قضايا
تعقيب على مقالة للسيد (فهيم عيسى السليم)
نشر السيد فهيم عيسى السليم في صحيفة (المثقف) الغراء في العدد 4033 والمصادف: الأربعاء 20-09- 2017 مقالا بعنوان (قوالب اللغة العراقية المحكية - ظروف وروابط الكلام في اللغة العراقية).
ولست هنا بصدد مناقشة ما ورد في مقاله بالتفصيل؛ ومن الوجهة العلمية اللغوية البحت ؛ وذلك لأن ما ذكره كان حديثا عموميا لا يحتمل أثقال العربية او أخواتها اللغات الجزرية (السامية). ومع ذلك؛ فقد كنت اود لو أن السيد (فهيم) اولى عناية كافية بالمنهج العام للمقالات الثقافية ولا اقول بالبحوث العلمية في اللغة لكي يوفر على القارئ الكريم الجهد والوقت؛ فضلا عن متعة القراءة. فما ورد في حديثه من الفاظ وتفسيرات كان بمسيس الحاجة الى التأسيس والحبك والتنظيم والوضوح. وكان كحاطب ليل يتنقل من لفظ الى آخر دون أن يستوفي متطلباته العلمية واللغوية. ومعلوم ان التصدي لمسألة شائكة كاللغات العامية وفي مقدمتها اللغة العامية (البغدادية) يتطلب الإمساك بناصية اللغة العربية الفصحى وقواعدها وإلمام كاف باللغات الجزرية وقاعدة رصينة في علوم اللغة العصرية كالمصطلح والدلالة والأصوات وسواها. وهنا سأذكر عددا من الملاحظات العابرة وأترك لآخرين من المختصين ان يتولوا مناقشة ما ورد في كلمته بالتفصيل:
1. جاء في العنوان عبارة (اللغة العراقية) علما بأنه لا توجد مثل هذه اللغة؛ وإنما هناك لغات عامية كثيرة في العراق. وأهمها واوسعها (اللغة العامية البغدادية). فلكل بلدة او محافظة لغتها الخاصة بها. بل وهناك لكل محلة لغتها المتميزة وإن كان في إطار المنطق والتلفظ. فلغة (باب الشيخ) لها نكهتها خاصة. وكذلك لغة (الأعظمية).... وهكذا.
2. من ابرز تجاوزات الكاتب الفاضل تجاهله اللغة العربية كمرجع أول وأساس بإعتبارها اللغة الأم للعامية البغدادية. وما اللغات الجزرية الأخرى سوى مقرضات وحسب. كما تجاهل المراجع الأساسية للعاميات فحصر مصادره في مرجع واحد تقريبا وهو قاموس في اللغة المندائية مما يعطي الإنطباع بأن اللغة (العراقية) المحكية أصلها آرامي مندائي. وهو لون من الإنحياز (الأثني) المصطنع. وأسبابه قد لا تخفى. ويعلم المختصون بأن (العامية البغدادية) عقلها وقلبها عربي. وقد تأثرت وأخذت عن السومرية والأكدية وأخيرا عن ألآرامية وإبنتها السريانية وبنفس هذا التسلسل التأريخي؛ فضلا عن اللغات الأعجمية. اما التباري في اولويات أصول تلك اللغات في صنع العاميات فلا طائل من ورائه البتة. والمتفق عليه لغويا وآثاريا بأن اللغات الجزرية او السامية تعود كلها الى أصل واحد؛ إذ اتفقوا على تسميته باللغة السامية الأولية او ألأولى (بروتو سيميتك). وأرى بان اللغة العربية من أكثرها تطورا وتعقيدا بدليل رفعة نحوها وصرفها وسعة معجمها وعدد حروفها ومعانيها وبيانها مقارنة بأخواتها الساميات.
3. خلط المقال بين صوت (إشْ) في عبارة (إشْراح تْسوي) وعبارتي (شخْبطْ) و( شرْبكْ). فبينما كانت في الأولى من (أيُّ شئٍ) بينما هي في الفعلين ألأخريين (حرف اصيل).
