قضايا

الحسين بين التقية والرزية

ali almirhig

التقية عند الشيعة مبدأ أساسي في تحاشي الظلم والقهر وفقاً لنص الآية " إلّا أن تتقوا منهم تُقاة" (آل عمران/٢٨)، وذكر الكافي حديث النبي "التقية ديني ودين آبائي"، وقد عمل الإمام الحسين بالتقية قبل مقاتلته ليزيد، ولكنه ترك لزومها حينما إغتر معاوية وأصر على بيعة إبنه يزيد الذي عُرف بفسقه وفجوره، ولم يُحار إلا بعد تهديده بإنزال كل بلاء به وبأهليه إن لم يُبايع يزيداً، وذلك ما لم يقبل به الحسين بقوله "مثلي لا يُبايع مثله، وهنا بدأ التحدي، فإما السِلة أو الذلة و "هيهات منا الذلة"، أي إما أن يستل السيف يزيداً ويُهدد هو ومتملقيه ليُحاربوا الحسين ومن معه من مُحبيه بإخافتهم أو تلويحهم لمناصري الحسين ووعدهم بالتقتيل والتمثيل بأجسادهم، أو أن يستل الحسين سيفه ويُحارب الظلم، أو يقبل الحسين بشروط يزيد بالرضوخ لحاكم جائر مثله، فيكون خيار الحسين: إما المبايعة أو الهروب أو الشهادة، والأحرار لا ينهارون ولا يُبايعون جلاداً، والهروب ليس من شيم الفرسان ولا يليق بهم، فإختار الحسين وأصحابه "الشهادة"، بقوله: "إن نؤثر طاعة اللئام على طاعة الكرام"، فهذا يعني وقوفنا في صف الحكم الظالم، وهذا ما لا يرتضي به إنسان حُر، فوقف الإيمان كله مواجهاً للكفر كله، وهل في موالاة الكافرين والظالمين من تقية؟، وإن جازت لسلامة النفس، فلا تجوز حينما يكون الخطر أكبر وأعم، لذلك أجد أن تضحية الحُسين حتى وإن فسرها البعض بأنها تحمل في طياتها طموحاً شخصياً للحُسين في توليه أمر الأمة، إلا أن هذا لا ينفي أن الحُسين كان إماماً عادلاً كما تشهد بذلك كتب السنة والشيعة، ويزيد كان خليفةً ظالماً، وفي أقل الأحوال مشكوك بعدله وإستقامته، وهنا يكون الأمر طبيعياً ألّا يرتضي مُحباً للعدل والمشهود بإستقامته وطيب أصله والمعروف بشجاعته أن يستجيب لمن هو مشهور بفجوره وظلمه وبخسة أصله، هذا إذا أردنا أن نتعامل مع قضية الحُسين ببعدها البشري الطبيعي لا الإلهامي الإلهي وفق منطق "القضاء والقدر" الذي إقتضت فيه الإرادة الإلهية أن يكون الحُسين شهيد الإسلام وشاهده على رفضه للظلم والإذلال، وهذا يعني أن خروجه ومقتله أمر إلهي محتوم لا يخضع للوازم التقية في بعدها الفرداني، حينما يروم مؤمن ما خلاص نفسه أو أحد ذويه، مثل هذا عمار بن ياسر، وهذا لا ينطبق على الحسين وفق التفسير الطبيعي للتحدي البشري لإنسان عادل لحاكم ظالم لأنه لا يُمثل نفسه ولا ذويه، كونه قد جعل من دعوته مثالاً لمواجهة الظلم في التضحية بروحه وأرواح أهله وذويه وبكل ما يملك لأنه كان يرى في رفضه وموته علامة فارقة في الما قبل والما بعد، فما قبل الحُسين كانت الأمة قد إستكانت وأُهانت، فلم يخرج الحسين أشراً ولا بطراً، حسب قوله: "وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أُريد الأمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر".

ولم يكن دور المرأة في الثورة الحسينية خفياً أو مُستتراً، وهذا الدور مثلته زينب بقوة وحزم ومواجهة للقهر لا مثيل له، في تفاعلها وتبنيها الثوري أو في تتبعها ومتابعتها لآله وذويه بعد إستشهاده. أو في موجهتها ليزيد "خليفة المسلمين"!، ومخاطبتها له بكل جرأة:"يابن الطُلقاء" في إشارة منها وترميز أنه لم يعرف الإسلام يوم لا هو ولا ذويه الذي منحهم محمد حرية لم ولن يحلم بها مُنهزم خسيس مثل أبو سفيان وولده معاوية وأمه هند آكلة لحوم البشر جدة يزيد، إما لرحمة من محمد أو لنزوع براجماتي من النبي إقتضته المصلحة العامة وربما الإرادة الإلهية!!.

