قضايا

مُشتركات الموقف من الفلسفة والعلم في الفكرين: السلفي الراديكالي والعلماني الراديكالي

ali almirhigربما سيكون عنوان مقالنا هذا فيه قليل من المفاجئة لبعض القراء الذين إعتادوا أن يُصنفوا دعاة السلفية المتطرفة ودعاة العلمانية المتطرفة وكأنهم دوماً على طرفي نقيض، فإن كان أحدهما في الضفة اليمنى، فلا بد أن يكون الثاني على الضفة اليسرى، وهذا له مصداق في كثير من المواقف والتباينات الفكرية، ولكنهما وإن إختلفا في المواقع، ذات اليمين وذات اليسار، إلّا إنهما يُمكن أن يكون لهم بعض تلاقيا لا في المنهج ولا في الرؤية ربما، ولكن التلاقي يكون في الموقف، وربما يكون لهما بعض إتفاق في الموقف من الفلسفة ببعدها العقلاني في أنها ليست أصيلة في بنية العقل العربي، وهذا ليس بغريب - ربما - لأنها وفدت لنا عبر الترجمة، ولكن أن يكون هناك إتفاق بينهما على تأكيد الرأي الإستشراقي القائل أن العرب غير قادرين على التفلسف، وأن قدرهم أن يكونوا عاطفيين خطابيين يؤثِرون اللفظ على المعنى، ف "العرب ظاهرة صوتية" بعبارة القصيمي، "الأذن (عندهم) تعشق قبل العين أحيانا"، وهذه عادات العرب وطباعهم، فهذا مما هو غير مألوف في سياق السرديات الكبرى الني عرفناها، وبدت لنا وكأنها من بديهياتنا في أن أهناك أسفيناً قد دُق بعناية بين العلسلفيين المتطرفين والعلمانيين، وكأنها إتجاهات جغرافية من ظقتضيات تموضع الذات في المكان، لا من متغيرات الإنسان في الفكر.

وهو رأي ذهب إلى تبنيه دُعاة السلفية الراديكالية في موقفهم الرافض للفلسفة والعلم الطبيعي متوافقين به مع دعاة العلمانية الراديكالية.

فقد تشابه السلفيون المتطرفون مع العلمانيين المتطرفين في الموقف من الفلسفة في إتفاقهم مع كثير من رؤى المستشرقين أمثال مونك ورينان وكَوزان في القول بأن الفلسفة يونانية كُتبت بحروف عربية كما يقول رينان، وقد إتفق كثير من السلفيين مع هذه الرؤية في رفضهم للفلسفة بوصفها وافدة وليست منسجمة مع بنية العقل الإسلامي الفقهي أو "الكلامي" الديني أو "العرفاني" الصوفي، فحكم كثير منهم على الفلسفة والفلاسفة بالتكفير ودعوا إلى الخلاص منها لأنها تؤدي إلى الزندقة على قاعدة "من تمنطق فقد تزندق"، وعرفنا تكفير الغزالي للفلاسفة، والبيان القادري وفتوى ابن الصلاح الشهرزوري مروراً بإبن تيمية في التراث، أما في الفكر الحديث، فمعروف موقف الوهابية من الفلسفة وشابههم الأخوان المسلمين في رفضهم للفلسفة لأنها علم ليس من جنس الثقافة العربية، كما أكد على ذلك سيد قطب في جُل كتاباته لا سيما كتابه " معالم على الطريق" وصولاً لمصطفى عبدالرازق الذي رأى أن إبداع المسلمين ليس في الفلسفة لأنها وافدة وليست أصيلة، إنما إبداعهم الحقيقي والأصيل هو في علوم اللغة والفقه والشريعة وعلم الكلام والتصوف في كتابه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية"، وقد شاركه في رأيه هذا علي سامي النشار في كتابيه "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" و "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" الذي يرى أن إبداع المسلمين يكمن في مناهج أصول الفقه"، ونجد هذا الرأي أكثر حضوراً في كتابات طه عبدالرحمن ُل كتاباته لا سيما كتبه: " تقويم المنهج وتجديد التراث" و "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" و"العمل الديني وتجديد العقل".

ولم يكن العلمانيون الراديكاليون ببعيد عن تبني رؤى معظم المستشرقين القائلين بعقم العقل العربي الفلسفي، وأن نتاج العقل البرهاني إنما يستمد أصوله من اليونان، والعقل العربي بقي مهووساً بالبيان والعرفان وبسحر اللفظ وإيقاعه، كما ذهب إلى ذلك محمد عابد الجابري في كل كتاباته، وأهمها "نحن والتراث" و ثلاثيته في نقد العقل العربي: التكوين والبنية والعقل السياسي، وإن إستثنى العقل المغاربي لأنه بقيّ أميناً لفلسفة أرسطو البرهاني، فجعل منه عقلاً إتباعياً لا عقل إبداعي، وقد كان لفرح إنطون من قبل هذا الرأي الذي طرحه في كتابه "أبن رشد وفلسفته" الذي جاء متطاباقاً فكراً ومنهجاً لكتاب رينان "ابن رشد والرشدية"، وكان لزكي نجيب محمود صولاته وجولاته في تأكيد أهلية العقل الغربي على العقل العربي في قدرته على التفلسف والإبداع في مجال العلوم الرياضية والطبيعية، في كتابه "خرافة الميتافيزيقا" الذي صرح به علناً بتبنيه للوضعية المنطقية، وبقيّ أميناً لرؤياه هذه حتى في كتابه "تجديد الفكر العربي" وإن أبدى بعض تردد من أن هناك بعض ملامح ونزعات علمية وعقلانية في التراث العربي، بانت وظهرت عند المعتزلة في موقفهم من الحرية ومن العقل وعند الجاحظ وإبن جني في علوم اللغة وعند إبن رشد في تبنيه للفلسفة الأرسطية بطابعها العقلاني.

الأمر الذي يعني أن الفلسفة والعلم قد عانى مثل ما عانى مجتمعنا وغُيب العقل فيه لإتفاق طرفي الصراع المثلين للعقل الوغمائي السلفي والعقل الدوغمائي العلماني.

 

 

في المثقف اليوم