قضايا

جدلية الخِسِّة والبؤس في مجتمع المتعة

alhusan akhdoush2(إنّ هذا الحيوان البشري مركّب على أن لا يكون فاضلا عفيفا إلاّ بعيب فيه) .. أناتول فرانس(1)

نروم في هذا المقال التنبيه إلى خطورة نموذج الخسّة(2) في الاجتماع المدني المنشد للتغيير الايجابي والانعتاق من رِبْقَةِ التخلّف. يكمن أساس هذا القول في اعتبار سلوك الخسّة قرين وجود نموذج البؤس، حيث نعتبر تضايفهما سببا في نشر الانحلال الخلقي والمُيُوعَة الثقافية بمختلف تجلياتها السياسية، والاجتماعية، والتربوية، والأخلاقية.. الخ

ندّعي في هذا القول أنّ السلوك الخسّيس ليس سوى نتيجة لتراكم تربوي / ثقافي واجتماعي سلبي، أفضى تأثيرها على الأفراد إلى بروز ظواهر مرضية سواء في السلوك أو على مستوى التمثّلات والأفكار والخيالات، نتيجة لعدّة موانع سلبية حالت دون تنمية سليمة لشخصية الفرد وتحرّره من الوهم. بينما ينمّ نموذج البائس عن المهانة والسلبية في نفس الاتجاه المتساوق مع الخسّة، من حيث كونه يوفّر الفرصة للخسّيس كي ينشط فعله ويتكاثر ويتعاظم. لذلك لا يتوانى الإنسان الخسّيس عن تدبير سلوكه انطلاقا ممّا يوفّره الإنسان البائس من شروط وظروف ملائمة لاشتغال الخسّة والبؤس معا.

تعمل ثنائية الخسّة والبؤس، وفقا لهذه العلاقة، على جعل الأفراد مجرّد أدوات لإنتاج جدلية الخسّة والبؤس القيمية والسلوكية الخطيرة على سلامة المجتمع. وتعمل هذه الجدلية على إنتاج قيم مشوّهة، وسلوكات نمطية رديئة عمادها الخوف والتملّق، الوضاعة والمكر وحب الشر للآخر والتلذّذ بذلك. ندّعي أيضا أنّ البائس من الناس شخص وقع عليه فعل فساد الفاسد بإرادة منه أو بدونها حسب الحالات، فتكون سلوكاته الناتجة عن التعرّض لهذا الفعل حالة انحراف «Déviance» مؤثّرة سلبا على الثقافة.

ولأجل فهم كيف تتم جدلية البؤس والخسّة في اجتماع الأفراد في مدينة غير فاضلة بمفهوم الفارابي للاجتماع المدني،(3) حرّي بنا معرفة معنى الخسّة والبؤس أولاّ؛ ثم بعد ذلك نرى كيف تسبّب جدليتهما الانحراف والانحلال. فما الخسّة؟ وما البؤس؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟

يلزمنا لبحث معنى اللفظتين (الخسّة والبؤس) بداية استقراء مدلولاتها في المعجم العربي.(4) وقد جاءت الخَساسَة في اللسان العربي من مصدرُ الرجل الخَسِيس (Odieux)، وهو البَيِّن الخَساسَة. نقول في اللغة العربية: الشخص الخَسِيسُ، فنقصد الدنيء؛ أمّا قولنا: خَسَّ الشيءُ، يَخَسُّ، ويَخِسُّ، خِسَّةً، وخَساسَةً؛ فمعناه: خسِيسٌ ورَذُل. وقولنا شيء خَسِيسٌ، وخُساسٌ ومَخْسُوسٌ، معناه: تافه. ورجل مَخْسُوسٌ يعني مَرْذُول، ومنه قوم خِساسٌ وهم أَرذال الناس. والخَساسَةُ هي الحالة التي يكون عليها الخَسِيسُ.

والبيّن من هذه المعاني اللغوية أنّ معنى الخَساسَة يفيد الحالة التي يكون عليها الخَسِيسُ من الناس، الذي أتى بأفعال وضيعة ورذيلة. إنّ الخسّيس إنسان مخادع يعمل على جعل سلوكه أفعالا فيها الخداع والكذب والمراوغة وعدم الصدق. والرجل من هذا الطينة إنسان مذموم ومنحرف «Déviant» على جادّة الصواب؛ فهو يخفي الحقيقة، ويمارس الظلم، والإجحاف، والاستغلال، والعدوان، والاغتصاب، والاحتيال، والتنقُّص، واللؤم، والدناءة، والغيبة، والكراهية، والحقد، والحسد، والنميمة، والشتائم، والسرقة، والسطو، والكذب، والبهتان، والخداع، والغدر، والافتراء، والخيانة، والمؤامرات، والمكر، والتسويف، والتزوير، والتلفيق، والتجاهل، والإيذاء، والامتهان، وحجب الحقائق، واختلاف الوقائع، ومختلف أشكال الخسّة.

