قضايا

المشكلة الزراعية في العالم (1): هكذا يستنزف الشّمال المُتَقَدِّم ثروات الجنوب المُتَخَلِّف

eljya ayshلماذا فشل الحوار بين الشمال والجنوب؟

يقول الاقتصاديون أن المشكلة الزراعية ليست مشكلة إنتاج وأسعار فحسب، لكن مشكلة مجتمع زراعي بالدرجة الأولى، والزراعة في صورها البسيطة نشأت في أوروبا من أقدم العصور، ومع التوسع الزراعي ظهر النظام الإقطاعي،  وبدأت معالمه تظهر منذ القرن التاسع،  حيث كان قائما على طريقة للإنتاج يكون فيها من يزرع الأرض، بدأت هذه الطريقة في فرنسا ثم انتشرت في انجلترا وباقي مجتمعات أوروبا، وكانت العلاقات الاجتماعية للإنتاج  تدور أساسا حول "الأرض" التي ترتكز على اقتصاد يغلب عليه الطابع الزراعي، وكان للمزارع الحق في استغلال الأرض وشغلها وليس الحق في ملكيتها، أي أنه ليس من العبيد ولكنه  يبقى مرتبطا بسيده وبالأرض

تعود نشأة الثورة الزراعية إلى القرن السابع عشر، ثم أخذت في الانتشار والتوسع ولكن ببطء وفي دول معينة، حيث بدأت الأبحاث الزراعية، وقد عرّف الاقتصاديون الزراعة بأنها طريقة حياة وطريقة كسب العيش بالدرجة الأولى، ويعرف الفلاح على أنه مزارع يعمل في أرض فلاحية  (سواء كان مالكها أو مؤجرها) مهمته إنتاج محاصيل زراعية وأنواع الثروة الحيوانية،  أي إدارة المزرعة بالمعنى الحقيقي، وتجده يضع مخططا سنويا لضمان بيع محصوله وتوفير حبوب ماشيته والمنتجات المرتبطة بها،  وأخذ الإنتاج الزراعي طابعا تنافسيا بين الفلاحين في زيادة الإنتاجية والكفاية، وتعني الأولى النتيجة النهائية لمزج كل العناصر الداخلة في الإنتاج، أما الكفاية  فهي تعني الكيفية في إنجاز المشروع، والاثنان يدخلان في معنى تحسن الإنتاج، وقد حاول الفكر الغربي إبراز عدة اتجاهات لقياس الإنتاجية في الزراعة منها الاستدلال بالوحدة من الأرض وساعة  العمل والثالث يتعلق بمدخل رأس المال في الزراعة، ومعرفة إذا ما كان هناك مجال حقيقي لزيادة الإنتاجية والكفاية، وهذا مرتبط  بمعرة الصور الهامة للثورة الزراعية كالآلية، الفن المستحدث، التدريب والإرشاد، مع النظر إلى النمو السكاني أو انخفاضه للبلاد من أجل تحديد القوة العاملة التي من شأنها تقديم وفرة اكبر من الخدمات، وبالتالي ضمان الارتفاع في الرفاهية المطلقة للمزارعين أو الفلاحين، وكلما استخدمت آلات ذات حجم وكفاية كلما زادت الإنتاجية، وهو ما أشار إليه الخبير الاقتصادي كلارك في كتابه شروط النمو الاقتصادي صدر في عام 1951.