4. قال في تأصيل الفعل العامي المركب تركيبا مزجيا ( شَعْفرْ) انه من الفعل (عَفر). وهو تخريج غريب. إذ لاصلة في المعنى بين (عفر) اي (مرَّغ في التراب) واللفظة العامية بمعنى (ذو حافة فيها نتوآت او أشواك او شعَر). والفعل العامي المذكور صنع من الإسمين (شَعْر) وهو معروف و(شِفْر) اي (حافة). فيكون المعنى الجديد (حافة فيها شعر). ويعد هذا العمل من أجمل إبداعات البغدادي في إرتجال أفعاله الجديدة وذلك من خلال مزج عدد من الأفعال الفصيحة للحصول على فعل واحد يضم جميع المعاني والدلالات في الفعلين لمذكورين. وهناك العشرات من أمثال تلك الأفعال المبتكرة منها (طشّ وطشَّرْ وطشرگْ) مع أساليب صنعها. وهي منشورة في معجمات اللغة العامية البغدادية. وبإمكان السيد الكاتب الحصول عليها من خلال الشبكة العنكبوتية (الإنترنيت).
5. (أكو) بمعنى يوجد. وهو من الأسماء الفارقة للعامية البغدادية. من عباراتهم الشهيرة: (شكو ماكو؟). فقد مر عليها الكتاب مرورا سريعا. فقال إن اصلها مندائي. لكنها وردت قبلا في قاموس (هالوران) السومري بلفظة (أكا) بمعنى عمل وفعل. بينما ذكرها معجم (باترك رايان) السومري بلفظة (كو) بمعنى موجود. ثم إنتقلت الى الأكدية بلفظة (أياكانا) بمعنى (هنا). وفي العربية هناك الفعل (كانَ) المعروف بمعنى وجدَ. وهذا دليل على الأصل المشترك لجميع اللغات الجزرية. من هذا يتبين بأن حصر تلك اللفظة العراقية بالمندائية تعسف لا مبرر له. علما بأن السومرية الجنوبية اقدم من الآرامية الشمالية بأشواط.
6. ذكر لفظتي (قارِشْ وارِش) دون تأصيل. علما بأنهما من التركية بمعنى إضطراب وصخب وفوضى.
7. (گاعِدْ). إصطادها من أعالي السماء وهي الى جنبه في الأرض. فقد قال: هي من ألأكدية (كا - أدْ) وتناسى الفعل (قَعَدَ) الذي افاضت في شرح معانيه أُمات المعاجم العربية. يقال: (تقعَّدَ) اي قام على الأمر. وفي العامية يقال( تِگعَّد) أي إلتزم. و(قعدتُ الرجل) خدمته. إذا فمعنى المصطلح يدل عل إستمرار الفعل: (گاعد آكلْ).
8. قال عن (ها) بمعنى (نعم). لكننا لم نسمع بذلك. وهي في الفصحى حرف للتنبيه والتوكيد : (ها..شكو جاىْ)..!؟.
9. ترك الكاتب كثيرا من الألفاظ سائبة ودون تأصيل وهي سهلة وبسيطة. منها (هْواية) اي كثير. علما بأن اصلها الفصيح (واجِدْ) وبنفس المعنى. وأبناء الجنوب يقولون (وايدْ)؛ بقلب (الجيم) (دالا). وهو مالوف في العربية.
10. ذكر لفظة (يَمَّكْ) بمعنى (بقرب) و (في صف واحد) وقال إنها من الآرامية؛ ودونه الفعل العربي ( أمَّ) بمعنى قصد. والإسم منه (الأمّ) وهو القصد. و(الإمام): خشبة البنّاء الذي يضعها بحذاء او بقرب البناء لتسويته وتعديله.
11. (ييزي) قال فيها (يكفي) دون تأصيل. وهي من الفعل الفصيح (يجزي). والعامة يسعون الى تيسير النطق وإختيار الجرس الموسيقي الجميل وذلك من خلال حذف الأحرف او إبدالها او إدغامها. ومن هنا إنبثقت روعة العامية وجمالها.
إلى هنا سأكتفي في الرد؛ بالرغم من وجود ما يستدعي ذلك. وأملي ان يسعى الكتاب الأفاضل الى الإقتصاد في معالجة موضوعات مهمة وحساسة إن لم تضف جديدا الى ما سبق عمله او لم تصحح غلطا فيما نشر. ومع ذلك نقول: في الحركة بركة.
د. مجيد القيسي - كاتب أكاديمي من العراق
................
للاطلاع
قوالب اللغة العراقية المحكيّة (9): ظروف وروابط الكلام في اللغة العراقية