قضايا

مأزق السلطوية التقليدية وانكسار إرادة التغيير

alhusan akhdoush2تُظهر المقارنة بين أسلوب حياتنا التقليدي وأنماط عيش المجتمعات المتطوّرة كم نحن متخلفون عن ركب الحضارة الإنسانية المتقدّمة على أصعدة مختلفة (أبرزها مؤشر جودة التعليم، وجودة الحياة، وقياس التنمية، ومؤشر التنافسية الاقتصاد، والحكامة، والديمقراطية..). بيد أنّه رغم كلّ ما يسجّل من تفاوت تاريخي بين المسارين على مستوى التقدّم الحضاري، فإنّ بعض مؤشّرات المقارنة تبقى دالّة من أجل استقراء واقعنا الثقافي والسياسي.

أمّا الأسئلة الممكن طرحها بخصوص هذا التفاوت، فنصوغ منها التساؤلين الآتيين: كيف يمكن تبرير انحصار معظم الإصلاحات السياسية والثقافية في مجتمعاتنا التقليدية دون أن تبلغ النجاح؟ وهل الركون الدائم للتقليد والجمود قدر لا انفكاك لنا عنه؟ كيف السبيل إلى الإصلاح العام؟

لقد تعدّدت الفرضيات والنظريات المفسّرة للتخلّف الحضاري والثقافي، بيد أنّ واقع لحال بقي عنيدا راكدا يَشِي بمختلف أشكال وأنواع العاهات والنواقص: ازدياد الفقر، والبطالة وتقلّص فرص الشغل، وتراجع الدخل القومي والفردي، سيادة الريع في الاقتصاد وغيرها من مظاهر التخلّف الأحرى. والبيّن أنّها كلّها أعراض غياب الحكم الرشيد، ونقصان الحكامة في المؤسّسات، والفساد في التسيير، وانعدام المنافسة الحرّة في الاقتصاد، فضلا عن عجز النخب عن تفعيل دينامية تنموية حقيقية في المجتمع.

تقع وراء هذه البنية الراكدة ثقافة اجتماعية وسياسية فاسدة، تتغذى من الموروث الشعبي الديني التقليدي، ومختلف أنماط السلطوية التقليدية بأبعادها: التربوية والسياسية والدينية. بيد أنّ الحديث عن بصيص أمل في إحداث تغيير حقيقي في هذه البنية (ثقافيا سياسيا واقتصاديا) يبقى معلّقا على ما سيجود به المستقبل من مفاجئات، مادامت النخب التنويرية التقدّمية منحصرة وعاجزة أمام صعود وامتداد قوى النكوص والرجعية الثقافية.

إنّ استبداد السلط التقليدية، الثقافية والدينية والسياسية، أتى على تخريب العقلانية النقدية التحرّرية التي يمكن التعويل عليها في اجتثاث التفكير الخرافي الشعبي غير العلمي المكتسح لكل المساحات الثقافية والاجتماعية. ولسوء حظّ ثقافتنا المتكلّسة أصلاً أن أضيف إلى ذلك سيادة ثقافة النزوع الاستهلاكي المُتعي، خاصة لدى الفئات المتوسطة والبرجوازية غير التقليدية التي يمكن التعويل عليها في إحداث التغيير الإيجابي.

ثمّ علاوة على ذلك، انحصرت إرادة التغيير الديمقراطي التنويري وتحوّلت إلى مجرّد مطالب فئوية خبزية، مع حضور فكرة البحث عن تحصين المواقع الاجتماعية والمكتسبات الربحية المادية دون شيء آخر.  أمّا تضخم السلطة داخل النسيج الاجتماعي لهذه البنية الثقافية، فيعدّ نتيجة لسيادة نمط تفكير عتيق لا يولي أيّة أهمية للفرد الحرّ المستقل، مقارنة مع التقليد والتراث.

ويعود تمرّد الشباب على الأشكال التقليدية للسلطة (الأبوية، والدينية، والتعليمية، والسياسية)  في مجتمعاتنا إلى ثورة تكنولوجيا الإعلام السيبرنتيكية التي أحدثتها عولمة الإعلام والاقتصاد. بيد أنّ ميول واتجاهات الرأي لديهم اتسم جلّها بالتضارب وعدم الاستقرار. لذلك تنازعتهم نوازع التمرّد والرفض، وتضاربت مشاعر الانتماء الوطني والديني واللغوي لديهم بإرادة الخروج عن من مألوف الاجتماعي التربوي والأخلاقي.

من جهة أخرى، وموازاة مع انشغال الفئة المحظوظة بتحصين مكتسباتها المشروعة وغير المشروعة، انتشرت لدى الفئة الأقل حظّا من ثروات البلد مختلف أنواع النزوع المرضي نحو الانغماس في الراهني. ثمّ غدا امتهان الطرق السهلة للربح والاسترزاق بكلّ شيء، من الأعمال السهلة والشاقة إلى الارتشاء وحتى اللصوصية والنشل، رياضة للجميع دون استحياء ولا وازع أو تأنيب ضمير.

 ازداد الهوس المرضي بتحقيق المكاسب المادية التافهة أحيانا، فانتشر لدى فئات عريضة من المجتمع توجّهات استهلاكية متطرّفة، موازاة مع اضمحلال مريب في القدرة الفكرية على بلورة وعي تاريخي ناضج بتغيّرات وتشابكات اللحظة التي نعيشها، وما تتطلّبه منا من تعقّل ورزانة ونقد وبحث عن أحسن السبل لتأسيس تعاقد اجتماعي حقيقي يضمن لنا الكرامة جميعا. وفتح هذا النزوع المرضي لدى الفئات الهشّة، خاصّة منها الشباب نقط ضعف كثيرة، يسهل استغلالها هذه من طرف جماعات التطرّف الديني ذات القدرة على استقطاب الغاضبين والناقمين وشحنهم بأيديولوجيا رجعية مدمّرة.

هكذا، بقي تقدّم مجتمعاتنا التقليدية أسيرا لمنظور الشيوخ والقادة المتشبثين بوهم التمثيلية المقدّسة لكبار القادة والزعماء وكذا الشيوخ والأعيان. غير أنّه نجم عن سيادة هذا التصوّر التقليداني للسلطة محاصرة شديدة للطاقات الشابة، بل واحتقارها واستبعادها وتهميشها. تولّد عن ذلك حالة من الانسداد الكبير في بنية السلطوية التقليدية تربويا واجتماعيا.

ورفضا لهذا التسلّط الثقافي السياسي، وقعت أحداث سياسية عنيفة استمرّ تأثيرها إلى اليوم في كثير من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. بيد أنّه سرعان ما تم الالتفاف حول مطالبها الحقوقية والسياسية، فعجز جلّها عن بلورة وعي تاريخي حقيقي بالتغيير السلمي، والانتقال من وضع تقليدي متخلّف إلى وضع عصري متقدّم ديمقراطي حقيقي.

والبيّن من ذلك، كلّه، أنّ واقعنا الثقافي العام أبى إلاّ أن يعاند التوجّه السلمي نحو الإصلاح السياسي والاجتماعي والتقدّم الفكري العلمي والاقتصادي. وأمّا سببّ ذلك في تقديرنا، فلعلّه قائم في تجدّر الاستبداد في تربيتنا الاجتماعية والثقافية، وانغراس التقليد والسلطوية في عقولنا، فضلا عن قصور وعينا عن إدراك حتمية قوانين التاريخ والمجتمع والاقتصاد.

 

الحسين أخدوش

 

 

في المثقف اليوم