ونجاح الزراعة متوقف على طبيعة العقار الفلاحي ( الأرض)،  يقدر العلماء أن 29 بالمائة من مساحة الكون هي الأرض الجافة، وأن قسما صغيرا منها هو الخصب والصالح لاستخدامه زراعيا، ولخص الخبراء  الظروف التي تحدد من استخدام الأرض في الزراعة، وقالوا أن خمس (1/5) المساحة الكلية هي أرض باردة، وخمس المساحة الكلية للأرض هي ارض جافة، وخمس الأرض مرتفعا جبليا، وخمس الأرض هي مستنقعات أو مساحات غابية، مما دفع بالكوادر الفلاحية التفكير في استحداث تقنيات لتصريف المياه، وإجراءات التحكم في الفيضانات وإزالة بعض المناطق الغابية  (الغابات الاستوائية) وزراعتها بالمحاصيل، مع مراعاة المناطق الغير قابلة للانتقال، وهي المحددة نسبيا بواسطة الطبيعة، التي تلعب دورا هاما في التعرية، كما يشارك الإنسان في تعريتها وهذا عالم كافي لتدهور التربة وتحرم الطبقات العليا الثمينة المحتوية على الغذاء اللازم للنبات، وحماية هذه الموارد متوقف على الاستخدام الرشيد والعقلاني للعقار الفلاحي والعناية الكافية بالمواد الطبيعية.

ومن الناحية الاجتماعية والإنسانية يرى الفكر الحديث أن الآلية تخفف الكثير من عناء الإنسان العام ومتاعبه، كما تخلق نوعا من الاتصال المباشر بين الصناعة والزراعة، لأن الطبقة العاملة الصناعية تهيئ المناخ لزراعة منتجة والعكس، غير ان عوامل كثيرة قد تخلق الكثير من العقبات، مثل نقص الأبحاث بالنسبة لبعض المنتجات، نقص رأس المال والقوة العاملة المدربة، وعادة ما يكون التغير التكنولوجي حافزا لرفع الإنتاج، ورغم توفر العتاد الفلاحي، غير إن الكثير من الدول النامية (دول العالم الثالث) تعاني من نقص في الأسمدة، ونقص هذه الأخيرة سبب رئيسي من أسباب ضعف إنتاجية هذه الدول، وقد ثبت أن الأنواع الجديدة من الحبوب ذات الإنتاجية العالية تحتاج بشكل حيوي إلى الفوسفور والنتروجين والبوتاسيوم، كما أن البذور المنتقاة ضرورية للزيادة في الغذاء، وتلعب المبيدات الكيماوية دورا هاما في تحسين النظم الزراعية إذا ما استخدمت بدراية كافية ويؤدي البحث العلمي مهمة كبيرة في هذا المجال، لأنه كلما كان هناك بحث وتطور علمي كلما توفرت المواد المفيدة للزراعة، واستخدام  وسائل الريّ الحديثة ووسائل التخزين كلما زادت الإنتاجية وكانت تنمية زراعية، التي بدورها تخلق ثروة أخرى وهي  الثروة الحيوانية  كعامل مرتبط بالفلاحة.

تجربة الدول المتقدمة في قطاع الزراعة

وقد ارتبط قطاع الفلاحة في العالم بالرق، حيث كان عمل العبيد يقتصر على خدمة الأرض لفائدة  من يسمونهم بـ: "اللوردات"  وهم من كبار المُلاَّكِ الإقطاعيين، وكان خدّام الأرض غالبيتهم من السُّودِ وظل الوضع على حاله حتى أواخر القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر،  الذي حل فيه الفلاح كأجير عند هذه الفئة، وكانت الزراعة تتم بطريقة بدائية، ولما  زاد الطلب على الصوف قام ملاك الأراضي الفلاحية بتوسيع أراضيهم واستخدامها  كمرعي للأغنام، وظهر الفائض في القوة العاملة،  ووجدت هذه الأخيرة صعوبة في تدبر معيشتها وخبزها اليومي، كما ساهم تزايد الفائض في رفع إيجار العقار الفلاحي، والاستيلاء على الأراضي المخصصة لإنتاج القمح وتحويلها إلى مراعي لتربية الأغنام،  من أجل إنتاج المزيد من الصوف،  وأجبر الفلاحون إلى الخروج لسوق العمل، وعلى سبيل المثال انتهجت إنجلترا  هذه السياسة، مما أدى إلى ظهور الطبقة العاملة ( البروليتاريا)، وفي القرن السادس عشر عرفت الأراضي الفلاحية ارتفاعا كبيرا في الأسعار، خاصة خلال الحروب  النابليونية، ويذكر الاقتصادي   كاننجهام في كتابه الثورة الصناعية the industerial revolution، أن طبقة صغار الزراع تحولوا إلى عمال أجراء، وفي ظل صدور قانون "الأسيجة" الذي مكن الملاك من طرد المستأجرين من دون صعوبة، كون كبار البرلمان كانوا يشكلون الأغلبية داخل البرلمان، وبسبب الاغتصاب المستمر للأراضي الزراعية وقعت حربا بين ملاك الأراضي وفئة المزارعين الذين لا يملكون الأرض أو يعملون في الأرض مقابل أجر زهيد جدا،  وحدث ما يسمى بالانقلاب في الزراعة،  لكن النتيجة كانت انخفاض في أجور الفلاحين،  تشير الدراسات  أن بريطانيا حتى قيام الثورة الصناعية  كانت  من الدول المصدر للحبوب، وكان الاستيراد فيها محظورا، حتى قيام الحرب بينها وة بين فرنسا اضطرت انجلترا إلى عملية الإستيراد فيما عرف بقانون الغلال التي تم إلغاؤها عام 1846 بعد توقيف الحرب بين الدولتين، ورغم ذلك بقيت الملكيات الكبيرة هي السائدة.

