قضايا

الإنتلجسيا بين الغياب والحضور في الواقع العربي والعراقي الراهن

ali almirhigالإنتلجسيا: مفهوم يعني الجماعة المتعلمة، مشتق من الكلمة اللاتينية "intellect" وتعني الذكاء، والمراد منه التأكيد على قدرة وفاعلية النخب الواعية التي تمتلك قدراً واضحاً من الذكاء في التأثير في المجتمع وتنبيهه على مواطن الخلل في بنيته الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية التقليدية التي تنحوا نحو المحافظة والتقليد وإتباع الموروث من القيم وإن كان فيها كثير أو بع من تخلف وخطل لا ينسجم والتحولات البنيوية في مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة على كل الصُعد.

إرتبط مفهوم الإنتلجسيا بمقدار ثقافة الفرد وتحصيله العلمي للفصل بين الحِرفِيين الذي يعتمدون على قدراتهم الجسدية أو الجسمانية وبين المُفكرين الذين يعتمدون في تغيير الحال والأحوال على تنمية وعي هؤلاء "الشغيلة" أو "البروليتاريا" بعبارة الماركسيين.

لا يمكن أن تكون للإنتلجسيا من "جماعات الضغط" من دون التأثير في الجماهير، بحكم صلتهم بالواقع وإدراكهم العالي لمتغيراته وفق أطر معرفية أو أيديولوجية لها القدرة على صياغتها بحكم فضيلتهم هذه بوصفهم "الوسط الذهبي" بإستعارة أرسطية، كونهم يتحركون بصياغة رؤاهم التغييرية والتصحيحية والتجديدية والإصلاحية من الواقع إلى النظرية فهم إستقرائيون لا قياسيون، ينطلقون مما هو متغير للكشف عن قوانينه وبنياته الغائرة أو المضمرة في خضم هيمنة الرؤى الشمولية.

ترفض الإنتلجسيا الرؤى اليوتوبية الحالمة التي يبني أصحابها عوالمهم الحالمة ومدنهم المثالية وفق متطلبات الإنتقال من التجريد إلى التجريد أو من النظرية إلى النظرية.

ويصح القول أن الإنتلجسيا ترفض العيش في عوالم إفلاطونية مفارقة لعوالم الواقع التي تسبح في الخيال ومثاليته المُفرِطة لتَنسجه في عليائه. لذلك فالإنتلجسيا هي الطبقة الواعية التي تشكل وعي الجماهير وتُعيِن السلطة في طرحها لرؤى ذات أبعاد شمولية ترنو لحلحلة الصراع بين الجماهير والسلطة، هذا إذا كانت الإنتلجسيا بالقدر الذي صورناه من الوعي والإدراك لمتطلبات التجديد والتغيير والإصلاح والتصحيح، بشروط الجماهير التي وضعت ثقتها بها لأنها ترى فيها أنها المعبر الحقيقي لحاجاتها ومتطلباتها ومعاناتها وفق صياغة نظرية لا تفقد صلتها بما هو يومي مُعاش من واقع الجماهير المغلوبة على أمرها والمُتحمسة للتغيير والإصلاح أو التصحيح، ولأنها لا تمتلك القدرة على صياغة رؤية معرفية أو أيديولوجية لكيفية صياغة الأهداف وفق صياغة مفاهيمية وتنظيمية، لذلك نجدها قد أوكلت هذه المهمة للإنتلجسيا الواعية التي ينبغي أن تكون هي المعبر الحقيقي عن رغبات الجماهير وإعادة صياغة متطلباتها وفق وعيها الواقعي لحقانية هذه المتطلبات في التعبير الواعي نظرياً وعملياً لطرق صياغة حل مشكل التغيير والإصلاح أو التجديد أو التصحيح وربما الدعوة للإنقلاب أو الثورة، وفي الدفاع عن حقوق الجماهير وبلورتها وصياغتها إلّا في ضوء إدراكها لقدرات ومصداقية الجماهير في سعيها للتصحيح، وفي تقديرها الوعي لإمكانات الحكومة واقعياً في ضوء الممكن وفي ضوء التحديات الدولية والإقليمية التي تواجهها الدولة بكل مفاصلها ووعي "الإنتلجسيا" بواقع الصراع الداخلي والخارجي الذي يحكم سياسة الدولة "الحكومة" على أراضيها وتمكنها من فرض سيادتها كدولة تفرض شروطها وقوانينها وفقاً للدستور الذي يقتضي تطبيق مبدأ "فصل السلطات" وإستقلاليتها: سلطة المراقبة والتشريع "البرلمان" والسلطة التنفيذية "رئاسة الوزراء" وسلطة القضاء "مجلس القضاء".

