قضايا

الصنمية في الأحزاب العراقية والعربية

ali almirhigإرتبط نشوء الأحزاب في الوطن العربي بوجود القائد الرمز، لا بالرؤية الستراتيجية والفكرية لمُنظريها، لتطغي فيها شخصية "القائد الرمز" وتحضر بأجلى صورها بتقديسه وتصنيمه، لتغيب الرؤية ويحضر الفرد، فينبري "سدنة السلطة" وعبدة الصنم للكشف عن المواهب والكرامات التي منحتها السماء للحكم بأمر الله، المنصور بالله، والحاكم الرشيد والأمين على خزائن الأرض وأمن الناس، ليأتي المأمون الذي منحه الله أمانة حمل الحكم والمعرفة والأمين على خزائن أهل الأرض والمتوكل على الله، والمعتصم بأمر ربه، المقتدر والقادر بأمر الله على أن يكون هو الحاكم والحكيم...الخ، الذي حبته السماء بالحكمة والمقدرة على إدارة دفة الدولة كما لم يستطع غيره من التمكن من إدارتها، وبمجرد موته أو قتله ينتهي عهده بتنكيل سدنة السلطان الجديد به وبسياسته، ليبدأ عهد إزدهار جديد لقائد جديد، حاكم عادل يُعيد بناء هيبة الدولة التي فقدتها أيام طيش الحاكم الخارج عن أمر الله (!!)، وربما يكون بعض سدنة الحاكم السابق ممن كانوا يُطبلون ويُصفقون ويُزمرون لمن سبقه ممن يُجيدون اللعب على حبال سيرك الحياة ممن أجادوا السدانة والكهانة للحاكم الجديد "القائد الضرورة" فهو الحُلم والأمل، لم يكن كل ما قالوا ونظروا وفسروا وتفيقهوا بمدح الحاكم السابق، إنما هو تقية لا حُباً وإعجاباً، إنما لخوف يعتري نفوسهم من بطشة، وربما حُباً في سلالته لا بشخصه (!!).

وأرى الحال العربي والعراقي الحديث هو الحال نفسه، ففي عهدنا الملكي في العراق، نجد أن حزب التقدم البرلماني الذي أنشأه عبدالمحسن السعدون في آب 1925 غاب وتلاشى بإنتحاره في تشرين الثاني 1929.

وحزب العهد الذي ألفه نوري السعيد في تشرين الأول 1930 لإسناد وزارتيه في هذا العام وفي 1932 إنتهى أمره بإنتهاء حكم نوري في وزارتيه.

وحزب الوحدة الوطنية الذي أسسه علي جودت الأيوبي 1934 ليُشّيد وزارته التي ألفها بهذه السنة، إنتهى وجوده بمجرد إستقالت وزارته في آذار عام 1935.

يعتقد عبدالرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الأحزاب السياسية العراقية" أن المشكل في تهاوي هذه الأحزاب وسقوطها أو إنهيارها السريع يكمن في عدم توافر قابلية التنظيم في هذه الأحزاب، وأن أغلب الشخصيات المؤسسة للأحزاب تعوزها الخبرة والدراية التنظيمية التي تقتضيها متطلبات العمل الحزب في التعامل مع الجماهير وإستمرارية التواصل معهم ومعرفة حاجاتهم الخدمية والتشريعية. فضلاً عن أن هناك الكثير من محترفي السياسة إتخذ العمل السياسي حرفة ووسيلة للعيش الهني والرغيد والإرتزاق السريع لا وسيلةً لتحقيق غاية مؤيديهم وناخبيهم. فكان هم جُل مؤسسي الأحزاب وقادتها وسدنتها يسعون وراء مصالحهم الشخصية.

والمحزن المؤلم أن الأحزاب العراقية كانت تأتلف على أساس الشخصيات لا على أساس المبادئ، طبقاً للنكتة القديمة لحزبي فر وهاجر، فطال غيابه، فآثر "الرفاق" الذهاب لبيته والسؤال عنه، وبعد برهة من طرق "الرفاق" للباب، خرجت أمه الطاعنة في السن، فخاطبتهم "ها يمه تفضلوا، هلا بيكم" فقالوا لها نسأل عن إبنك رفيق فلان "وين صار"، فقالت لهم "شرد وعافني وعاف الحزب" فإتابتهم الدهشة، فبادروها بالسؤال "حجية لعد والمبادئ وين صارت" فقالت لهم الحجية وهي لا تعرف قصدهم بالمبادئ، ولكنها أدركت أنهم يسألون عن شيء مهم تركه لهم، وقد ترك لها ولدها "شوال" "كَونية" باللهجة العراقية فيه بعض حاجياته القديمة، فظنت أنها هي المبادئ التي يسألون عنها، فأجابتهم بكل ثقة "يمه لا تحتارون، "المبادئ" وكل اللي تردوه عافه إلكم ب "الكَونية"= "الشوال.