نابليون قضى على تحكم بريطانيا في إنتاج السكر

نفس الوضع شهدته الزراعة في فرنسا في الفترة للتي تلت حرب المائة عام، كان الفلاح يقوم بعمل مقال أجر عند طبقة الأشراف، وقد لجأ هؤلاء إلى طريقة "المشاركة" بهدف توسيع استغلاهم للفلاح، حيث كان الماك يقد الأرض، بينما الفلاح يقوم بزراعتها، ثم يقسم الإنتاج مناصفة بين المالك والمزارع بعد استبعاد النفقات، وعادة ما يكون نصيب الفلاح ضئيلا، فيضطر إلى الاستدانة من المالك، كما استثنيت الطبقة الأرستقراطية  المتمثلة في الأشراف ( النبلاء)  ورجال الكنيسة وحتى الموظفين من دفع الضريبة على العقار، واقتصر دفع الضرائب على العقار الفلاحي على الفلاحين وحدهم،  إلى حين قيام الثورة الفرنسية، حيث طالب الفلاحون الحكومة بتحقيق مطالب لهم،  خاصة ما تعلق بإقامة الأسيجة، غير أن الحكومة لم تستجب لهم،  والتزمت بفكرة عدم التدخل في الحريات الفردية، فلم تسعى إلى حماية الزراع مما قد يقع عليهم من الملاك الكبار، ما قامت به الثورة الفرنسية هو تعميم دفع الضرائب.

و أكدت إحدى الدراسات أجراها بها الدكتور أحمد بديع مصطفى بليح  حول المشكلة الزراعية في السوق الأوروبية المشتركة، أن الزراعة في فرنسا منذ عهد نابليون عرفت انتعاشا كبيرا، حيث كان للجانب العسكري دور كبير في هذا الصدد، فقد  شجع نابليون على الإنتاج الزراعي بمختلف شعبه: الصوف، الدخان والبنجر ليقضي على تحكم بريطانيا في إنتاج السكر والاعتماد عليها، ولعل هي الأسباب التي أدت إلى تجديد الحرب بين فرنسا وبريطانيا عام 1803 م وامتدت حتى نهاية حكم نابليون، الذي كان مسيطرا على معظم دول أوروبا، حيث اجبر تلك الدول على عدم استيراد السلع البريطانية، وعرفت تلك السياسة باسم " النظام القارئ"، فرفت فرنسا تطورا لا مثيل له،  من خلال السياسة الجديدة التي انتهجها كبار الملاك، الذين  استغلوا الزراعة على أساس تجاري وطوروا رؤوس أموالهم والاستثمار فيها بإدخال المستحدث من الآلات والتجارب العلمية، وقد ركز المستثمرون الفرنسيون على إنتاج الكروم وإدخالها في صناعة النبيذ، مما فتح لهم آفاقا وأسواقا جديدة أمام الزراعة، غير انه بدءًا من  1875 بدأت عوامل الكساد تدبُّ في الزراعة الفرنسية بسبب تدفق المنتجات الأجنبية (الأمريكية).