لذلك فالمثقف "الإنتلجسيا" هو من يمتلك وعياً إجتماعياً وسياسباً عملياً وهو من يمتلك قدرة على فهم أسباب خراب الحال قيمياً لإعادة هيكلته جمالياً وأخلاقياً وهو من يمتلك بعداً معرفياً مغايراً للوعي الجمعي الذي لطالما وجدناه يخضع لوجدانيات الجمع وأبعاده الجوانية التي هي خارج منطقة مقتضيات الحاجة الموضوعية والواقعيي التي يقتضيها فعل التصحيح وغايته.

من هنا تكمن مهمة الإنتلجسيا وأهميتها في مقدار وعيها وإستيعابها لمشكلات المجتمع الذي هي جزء منه، وبمقدار إستعدادها لتحمل المسؤولية ليس فقط في توعية المجتمع بما يُحيط به من خطر ومشكلات، بل بمقدار إستطاعتها وقدرتها في تشخيص مكامن الخلل في هذا المجتمع، فهي التي بإستطاعتها توجيه للسلطة لكيفية إكتشاف ومعرفة مكامن هذا الخلل لا عبر الوعظ والإرشاد في قول "ينبغي" و "يجب" إنما في قدرتها على خلق الأفكار التصحيحية لمساري الدولة والمجتمع عبر وضع حلول قابلة للتطبيق ومقبولة واقعياً وموضعياً من الوجهتين: وجهة الجماهير في تصحيح مسار الدولة ولحكومة، ووجهة الدولة في تقبل رؤى المعارضة المجتمعية وقناعتها بإمكانية الإعتماد على "الإنتلجسيا" في وضع الخطط والمشاريع الكفيلة بإعانة الطرفين على إيجاد الحل لمشكل الصراع المستمر بين رغبات الجماهير في الخلاص من فساد السلطة، ورغبة السلطة - إن كانت تمتلك جرأة الإعتراف بأخطائها - في تحقيق مصلحة ومتطلبات الجماهير.

وحتى لا يُفهم من تحديدنا لمفهوم "الإنتلجسيا" وكأنه مرادف لمفهوم كل متعلم ومثقف على وجه العموم، فنقول أننا لا نقصد به من هو عارف بعلم ومتخصص فيه، وليس هو المثقف العقائدي: المتدين أو الطائفي أو الأيديولوجي المتحزب، إنما نقصد به "المثقف النقدي" الخارج عن آيديلوجيا الدين أو الطائفة أو العرق و كل أيديولجيا التحزب لجماعة ظنت أنها هي الوحيدة التي ركبت "سفينة النجاة" ووصلت لليقين المطلق. وهو "المثقف المبدع" الذي يخلق رؤاه الخاصة المنبثقة من صميم معيشته لمعاناة الجماهير بوصفهم "مواطنون لا رعايا" بعبارة خالد محمد خالد، وبوصفهم أناس في وطن واحد مُعاناتهم واحدة هي التمايز فيما بينهم، إما على أساس جنسهم أو لونهم أو دينهم أو قوميتهم أو مذهبهم.

وما نقصده إذن هو "المثقف العضوي" بعبارة غرامشي، وهو المعبر الحقيقي أو الذي يتخذ الصدق طريقاً له مسلكاً للتعبير عن مشكلات مجتمعه وملتزماً بتطابق سلوكه الواقعي والفكري مع زهده بالملذات المادية الخاصة. بحيث تكون حياته الخاصة مندمجة في الحياة العامة برفاهيتها ومعاناتها، وأن تكون أقرب لمعاناة الجماهير لا من رفاهيتهم.

 

 

في المثقف اليوم