السايكولوجي؛ اي علاقة النفس، بالسلوك.، ومنه كلمة سايكو- لوجي، logy, علم، وسايكو نفس، وهذا السايكولوجي، يساوي السلوك الخاص بالبيئة، الذي هي علم الايكولوجي ecology، يعني  environmental behaviour،

والسلوك نوعان؛ ظاهر اي معلن، وباطن مضمر، غير معلن. والتأثير التلفازي ينشأ عنه هذين السلوكين.

ومربط الفرس ان العراق ايام سلطة الطاغية، كان العرض التلفازي فيه، عبارة عن  اجتماعات القيادات، ومجلس الوزراء، ومسميات من هذا القبيل، والفضائيات كانت تمتلكها حكومة واحدة، وليست حكومات، وهذه الحكومة تشرف، وتسيطر، وتدير برامجها بشكل مركز، وكان عدد الفضائيات آنذاك لا يتجاوز الثلاث، من ضمنها فضائية بابل.

المهم والهدف هو ان هذا الانسان يتم ترويضه، وإخضاعه،  لبرامج التلفاز، وصولا الى ما تبتغيه مصالح الجهة المعنية، ما اسميه تلفزة العقل، اي اعادة التركيبة الخاصة بهذا العقل.

المهم من كل هذا، ان هنالك قضيتين أساسيتين في الاعلام، احببت الإشارة إليهما، سيما ونحن في زمن يختلط الحابل فيه، بالنابل.

والقضيتان بحسب الاولوية هما: الاولى  دخول ناس غير متخصصين بالإعلام، وغير متخصصين بالسياسة ، ولا بالثقافة، ولا حتى بالذوق الفني والاخلاقي، اي دخول أكمام من وجودات غير مهنية في هذا الباب، ولهذا، نجد ان هنالك هبوطا للمستوى الحقيقي، ليس للثقافة الإعلامية فحسب، بل للعقل، والذائقة ايضا.

اما القضية الثانية، فهي عبارة عن اشراك الفضائيات هذه الايام في صراعات الكتل، وبرامجها، بمعنى ان إدارة البرامج معنية بتسويق هذا النمط من الاعلام.

والمفارقة انه لو تمت المقارنة بين دور تلفاز ذاك الزمان، ودوره في هذا الزمان، لوجدنا، انه هنالك اختلافا جوهريا؛ فنيا، واكاديميا، واخلاقيا، له علاقة بذات الموضوع، حتى نبرة المذيع كانت فنية مؤثرة، وفيها التزام لحب المهنة، أتذكرها بغض النظر عن كونها نبرة بعثية، كما يقول صاحبي، لكنها مهنية، فيها فن، وفيها مهارة، ووقار. 

اما البرامج فأتذكر منها، برنامج العلم للجميع، لكامل الدباغ، والرياضة في أسبوع، لمؤيد البدري، وعدسة الفن، لخيرية حبيب، والسينما والنَّاس، لاعتقال علي الطائي، والسلامة العامة في موضوع المرور، ومثلها المسرحيات، والمسلسلات، كالذئب وعيون المدينة، والنسر وعيون المدينة، ومسرحية الدبخانة، والخيط والعصفور.

لذلك حركة المسرح كانت هادفة، مشغولة بهم، اسمه الانسان، ومثلها حركة السينما، حيث أفلام النخلة والجيران، والمنعطف، والظامئون.

اما على صعيد السينما والمسرح، فسينما بابل مثلا،  كانت مخصصة لمهرجانات العرض العالمي، والعربي، أسبوع الفلم الكويتي أتذكره بس يا بحر، لخالد الصديق، كان واحدا من هذه العروض.

لقد بقيت الذائقة القديمة، التي فات اوانها، بما فيها كتاب القصة، والرواية، وبصمات الفن المعماري،  والمدرسة المستنصرية، والمتحف البغدادي، والقصور الاثرية، والحدائق، وبقيت المقامات ايضا في الذاكرة، ناظم الغزالي، ومحمد القبانجي، ومثلها الشعر، والقصائد.

كنّا نحفظ ما يقوله النواب، ونردد تلك الكلمات بلذة واعية، وبسبب الخوف من السلطات الأمنية، صرنا نحفظ قصائد القباني، حيث أتذكرها قصيدته بلقيس التي قال فيها" بيروت تبحث كل يوم عن ضحية- حيث الكتابة رحلة بين الشظية والشظية"، وهذه الأبيات كنّا نرددها للتورية بدلا من: " يبني يوليدي البراءة تظل مدى الأيام عفنة" للنواب. 

الملخص، صحيح ان السياسة البعثية كانت ظالمة، لكن الفن التلفازي، اقصد الإعلامي، لم يفقد هويته التي تأسس من اجلها، بوجود كبار المبدعين، الذين فرضوا أنفسهم على الساحة الفنية، والثقافية، والاخلاقية، فرضوا قدسية وعرش المنبر الحقيقي للفن على ذات السلطة، في تلك الفترة، رغم إغلاق أكاديمية الفنون الجميلة، ومعهد الفنون الجميلة وتخصيص القبول فيها للبعثيين بعد منتصف سبعينيات القرن المنصرم.

الاساس، بقيت ناهدة الرماح التي فقدت بصرها على المسرح ذات يوم، ليتم إرسالها للعلاج الى لندن، ذلك إبان حقبة كان البكر فيها رئيسا، وبقي خليل شوقي، وبقيت شذى سالم، وطه سالم، وبقي قاسم محمد، وغيرهم بقوا في الذاكرة بارشيفها الستيني، والسبعيني-عبوسي الدكتور حمودي الحارثي، وقصة تحت موس الحلاق، كلهم، كما غيرهم من المبدعين، أناروا الطريق بأدائهم الهادف.

اليوم بعد ان تدنى مستوى العقل، والاداء الفني، الشارع

 لم يعد هاويا للثقافة الحقيقية، ولم تعد لغة الخيال، والتراث والمقام كما كانت ايام زمان.

لذلك من الضروري الاشارة الى ان التلفزة، ولا اقصد فيها فقط موضوع التلفاز، انما ما اريد قوله، هو كيف ان السلطة الإعلامية للحكومة الحالية، أجهزت على العقل لاصطياده، بغية تسويق التضليل الخاص بسياسة الدولة، بما فيها وزارة الثقافة والإعلام الحالية التي لها الدور الكبير في تقزيم قدسية البناء المعرفي والاخلاقي للعقل الانساني. 

لاحظ حتى موضوع المول في بغداد، هذا الذي يعدونه بعد ان أجهضت السرقات، والاستثمارات المشبوهة ميزانية العراق، لا يدل على تطور، انما هو تدهور حقيقي، باعتبار ان هنالك فقدان لهوية الموازنة، ما يدل على عدم أهلية المعنيين في وزارة التخطيط.

فبناء مستشفى متطور، وجامعات متطورة، ومصانع تستوعب البطالة للعمل، ومساحة تلفازية يشرف عليها متخصصون في حقل بناء ثقافة العقل الإنساني، اهم من هذا المول "اللي مخبوصين بيه"، واهم من أكوام الثقافات التافهة، بما فيها هذه التي يسمونها حمام رياضة.

 نحن الان لسنا بصدد هذه التمارين الركيكة، والبرامج  الفارغة لفضائيات العصر الهزيل، نحن بحاجة الى بحسب ما قيل ذات يوم " أعطني خبزا ومسرحا، اعطيك شعبا مثقفا" 

 

عقيل العبود/ ساندياكو

 

 

في المثقف اليوم