ولم يغب دور الشباب وجرأته في الملحمة الحسينية، فهذا زين العابدين رغم سقمه يواجه يزيداً ويُحرجه في مجلسه تأكيده على أن آل بيت الرسول لم تكمن أهميتهم بأن النبي المختار منهم، ومنهم الوصي، إنما هم من إختصهم الله بالعلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة.

إن الإصلاح بعد ثورة الحسين لم يجني ثماره في اللحظة نفسها، فمنه ما حصل معها ومنه ما جنى ثماره بعض من مناصريه بعدها مباشرة، ومنه مما جاء بعدها، مثل الإنتقام من قتلته، وإتساع عدد المعارضين للإستبداد والفساد، ومنه ما جاء بعده، وأخيرا نرتجي فيه ومنه تأثير وأثر في المستقبل، وفي يومنا هذا وما بقي من أيام الدهر، لنقضي على كل حاكم وسلطان وبرلماني فاسد أشر.

كان لإستشهاد الحسين، أثر وتأثير لقولة "اللا" في وجه حاكم جائر، لأن لها معنى وقيمة وجدوى وأثر ليس بالقليل. لأن ما ميز الحسين في ثورته أنه لم يكن يبحث عن مال أو جاه، فهما في متناول يده متى ما رامهما وجد، لا في ممالأته للسلطة، إنما كانت خزائن محبيه طوع أمره، وإن رغب بهما حصل منهما ما يزيد عن حاجته لسنين، ولكنه أبى على نفسه أن يكون "الدعي إبن الدعي" ولي أمر هذه الأمة، وكم من دعي إبن دعي قد تولى أمر هذه الأمة بعد ثورة الحسين إلى يومنا هذا.

وإن كان في مقتل الحسين "رزية" أو مصيبة تتكرر ذكراها رغم مرور أكثر من ١٤٠٠ عام، إلا أنها بقيت علامة فارقة على إمكانية التحدي والرفض و "إنتصار الدم على السيف"، فلم يكن من من أهداف الثورة الحسينية تحقيق النصر في التو واللحظة، وإن كان هذا من آمال الحُسينين وطموحاتهم، لكن هدفها الأهم الكامن في وقته والبائن اليوم هو أن الإرادة القوية والواعية للجماهير بإستطاعتها مواجهة الإستبداد وقهره.

حتى وإن كان هناك كثير من الشيعة قد جعلوا من هذه "الرزية" مناسبة للإستذكار واللطم والتطبير والعويل، وهناك كثير نقد للتشيع بطابعه الطقوسي، إلّا أنني أرى أن من يُنكر على الحسين وثورته وصدقها في النزوع نحو الإصلاح إنما هو مُنكرٌ مُعاند، وإن أفرغها شيعة السلطة ودعاة التدين الشعبي والطقوسي من أهم مقاصدها ومراميها إلا إنها لم تفقد بريقها إلى يومنا هذا عند دعاة الإصلاح والتغيير في جعلها وتصييرها أداة، بل معولاً للحرث والقلب والتغير لصناعة أمة ناهضة تُحارب الظلم وفساد العباد من المدعين وكل قائد أو قواد، جعل من قضية الحسين وإستشهاده سُلماً لإرتقاء المناصب والجلوس على كرسي يزيد متباكياً على الحُسين، كما تباكى يزيد على الحسين من قبل، وكأنه لم يكن الآمر الناهي بقتل الحسين وطمر سلالة الحق وبناته، واليوم تُعد "الرزية" ولكنها ليست رزية الحسين وأهله، إنما هي رزية مُتبعيه الصادقين المصدقين به وصراعهم مع من حملوا شعار الحسين تدليساً، ليُزيدوا رزية محبيه والسائرون على دربه ممن هم حُسينيون فعلاً لا قولاً وإن كانوا ليسوا بمسلمين، فالحسين ملك لكل الثائرين الذي يرومون الحق والعدل ومحاربة الفساد والفُساد من المُدّعين.

 

 

 

 

في المثقف اليوم