قضايا

استلاب الإنسان في النزعة الاستهلاكية المعاصرة

alhusan akhdoush2قدم الفيلسوف إريك فروم قراءة فلسفية للنزوع الاستهلاكي لدى الإنسان المعاصر، هي بمثابة مساءلة نقدية جديرة بالتأمل؛ حيث اعترض فيها بشدّة على الأنموذج المعاصر للاستهلاك، معتبرا إياه سببا مباشرا في "الاغتراب" الكبير الذي وقع فيه إنسان العصر الاستهلاكي الحالي «Homo consumens». ففي معرض هذه القراءة النقدية، كشف هذا المفكّر الناقد (وذلك في كتابه: الإنسان بين الجوهر والمظهر)عمّا يتوجب علينا فعله حاليا لتوجيه الإنتاج الصناعي والاقتصادي في اتجّاه نوع جديد من الاستهلاك الرشيد القائم على الخفة والرشاقة والعفة. كيف ذلك؟

اقترح إريك فروم بخصوص هذا الترشيد، أن تتولى الدولة توجيه الناس نحو طريقة راشدة في الاستهلاك عبر التربية والتعليم، لأن تغيير أنماط الناس وعوائدهم في الإنتاج والاستهلاك لا يتم بمجرد تشريع قانون أو مرسوم لحث الناس على شيء ما؛ بل يتأتى أساسا من خلال عمل تأهيلي تربوي طويل الأمد يسمح لهؤلاء باستبدال أساليبهم وأنماط عيشهم وفق أنموذج رشيد للاستهلاك يقوم على معايير صحية وإنسانية حقيقية. غير أنّه لتحقيق ذلك، يتعين على حكومات بلدان العالم أن تحدّد بوضوح معايير الاستهلاك الرشيد في مقابل الاستهلاك المرضي والاعتباطي السائد. وكمثال على ذلك، يقدم "فروم" نموذج تحديد ما هو ملائم لدعم قوى الحياة وتمييزه عمّا هو مدمّر لها عبر أبحاث العلماء وتوجيهات المختصين والخبراء في مجالات التغذية والزراعة والتصنيع التي ينجزونها للهيئات الحكومية والدولية.

إنّ الاستهلاك العقلاني المصاحب بنوع من الغائية الأخلاقية، أو بعبارة "فروم" ب"الاستهلاك الرشيد"، لهو أمر ضروري لتجنب الوقوع في براثن النزعة الاستهلاكية السالبة للوعي والإرادة. وقد ظهر أنّ ذلك لا يتم إلاّ إذا ما تأتى لنا حسن الانتقال من السؤال: عمّا يجب فعله لخير النظام الاقتصادي وتنميته؟ إلى طرح السؤال عمّا هو هذا الذي يتوجّب علينا فعله لخير البشرية وسعادتها؟ بصيغة أخرى، لا يمكننا تحقيق سعادة إنسانية حقيقية ما لم نتجاوز الفهم المختزل للرفاه الاجتماعي في تملّك المقتنيات واستهلاك المنتجات بدون حدود. فمثل هذا الأسلوب قد ثبت بشكل ملموس مدى حجم الضرر الذي يتسبّب فيه للشروط البسيطة للحياة الطبيعية السليمة على الأرض.

ولأجل تحقيق هذا الانتقال، يقترح "فروم" إحداث تبدّل في قيم المستهلك واتجاهاته إلى أن تحدث لديه تغيّرات جوهرية في توجّهات شخصيته وبنائها القيمي، كأن تظهر أخلاقيات جديدة للبيئة من خلال اتخاذ مواقف متوازنة تجاه الطبيعة، كما دعا إلى ذلك الاقتصادي "أ. ف. شوماخر"* فيما يسمّى عنده بضرورة التغيير الجذري في الشخصية الإنسانية من أجل تجاوز الكارثة الاقتصادية التي يتجه إليها النظام الاجتماعي المعاصر القائم على الاستهلاك. لذلك فبقاء الحياة الخيّرة واستمرارية الجنس البشري على الأرض لم يعد مجرد استجابة للمتطلبات الأخلاقية والدينية التقليدية المعروفة؛ بل أصبح، ولأول مرة في التاريخ، يتوقف على إحداث تغيير جذري في وجدان الإنسان وسلوكياته وأنماط عيشه.