ألمانيا كانت أول دولة تؤسس الجمعيات الزراعية

ومع نهاية العهد الإقطاعي ظهرت الجمعيات الزراعية، وكانت ألمانيا الدولة الأولى التي سمحت بتأسيس هذه الجمعيات في إطار ما يسمى بالتعاون الزراعي، ويرجع الفضل كما يقول الباحثون  إلى فريديريش  رايفيزين friedrich raifffeisen، الذي قام بتأسيس جمعيات تعاونية زراعية، كما قام بتأسيس مصرف تعاوني عام 186، ة عرفت مشاريعه نجاحا كبيرا حتى وصل عدد البنوك الزراعية في ألمانيا 425 مصرفا، كان المزارعون يودعون أموالهم ومدخراتهم في هذه البنوك، لقد خلق "الرّيع"  في نهاية  القرن السابع عشر ما يسمى بالرأسمالية الصناعية،  ظهر فيها رأس المال الصِّناعي،  التي تم فيها إلغاء القيود وإبعاد تدخل الدولة، أي جعل النشاط الاقتصادي من اختصاص الأفراد وليس من اختصاص الدولة، حيث اقتصرت مهام هذه الأخيرة (أي الدولة) على حفظ الأمن الداخلي والدفاع عن الوطن ضد الاعتداءات من الخارج، ونظرا لغياب الدولة، فقد كان عامل "الريع" أساسي في بروز سياسة "الاحتكار" للسلع في ظل المنافسة من أجل العمل على التوسع، وقد تطرق العديد من الباحثين والخبراء الاقتصاديون  في تشخيص هذه الإشكالية (الريع) بشيء من التفصيل.

وتعد التجربة الأمريكية من أهم التجارب في الحقل الاحتكاري، ولو أن الأرقام التي قدمها الدكتور أحمد بديع مصطفى بليح قديمة جدا، بيد أنها تكشف أن الولايات المتحدة سجلت ما يفوق عن 958 شركة تنشط في المجال الصناعي  في الفترة ما بين 1950 و1962 م، معظم هذه الشركات تتحكم في أغلب الأبحاث والتطورات الصناعية، بتقديم التكنولوجية للدول "النامية"، حتى تبقى دول العالم الثالث تابعة لها تكنولوجيا، ولكي تحافظ الدول النامية على إنتاجها الحالي من الغذاء أو اكتفائها الذاتي اضطرت الاستيراد للمواد الغذائية، وتعد الحبوب أكبر أقسام واردات الغذاء في الدول النامية (باستثناء الدول المصدرة للبترول)، ورغم التطور الذي شهدته هذه الدول، فما زال الشمال المتقدم يستنزف ثروات الجنوب المتخلف (النامي تهذبا) يتمسك بأهداب الحرية الاقتصادية والتفاعل المطلق لقوى السوق على الصعيد العالمي،  وقد فشلت كل مساعي هذه الدول في تحقيق مطالبها في مؤتمر " الحوار بين الشمال والجنوب" الذي كان تعقد جلساته في العاصمة الفرنسية في 1977، كان الشمال أصما إزاء مطالب الجنوب،  ووفق تقارير صندوق النقد الدولية، فقد كانت النتيجة هي انكماش نصيب الدول النامية من التجارة الدولية وارتفاع  إجمالي العجز في الموازين التجارية للدول النامية الغير مصدرة للنفط،  بل تزايدت ديون الدول النامية الأكثر فقرا، وصلت قيمة الديون  200 بليون دولار بين 1974 و1975 .

 

علجية عيش

 

في المثقف اليوم