قضايا

الاغتراب والصوفية (1)

ali mohamadalyousifيختلف اغتراب المبدع منتج عملية الخلق الابداعي كثيرا – ما عدا استثناءات قليلة – عن انواع تجارب الاغتراب التصوفي اللاديني والديني السلبي المتصف بالجوانية والانغلاق والاستغراق في الذاتية والامعان في تدمير الذات بغية الوصول الى حالة خاصة من التسامي الميتافيزيقي. والاغتراب في مثل حالة المتصوف (تستخدم لإيضاح الطابع الذاتي لتجربة مدمّرة للذات) كما يشير (لويس فيوير) ويقرر ان اصطلاح الاغتراب يستخدم لايضاح السمة الانفعالية التي تصاحب أي سلوك يجبر الشخص على التصرف على نحو مدمر لذاته…(1)

بذلك تنعزل التجربة التصوفية رغم ما تتضمنه من جوانب في الاستبطان والكشف ونفاذ الرؤيا واعمال ملكة الحدس وتنشيطها، وهذه الصفات بمجملها عوامل (تخصيب) رؤيوية لتجربة الابداع الادبي والفني بشكله غير الاعتيادي، يخرج عن المألوف اذا ما تمكن المبدع من السيطرة عليها اراديا ولن تأخذه الى مهاوي تدمير الذات كما لدى المتصوف الديني… والاغترابية التصوفية السلبية غير المنتجة تعتبر من الناحية الاجتماعية السيسيولوجية معزولة منقطعة الصلة عن التأثير في الحياة العملية الواقعية للفرد والمجتمع بشكل ايجابي، في دفق الحياة وحيويتها وجدلها باتصافها انها لا تترك أثرا ايجابيا لدى المتلقي او المستقبل بما يغني تجربته ويثريها ويوسع دائرة الرؤية السليمة العلمية والاجتماعية لديه، وفي تعميق نظرته الحياتية التفاؤلية في قضايا وظواهر تخص المحيط والمجتمع الذي يعايشه بما تتطلبه مقتضيات العصر،  وتطلع الإنسان الى مستقبله باطمئنان حقيقي غير زائف ولا مشوّه.

والاغترابية التصوفية تتسم بالسلبية الاغترابية في الصميم لانها تجربة ذاتية غير خالصة الا في السعي لتحقيق نوع من علاقة حقيقية بالميتافيزيقيا او المطلق وبـ (الله) لدى الاغترابي التصوفي الديني (لا تؤمن بقيمة العمل الانساني وجدواه)(2)، (وانما تؤمن بالقدرة الالهية المطلقة التي تتجلى في الانسان وخاصة في اعمال المتصوف وافعاله)(3).

واذا كانت بعض التجارب الادبية – الفنية والجمالية في مجال الشعر خاصة والرواية والفنون التشكيلية، والغالب في الشعر والفنون التشكيلية، كانت مع انبثاق حركة التجديد عندنا والحداثة تستلهم التجربة التصوفية الذاتية وتستفيد من ابعادها ومعطياتها الرؤيوية الاستبطانية الكشفية وتوظيفها في تجاربها الابداعية …فالغالب على تلك التجارب انها خرجت على الناس وحتى بعض المتخصصين في مجال الابداع الادبي مغرقة في الذاتية والانغلاق والغموض المستعصي الذي لا يضيف جديدا يمكن الاعتداد به من ناحية سيسيولوجية في التجربة والتواصل مع الآخر. ولم ينج من هذا المطب سوى بعض التجارب التي استلهمت التجربة الصوفية بذكاء ونجاح في اسقاط بعض تجارب رموزها واحداثها التراثية على حراك الحاضر واضفت عليه بالاضافة للشكل الفني التعبيري الخاص (رمزا) مقنعا واسطورة مستترة خلف نزوع متمرد رافض للظلم الاجتماعي والاستبداد وامتهان كرامة الانسان وحقه في التعبير المتحرر عن فرديته وشخصيته الاجتماعية وتنميتها بما يليق وقيم العصر. ورفض الوصاية والنفاق والازدواجية في الموقف والسلوك المسخّر من قبل انظمة الحكم لتشويه معاني الحق والوقوف بوجه الطغيان…. الا اننا  يمكننا الجزم – الا في النادر – العثور على استلهامات تصوفية افادت في مجال توظيفها ابداعيا بما يمكن الاعتداد به … وليس هذا مجال الافاضة في هذه العلاقة.

***

نبذ هيجل بعد نضوجه الفلسفي (الدين والفن) واعتبرهما عاجزين عن التغلب على التشعب – الاغتراب – بين الانسان والعالم فالدين حالة تراجع الى الايمان بالعالم الاخر برأيه، والفن حالة نكوص الى التجربة الخاصة للفنان ويذهب الى ان الحل في الفلسفة من خلال شرطين مسبقين  الوجود،  والوعي المنفصل عنه.