ولا يغيب عنّا أن هذه النكتة لها دلالاتها الواضحة، التي تشي بأن كثيراً من العراقيين والعرب على وجه العموم، متقلبون، يُصفقون للقوي الغالب وهم أنصاره في إنتصاراته وغزواته وحماقاته، إن كان فيها كسب وربح مادي شخصي، وتجدهم في النائبات قليلُ، إن لم يكونوا ممن يتباكون عليه حين خسارته، ولكنهم يصيرون أنصاراً لعدوه، على قاعدة "قلوبنا معك وسيوفنا ضدك"، فالطبع يغلب التطبع كما يرى العلّامة الوردي.

لذلك تجد ضعفاً بيّناً وواضحاً في تبني الحس الوطني العراقي، وكلما تحدث مُحبٌ للوطن جوبه بموجة عارمة من النقد والتوبيخ بالرد على أطروحاته "أهووو هم صاير براسنة وطني، عمي أُكُل إو ووصوص وكول ياهو الياخذ أمي يصير عمي" (!!). فتجد ولاء كثير من الشيعة لإيران أشد من ولائهم الوطني للعراق، وتجد السُنة أشد ولاءً لتركيا أو السعودية من ولائهم للوطن. وصرنا أسرى للمثل الذ يذكره الوردي في مُععظم كتاباته: "إو بين العجم والروم بلوة أبتلينا".،

 ولو قارنّا حزب الناصريين في مصر، لوجدنا نَجمهُ قد أفل بمجرد وفاة عبدالناصر، وتلاشى حزب السادات بإغتياله، ولاوجود للحزب الوطني بمجرد سقوط مبارك. وسقط جماعة الإخوان المسلمين بسقوط مرسي، فصار السيسي هو رئيسي" كما يقول أخواننا المصريون.

لذلك أرى أن التعويل على عامة الناس في تقبلهم ودعمهم للإصلاح سياسة فاشلة من قبل الأحزاب الرامية للتصحيح، لأن العامة في مجتمعاتنا تُعاني الجهل والتجهيل عن قصد وعمد لتغييب فاعليتها في التأثير، وتصييرها تابعة ومنقادة للقائد الرمز من دون تمحيص ونقد لتحولاته وتقلبات رؤيته، وإلّا بماذا تفسّر تحول ولاءات كثير من قيادات وجماهير المجلس الإسلامي "الأعلى" العراقي بين ليلة وضُحاها ليكونوا مع "القائد الرمز" السيد عمار الحكيم؟ ألا يعني هذا أن ولائهم لم يكن مدروساً ولم يكن مبنياً على فهم للمبادئ وإنما هو مبنيٌ على أساس الطاعة والإعجاب بتضحيات آل المرجع الأعلى محسن الحكيم وبسلالته من بعده.

وكيف تُفسر تحولات التيار الصدري وفق سياسة "القائد الرمز" سيد مقتدى من تأييد إيران إلى محاولاته في الإصلاح والتصحيح وصولاً لمتغيرات ستراتيجيته في الإنفتاح على الدول العربية وفتح آفق جديدة للتعمل والتحاور مع البلدان امضادة لمحور المقاومة الذي تقوده إيران سوى طاعتها لآل الصدر المبني على الحب والعاطفة التاريخية لوطنية آل الصدر؟.

وأنا في قولي هذا لست بصدد النقد أو المدح، ولكن المرام عندي التشخيص لسلوك نفسي واجتماعي عراقي وعربي، ذو أصول بدوية صحراوية، لا هم له ولا شغل وشاغل له إلّا بجماليات اللفظ والقول والهيام في بُعده الوجداني والعاطفي، الذي يصنع أبطالاً في المخيلة، لا أبطال حقيقيون صامدون تاريخياً، ولكي ل نجعل من "القائدد الرمز" صنماً تنتهي صلاحيتهم بمجرد تهاوي سلطتهم، ينبغي علينا إعتماد النقد منهجاً و معرفة المبادئ الحزب بوصفها هدفاً فكرياً ولبناء وطن لا تتلاشى وتتهاوى بمجرد غياب أو فقدان "القائد الرمز" كي لا يكون صنماً، بقدر ما يكون مُلهماً لمؤيدية في توعيتهم بأن لا وطن لمن كان همه إتباع الوثن لا بناء وطن.

 

 

في المثقف اليوم