يتحصل من هذا المنظور النقدي للسلوك الاستهلاكي أنه من الضروري أن يتم التنازل عن الاعتبارات الاقتصادية لتقييم الحياة الاجتماعية للجمهور، وذلك بما يسمح بتجاوز الفهم المُتَعِي«Hédonisme»  الاستهلاكي الفج للسعادة؛ ذلك الفهم القاضي باستغلال كل الجوانب المُتَعِية للحياة بغض النظر عن النتائج المترتبة عنها، حتى ولو كانت على حساب استنفاد الشروط الحيوية لاستمرارية الحياة. لذا تظل التنظيرات الاقتصادية لقياس الرفاه والرخاء الذي ينعم به الجمهور في سياق استهلاكهم للإنتاج الصناعي الوفير الذي تتيحه الآلة الضخمة لاقتصاد السوق المعاصر، كل ذلك ظلّ مجرد اجتهادات "بارغماتية" في تحديد دلالة السعادة. ولكي نتجنب الخوض في تعريفات السعادة وإشكالاتها، لأنه ليس غرضا لنا حاليا في هذه الورقة، نودّ التأكيد على وجود علاقة وثيقة بين معنى هذه الأخيرة وكل ما يحمل طابع "الخير" وتحصيله وامتلاكه.1 

ولعل فهم التصورات الاقتصادية النفعية للخير على أنه مجرّد ربح، ومنفعة مادية، أو مجرّد "نمو دائم"، هو ما دفع إلى أن يستفاد من أنّ الاستهلاك هو السبيل لتحقيق السعادة؛ في حين تبيّن كلّ الأطروحات النقدية المعاصرة لمقولة "النمو الاقتصادي" بأنّ الاستمرار على نهج الاستهلاك والنمو وتقويماتهما البارغماتية للحياة الاجتماعية، قد يمثّل خطرا حقيقيا على الطبيعة والإنسان معا نظرا لعدم اكتراثهما بالنتائج الوخيمة لمنطقهما النفعي على تدمير الشروط الحيوية للحياة الخيّرة للبشر على الأرض.

إذاً، ليس في "الرفاه"، كما يسوّقه الاقتصاديون، ما يفيد السعادة الحقيقية، كما يحلو لمنظور النزعة الاستهلاكية النفعية أن يصوّر لنا؛ بل على خلاف ذلك قد ظهر أنّه بمثابة شقاء آخر للجمهور، إذ يضيف إلى آلامهم النفسية معاناة جديدة تخصّ شح مواردهم الطبيعية وتدمير بيئتهم وضياع معنى كينونتهم وتلاشيها وذوبانها في عالم السلع والاستهلاك غير المحدود. وكنتيجة لذلك، يصارع الفكر النقدي المعاصر لأجل أن يكشف زيف الوعود الكاذبة التي يروّج المنطق التجاري الكاذب في وسائل الإعلام المختلفة باسم البحث عن السعادة والرضا الذاتي عند استهلاك المنتجات الصناعية المختلفة.

ففي إطار التجارة في كل شيء في ظلّ المجتمع الاستهلاكي المغشوش، كما كان يقول أدورنو* و"هوركهايمر في معرض حديثهما عن "التنوير وخداع الجماهير"، يحلّ الضحك بوصفه مرضا مكان السعادة ساحبا إياها إلى شقاء كامل؛2  وذلك عندما تعمل الصناعة الثقافية، من خلال الفن والسينما، على استغلال كل القيم الإنسانية لصالح استثارة تجارية تستغل كل الرغبات والدوافع اللاشعورية للترويج لنماذج جديدة مغشوشة ومشوهة عن الواقع. فمثلا في أفلام الإثارة، يجب على القبلة أن تسهم في نجاح لاعب الملاكمة، وبذلك المنطق تصبح الخديعة قد أفسدت كل لذة من حيث كونها قد سمحت للاعتبارات المادية والتجارية باستثمار كليشيهات أيديولوجية لثقافة تسير نحو تصفية ذاتها، لمّا تشوّه قيمها الأصلية لصالح قيم التسلية التي تسعى الآلة التجارية للفن الترويج لها لتحقيق الربح المادي من ورائه.

البيّن ممّا تقدّم أنّ الخداع الذي يمارسه منطق السوق التجاري، الذي وطّدت الليبرالية الجديدة أركانه، قد اثّر سلبا على المستهلك، وذلك بخلق نظام جديد من الدلالات والرموز يحتل فيه السامي مرتبة الوضاعة والوضيع مرتبة الأعلى تماشيا مع نزوعه الاستهلاكي التجاري الذي لا يسمح إلاّ بما يحقّق الربح ولا شيء غير الربح. وبالنظر إلى المنافسة القويّة المحتدّة بين مختلف المنتجين للمنتج الواحد على الربح والفائدة، فإنّ الإنسان المستهلك المفترض لهذا المنطق، قد غدا هدفا لشتى أنواع الخداع والإثارة حتى ولو بالكذب عليه بتحقيق سعادة ورضا ذاتيين من وراء استهلاكه لمنتجات الآلة الصناعية.

 

  ذ. الحسين أخدوش

...................

1- زكرياء إبراهيم: مشكلات فلسفية، الجزء السادس: المشكلة الخلقية، مكتبة دار مصر للنشر، بدون تاريخ. ص 145.

* Theodor Ludwig Wellington Adorno: Né 1903 – Décès 1969. Philosophe, Sociologue allemand.

2- هوركهايمر وأدورنو: جدل التنوير، ترجمة: جورج كتورة. عن دار الكتاب الجديد المتحدة، ط الأولى، سنة 2006، ص 165.

 

 

في المثقف اليوم