ومهمة الفلسفة توحيد هذين الشرطين المسبقين أي في ارشاد الوعي الى وحدة جديدة واكثر سموا من هذه الكلية، والحل في الفلسفة لدى هيجل ليس صورة الافكار المجردة والتحليل والفهم، بل يقصد العقل الذي هو ليس (ملكة) ايضا وانما هو عملية تطور، تجاوز، ارتحال شرس.(4) (فالتجربة الصوفية لا يمكن بطبيعتها ان تبرهن على شيء لانها تعميق ذاتي وروحي للدين وتحويله من عقائد جامدة الى احساسات ذاتية، انها شحن لاشكاله الفارغة بعاطفة حارة متدفقة يتجاوز بواسطتها المتصوف الطقوس والرسميات والشعائر والمظاهر الخارجية التي يشترك فيها الجميع ليحول الدين الى تجربة ذاتية خاصة لا يشاركه فيها احد يعيشها بلحمه ودمه وكيانه)(5) . والتواضع الاغترابي للمتصوف كما تذهب له الفلسفة الميتافيزيقية الالمانية (هيجل) و(سبينوزا) و(شلنغ) غرور مقلوب وايمان اناني ذاتي فرداني لا يبحث الا عن خلاص صاحبه ولو غرق الاخرون (6) . ويصف (هيجل) التصوف الديني قائلا : (يتسامي الانسان لذاته من الحياة المحدودة الى الحياة المطلقة ومن يحقق هذا التسامي بالذات يضع نفسه خارج ذاته المقيدة ويوجد ذاته بصورة وثيقة مع الحياة المطلقة التي تتخلل العالم. وفي هذا التوحد الصوفي – المادي يبقى الانسان اقل ما يمكن مما هو محدود ومفيد)(7).

والصوفية لدى (جاكوب بوهمه) تهتم بمعالجة احادية للوجود مخلفة ورائها علاقة الانسان بالوجود الانساني الاخر … ويذهب سورين كيركارد (1813-1855) في معنى التصوف ان لايكون اغترابا خلاقا نظرا لما يستشعره المتصوف من الكبرياء انه يتوهم ان الله قد آثره على الاخرين فخصّه بمحبته من دونهم ونعى (كيركارد) على المتصوف انهزامه في معركة الحياة وتنكره لاقرب الناس اليه حتى يخالهم غرباء يضاف الى ذلك اغراق المتصوف في الميتافيزيقيا والتجريد.(8)

وقد المحنا ربما كان الاغتراب – التصوفي الديني  الوجه العصري للاغتراب في مراحله البعيدة من الوجود الانساني، كما تذهب له الانثربولوجيا اذ يعتبر (فويرباخ) الاغتراب الديني  اصل ومنشأ كل اغتراب فلسفي او اجتماعي، نفسي او بدني على اعتبار –حسب رأيه- ان الفلسفة والدين هما شئ واحد يتمايزان بالصورة فقط – يقصد صور التعبير- ولانه هناك وجودا مفكرا واحدا (9).

وبذلك اصبح اغتراب الانسان جدلا وجوديا في علاقة الانسان بالطبيعة . كما لا يعتبر (فويرباخ) اللاهوت علم عمل تصوفي كما هو الحال في الاساطير الدينية بل باعتباره مرضا نفسيا يعبر عن اهتزاز شعوري وارتجاج في المخ وهلوسة واضطراب، كما ان فناء الصوفي في الله في اغترابه ينتهي الى افناء الوعي الانساني(10)، ويذهب جون هرمان راندال الى ان التصوف(11)، يمتلك حقيقة خافية عن مسالك المعرفة الاعتيادية لا يمكن ان تنكشف الا لعقل فردي في هيئات معينة من الكشف والتجربة الصوفية الكشفية مما لا يمكن وصفه اطلاقا حتى لتبدوا على عداء مع جميع محاولات التعبير الاعتيادي. وقد حاول الصوفيون الدينيون ان يحلّوا تجاربهم في صورة صلوات او غزليات . والتصوف ليس حدساً وان كان مشابها في بعض تجلياته وتعبيراته للحدس البرجسوني ويشتركان – التصوف والحدس – انهما لارمزيان ايضاً أي لايمكن التعبير عنهما باللغة لصعوبة توصيل تجربتهما للاخرين.

يتحدث (اريك فروم) عن (اغتراب اللغة) وذلك في اثناء مناقشته للموقف الذي يصبح المرء فيه واقعا تحت وهم ان نطق الكلمة يعادل التجربة. وفي هذا الموقف فان اللغة تجعل من نفسها بديلا عن التجربة المعاشة وبالتالي تكف عن ان تكون ما ينبغي ان تكون عليه. أي رمز للحقيقة ولهذا يصف اريك فروم بان اللغة مغتربة(12).

ان اغتراب التصوفي في علاقته الاغترابية مع الميتافيزيقي او المطلق من جهة، وعلاقة اضطرابية اللغة في عجزها من نقل تجربته من جهة اخرى عندها يكون اغترابه مركبا، وهو مشابه تماماً للاغترابية المسرحية التي يطلق عليها برتولد بريخت في مسرحه الملحمي  (تكنيك الاغتراب Alienation-Technique)(13)، الذي يشتمل :-

اغتراب لغة التجربة عن التجربة الاغترابية المعاشة ذاتها واستحالة وجود حالة (تطابق) في نقل الحقيقة.

