قضايا

الدين الفلسفي والفلسفة الدينية

ali almirhigذكر فضل الرحمن في كتابه "الإسلام" الذي تُرجم مؤخرا، مفهومي "الدين الفلسفي" و"الفلسفة الدينية" بمعنى واحد: إنها فلسفة تعتمد على الحجاج العقلي، لكن لها سمة دينية مركزية، لأنها طرحت وجهت نظر حول العالم، محاولاً فضل الرحمن الربط بينها وبين أطروحات العرفانيين والإشراقيين التي جاء بها شهاب الدين السهروردي المقتول (عام 587 هجرية) مؤسس فلسفة الإشراق التي بلغت أوجها مع ملا صدرا المتأثر بمذهب وحدة الوجود عند ابن عربي.

ومن دون الخوض في تفاصيل موقف السهروردي من ابن سينا تأثراً بمباحثه المشرقية ورفضه للتمييز بين الممكن والواجب، لأنها تمييزات ذهنية وذاتية خالصة، وإنكاره القول بثنائية المادة والصورة، فإن الحقيقة عند السهروردي واحدة، لا نصل إليها من خلال الوعي الإستدلالي، إنما تحصل بحضور مباشر، بصدور مجرى النور عن الله، في سعي من فضل الله لربط فكر السهروردي وتطوره عند ابن عربي في تصوره لوحدة الوجود "وجه الوجود الأكبر" وهو العالم و"وجه الوجود الأصغر" وهو الإنسان. (كتاب فضل الرحمن: الإسلام، ص199 وما بعدها).

1160 aliومن دون الخوض في عوالم التصوف والعرفان، ولكن بإستطاعتنا القول أن "التجربة الصوفية" تبقى "تجربة روحية فردية"، لا مصداق لها في عوالم الواقع سوى الفرد نفسه والإيمان به، ولا يُمكن لنا أن نُنكر عليه نزعته الإنسانية هذه. ولكننا ننتقد فضل الرحمن بتوصيفه له على أنه "دين فلسفي" أو "فلسفة دينية" تقوم على الحجج العقلية، فليس من طبيعة التصوف الإعتماد على ال

حجج العقلية، لأنه إيمان قلبي حدسي وكأنه "نور يقذفه الله في الصدر" كما يقول الغزالي، وإن ظهر لنا بعض تعقل وطرح يعتمد على البرهان، فهو لاحق وتابع للعرفان، أما في الفلسفة الدينية التي أجد أن هناك بعض تمايز بينها وبين الدين الفلسفي، فالتعقل فيها أساس الإيمان، والعرفان إن وجد فيها فهو لاحق وتابع للبرهان. وربما تكون هناك فلسفة دينية، سُميت هكذا لأن موضوعاتها المطروحة للنقاش في الدفاع أو النقد وربما التفنيد هي موضوعات من صُلب العقيدة الدينية، فتلتقي مع الدين في الموضوع، ولكنها تختلف معه في المنهج والرؤية، وربما يكون كثير من فلاسفتها ومفكريها هم من المنكرين لعقائد الإيمان، ولكن هذا لا يمنع من وصف فلسفتهم بأنها "فلسفة دينية" ولكنها ليست فلسفة لاهوتية إيمانية، فخذ آراء فيورباخ في الدين وفلسفته، فيمكن أن نكتب موضوعاً عنوانه الفلسفة الدينة في فكر فيورباخ، ولا يعني أن بحثنا سيحمل بالضرورة نزوعاً نحو الدين لا عندنا ولا عند فيورباخ، وهذا الأمر ينطبق على فلسفة هيجل المثالية التي سبق بها فيورباخ بفلسفته الدينية المادية، فهي أيضاً فلسفة دينية، وقد طرح أصولاً لها ومبادئ في كتابه "أصول فلسفة الحق، ولكنها لم تتحول لدين فلسفي وبقيت فلسفة دينية لها مُنطلقاتها الإيمانية في دمجه بين مفهومي العقل والروح المُسندة ببناء إستدلالي برهاني.

أما الدين الفلسفي، فكما أفهمه أنا هو مختلف جدا عن "الفلسفة الدينية"، فالماركسية - على سبيل المثال - قد تحولت إلى عقيدة تحمل في طياتها نزوعاً إيمانياً، بدت وكأنها دين أرضي من صنع البشر ضد دين سماوي، الماركسية كدين هي دين عوالمه المادة والوعي الطبقي والتفسير المادي للتاريخ ونقض الديالكتيك الهيجلي، فهي دين من نتاج البشر من حقك أن تقبله أو ترفضه أو تكفر به، منطلقاته ورؤاه إقتضت وجودها مرحلة تاريخية ما، وهي ليست مسلمات نهائية، ولكنها تحولت إلى دين فلسفي له صبغته الآيديولوجية الضاغطة، ولكن موضوعاته هي ليست موضوعات الدين السماوي، فهو يختلف عنه من حيث الموضوع والرؤية والمنهج.

أما ما طرحه فضل الرحمن في رؤيته للعرفان بوصفه "دين فلسفي" أو "فلسفة دينية" فهو مما يقع خارج توصيفنا للمفهومين اللذين بديا وكأنهما مفهوم واحد عنده، ويبدو لنا أن توصيف العرفان بأنه تدين إنساني، أكثر إنسجاماً مع رؤيته لتصوف السهروردي المقتول ولحلولية الحلاج ووحدة الوجود عند إبن عربي ولعرفانية ملا صدرا رغم نزوعها البرهاني.

 

د. علي المرهج

...............

للمراجعة، يُنظر: د.فضل الرحمن: الإسلام، تر: د.حسون السراي، مراجعة وتقديم: د.عبدالجبار الرفاعي، منشورات: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت/لبنان بالإشتراك مع مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد/العراق، ط1، 2017.

 

 

 

في المثقف اليوم