قضايا

اليسار واليمين والطريق الثالث

ali almirhigجماعة اليسار أو دُعاة الإشتراكية تبنوا فكرة هيمنة الدولة على جميع المؤسسات الإنتاجية، ودعت إلى المساواة الإقتصادية. بينما دعى أصحاب اليمين من الليبراليين إلى "الحرية الفردية" وفتح الأفق أمام العقل الإنساني ليُنتج وليُغير مسارات الحياة على قاعدة "دعه يعمل دعه يمر"، وهذه المقولة فيها إمعان وتأكيد على الفروق الفردية بين بني البشر، بتعارض مقولتي المساواة والحرية.

في حضم هذا الصراع طرح إنطوني جيدنز في كتابه: "الطريق الثالث" معالجته للصراع الدائر بين دُعاة اليسار ودُعاة اليمين، في رؤية تحمل في طياتها جذور الإشتراكية والليبرالية، بما سماه "الديمقراطية الإجتماعية" بوصفها "الطريق الثالث" الذي يُمثل رديفاً للوسط الذهبي عند أرسطو كونه "وسطاً بين رذيلتين كلاهما إفراط وتفريط"، ففي الإشتراكية تفريط بالفردية وبرغبة الإنسان الفطرية والغريزية في تحقيق التميز والفرادة الذاتية على منافسيه من بني البشر. كما في الرأسمالية في طابعها الفرداني تغييب لنزعة الفرد الإجتماعية، لأن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه كما يقول أرسطو.

فلم يكن أمام "جيدنز" غير البحث عن "الطريق الثالث" الذي يحسم الصراع فيه لا لصالح أصحاب تغييب الفرد لصالح الجماعة كما يفعل الإشتراكيون، ولا لصالح تغييب الجماعة لصالح الفرد كما يفعل الليبراليون الرأسماليون.، في محاولة منه لتجاوز التقسيم التقليدي للفكر والمجتمع في أن يكون يسارياً أو ليبرالياً.

طرح "جيدنز" مفهوم "الديمقراطية الاجتماعية" في محاولة منه لضبط وإعادة تحديد للحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة أو بين الجماعة والفرد، وهذه الحقوق والواجبات تتمحور حول إدراك الجميع لمفهوم "المسؤولية" الذي شكل أُس الفلسفة الوجودية بطابعها الهيدجري والسارتري، فالفرد مسؤول عن إختياره وهو حر فيما يختار، ولكن في إختياره دعوة للتمثل والسير وفقاً لإختيار هذا، لذلك تكون حرية الفرد مُقيدة ولا إفراط فيها لأنها تتبع وعي الفرد بدوره في المجتمع وبالمسؤولية المُلقاة على عاتقه.

ولم يكن "جيدنز" ببعيد عن هذه الرؤية رغم ما عُرِف عن الوجودية من نزوع فرداني، إلا أننا نجد في إطروحاته بعض أو كثير من رؤى الفلاسفة الوجوديين.

ولم يكن تأثير الفوضويين الإشتراكيين غائباً فيما طرحه "جيدنز" حول مسؤولية الحكومات تجاه بناء الدولة والحرص على حماية الضعفاء وضياع حقوقهم في خضم نزوع الإغنياء للملمة بقايا "فائض القيمة" الذي جمعه الرأسماليون من كد الكادحين و "أولاد الخايبة"، وكان لنا في العراق تبني له عند "جماعة الأهالي" ممثلة بعبد الفتاح إبراهيم ومحمد حديد وكامل الجادرجي وجعفر أبو التمن رغم نزوعه الديني في تبنيهم لل "الديمقراطية الشعبية" المُستقاة من ديمقراطية "حزب العمال" البريطاني الذي تأسس وفقاً لآراء "الفابيين" المتمثلة بأطروحات سان سيمون و برنارد شو.

لذلك يطرح "جيدنز" أسساً للديمقراطية الاجتماعية، بما سماه "قيم الطريق الثالث" وأهمها:

- المساواة.

- حماية الضعيف.

- الحرية كإستقلالية.

- لا حقوق من دون مسؤليات.

- لا سلطة من دون ديمقراطية.

- التعددية الكوزموبوليتانية.

- المحافظة كفلسفة.

وكأن "جيدنز" يُعيد إنتاج رؤية محمد باقر الصدر في كتابيه: "فلسفتنا" و "إقتصادنا" على ما فيما بينهما من تباين وإفتراق، فلجيدنز "مسطرته" وإن تكن لا تحمل في طياتها رؤية عقائدية أو تبنٍ آيديولوجي، بينما نجد رؤية محمد باقر الصدر مُتبناه الآيديولوجي والعقائدي لل "الطريق الثالث" أو للديمقراطية الاجتماعية" وبعيداً عن "مِسطرة" كلٍ منهما: مسطرة "جيدنز" المعرفية، أو مسطرة محمد باقر الصدر العقائدية المتضمنة نزوعه نحو الأسلمة، إلّا أننا لا نرى كثير إختلاف أو تباين بين مُتبنيات "جيدنز" و "الصدر" ولا نرى تناقضاً بيناً بين مقولات "جيدنز" ومقولات "الماركسيين الفوضويين" مثل: "سان سيمون" و "برناردشو"، على الرغم من تباين توجهاتهم العقائدية والآيديولوجية.

لنخلص للقول أن كثيرأً من رؤى العقائديين في بعض تلاقيٍ، وربما كثير من نقاط التلاقي، وإن بدى لنا في قراءة مُتسرة ألّا تلاقيا بينهم، لأننا خضعنا لوهم الآيديولوجيا، ولم نصبر قليلاً لنكشف عن "المسكوت عنه" في مقولات المعتدلين من الآيديولوجيات التي تبدو لنا في ظاهر أقوال مُعتنيقها التباين والتناقض، ولكننا ب "صبر جميل" قد نصل للمشترك النوعي لما لم يبتغي المتصارعون قبولاً له في التضاد الكمي.

فبرنامج "الطريق الثالث" هو "الوسطية الراديكالية" الذي يقتضي ديمقراطية من دون أعداء، تتحقق بمساعدة مجتمع مدني فعال، يتبنى الدفاع عن إقتصاد مختلط جديد بوسائل تُيتحها الديمقراطية وتسمح بها، ديمقراطية همها الأول والأخير أن تكون سياستها المساواة كإحتواء في ظل دولة إستثمارية لا تغييب فيها ومعالجة للفوارق الاجتماعية لتكون أمة كونية، تعيش ديمقراطية كونية من نوع خاص تختلف عن الديمقراطية الإشتراكية ببعدها الجمعي ولا تلتقي مع الديمقراطي ببعدها الفردي أو الفرداني.

 

 

في المثقف اليوم