اغتراب التجربة – اللغة في عدم القدرة في التواصل والتوصيل مع الاخر.

اغتراب ذات التصوفي عن ذاتها الحقيقية المثلى بشكل غير سوي انفصام مرضي، عندما يتوهم التصوفي ان تجربته ليست اصيلة غير زائفة وحسب وانما هي جوهر الحقيقة الاغترابية لمقدار ما يتصوره من وجوب ان تكون علاقة الاشياء والظواهر في الحقيقة تمر او ضرورة ان تمر من خلال تجربته… ولا يدرك انها (وهما) اغترابيا بعينه ليست صحيحة اطلاقا بالقياس للعلاقات السليمة السوية التي ترتبط بحقائق الاشياء كموضوع او مواضيع قائمة بذاتها. ومعضلة اغتراب اللغة تقود لما يطلق عليه (اريك فروم) (اغتراب الفكر)(14)، فهو يستخدم هذا التعبير ليميز الموقف الذي (يعتقد فيه المرء انه يتأمل ملّيا شيئا ما وان فكرته هي نتاج نشاطه الفكري) ذلك بينما الحقيقة (انه قد احال عقله الى اوهام الرأي العام والصحف).

***

الصوفية تجربة ذاتية سلبية منقطعة فردية عن قدرة إفادة الاخرين في تجاربهم المغايرة وحياتهم الواقعية الاجتماعية الانسانية والثقافية، كما ان التصوف بمعنى مناهض للنزعة الفكرية يتطلب التخلي من قريب او بعيد عن الاستقصاء. والتصوف البرجسوني كما يفهمه برجسون ويدحضه المفكر د.صادق جلال العظم يتحدد بالمظاهر التالية:-

1- ان التصوف الكامل بزعم (برجسون) يتمثل في التصوف المسيحي وماعداه في مثل الاسلام واليهودية والاديان الاخرى غير السماوية كما في البوذية والهندوكية والزرادشتية فان التصوف فيها ناقصا !! لانه لا يتخطى حدود مرحلة الوجد والتأمل والنشوة ولا يتتوج بالعمل والفعل بل يكتفي بالتأمل (15).

2- ان الحدس الصوفي يكشف لصاحبه ماهية الحقيقة  الميتافيزقية المطلقة (الله) بصورة مباشرة لا تعتمد على التصورات ولا على العقل ولا على الافكار مطلقا. انه نوع من المعرفة الفائقة للعقل وتعطيل لوظائف العقل النقدية كشرط لتحقيق التجربة الصوفية الكاملة(16).

3-  ينفرد التصوف المسيحي، التصوف الكامل الحقيقي بنظر برجسون بثلاث خصائص هي العمل والخلق والمحبة (17).

4- يعتبر برجسون تصوف الفيلسوف اليوناني افلوطين تصوّفا ناقصا لانه لم ينته بالعمل بل توقف عند حد التأمل والنشوة وان افلوطين يتنكر للعمل عندما قال: (ان العمل يضعف التأمل) وظل امينا على النزعة العقلية اليونانية .

وبعد ان يدحض المفكر د.صادق جلال العظم الفقرات الواردة اعلاه ويبطلها يعقّب على فهم برجسون للعمل الذي قصده افلوطين بقوله : (ان فهم برجسون للعمل هو غير فهم افلوطين له فالعمل الذي يضعف التأمل لدى افلوطين هو العمل الذي يغرقنا في توافه الحياة وتفاصيلها المتكررة الرتيبة وليس العمل الخلاق المنتج)(18).

5-ان تصوف البوذية تعلم الانسان اطفاء ارادة الحياة على حد تعبير برجسون .

يتبع في ج2

 

علي محمد اليوسف الموصل

..................

(1) شاخت ص 300.

(2) دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة، الاستاذ د. صادق جلال العظم، ص 193.

(3) نفس المصدر السابق، ص 87.

(4) شاخت، ص 88.

(5) شاخت، ص 314.

(6) عالم الفكر مصدر سابق، د. حسن حنفي،ص 44-45.

(7) شاخت ص83.

(8) الصراع في الوجود، مفهوم كيركارد للتصوف، بولص سلامة ص157.

(9) عالم الفكر، مصدر سابق، د.حسن حنفي ص45.

(10) نفس المصدر السابق، ص57.

(11) مدخل الى الفلسفة- جون همان راندال – جوستاس بوخلر، ترجمة د.ملحم قربان، ص123.

(12) شاخت،ص197.

(13) سنعرض لذلك في مبحث الاغتراب وتغريب بريخت.

(14) شاخت ص197 ايضاً.

(15) الدراسات في الفلسفة الغربية الحديثة، مصدر مشار له سابقا د. صادق العظم .ص179-181

(16) نفس المصدر السابق نفس الصفحات

(17) نفس المصدر السابق ص190

(18) نفس المصدر السابق،ص186

 

 

في المثقف اليوم