هكذا، تظهر خطورة نموذج الخِسّة في الانحراف الذي يسبّبه للمجتمع بتشويه قيمه الفاضلة. وتتعاظم خطورة أفعال الاجتماع الخسّيس بإحلاله لقيم الرداءة والرذيلة محلّ الأصيلة والصالحة لجماعته. وعندما يُضاف إلى هذا النموذج السيئ، نمط اجتماع سيئ آخر(البؤس) تصبح النتائج كارثة على الثقافة والاجتماع؛ إذ ينجم عن تضافرهما تخلّف اجتماعي شديد ومرير يشمل مناحي عدّة.

يعد البئيس (Le misérable) في الاجتماع المدني المعتل (وهو من بئِسَ، وحياة بائسة) نموذجا للعضو المدني الذي يعيش وضعية يُرثى لها، نظرا لوضعية الفاقة والعوز التي هو عليها. إنّه فرد اجتماعي غير محظوظ، فلا هو سعيد من حيث لاَ عَمَلَ قار لَهُ، ولا وزن أو مكانة له في "اجتماع الخسّة" (الجماعة التي يسودها اللهث وراء اللذة والمنافع الحسية في تعريف الفيلسوف الفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة).(5)

يعتبر نمط حياة البؤس استتباعا لنموذج الخسّة، من حيث هو كائن اجتماعي مُعْوِزٌ يعيش حياة المهانة والاحتقار في بُؤْسٍ وفقر وفاقة، وتشتدُّ حاجتُه إلى مساعدة الآخرين. ينطلق الخسّيس من هذا الواقع ليظهر عنايته بالبائس من الناس، ادّعاء منه الرحمة والشفقة، لكنّه في الأساس هو نفسه السبّب في بؤس هذا البائس، من حيث خداعه له وسرقة حقّه واستيلائه على نصيبه من الثروة في المجتمع بأساليب المكر والمخادعة.

والواقع أنّ سيادة الخسّة وانتشارها في المجتمع يفرز ظهورا ملحوظا لنماذج البؤس والعوز من مختلف الأشكال (الأيتام، المشرّدون، المجانين، اللقطاء، وكلّ أنواع وأطياف البؤساء)، حيث تنتشر العاهات الاجتماعية والأخلاقية والنفسية، ويكثر الاسترزاق والاستجداء، فتنهار منظومة التكافل الاجتماعي وتختلط الأمور على الأفراد الأعضاء في المجتمع بين من يستحق ومن لا يستحق، نتيجة كثرة الشحاذين والمسترزقين.

كما ينجم عن هذا الوضع، سيادة ثقافة الانتهازية والتواكل التي تتولى هدم كلّ المقوّمات الجيّدة للثقافة الأصلية، فيختلط الإحساس بالغبن مع الرغبة في فعل الخير والإحسان. لذا، يكتشف الناس مدى استغلال معاناتهم من طرف غيرهم، فتنتشر بينهم آلية الاحتقار وازدراء بعضهم البعض. وقد يكثر النشل والتسوّل بينه ضعّافهم بموازاة مع رغبات جامحة في المخادعة والمخاتلة.، ممّا يبرّر لاجتماعهم الانحدار والسقوط والانحطاط.

تعمل الخسّة على تشويه القيم النبيلة والايجابية للاجتماع البشري والتلاعب بها، ويحدث استغلال النوايا الطيّبة، واستثمارها لصالح ما يخدم منافع الخِسِّيسين في الواقع. يخطّط نموذج الخسّة هذا جيّدا لأجل تحقيق مصلحة أصحابه الضيقة؛ لذلك يعادي الشخص الذي يجسّده كلّ ما من شئنه أن يهدّد الحالة التي عليها في الواقع. فالكائن الخسّيس يعمل، وفقا لذلك، على تدبير جيّد لاستغلال سذاجة البؤساء وحاجتهم إلى تقديم العون.

غير أنّ مناورات الخسّيسين لا تقوم على اعتبارات عقلانية صالحة (Valide) ومتّفق عليها، بل فقط على ما درج المغاربة على تسميته بالعامية المغربية "تاحريميات"، أو الحماقة بالمعنى الدولوزي للكلمة (La bêtise)؛ حيث يُفرض على بؤساء الناس وسذّج المجتمع أن يصدقوا الكذب على أنّه صدق، والخطأ على أنّه صواب جرّاء تدبير المخادعين الماكرين، وغلبة حماقاتهم وخسّتهم على مجريات الأحداث في المجتمع.

فضحا لهذا النمط من التدبير الجاهل، سبق للفيلسوف أبو نصر الفارابي أن دقّق الوصف، حين تحدّث (في معرض كلامه عن المدن الجاهلة) عن فساد اجتماع الخسّة وانحطاطه، بحقّ اجتماع الخسّة الذي يعاون أعضاؤه فقط على التمتّع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح، واختيار الألذّ "طلبا للذّة والمحسوس والتخيّل وإيثار الهزل واللعب بكلّ وجه ومن كلّ نحو".(6) بينما يبقى أفضل أعضاء مدينة الخسّة هاته وأسعدهم وأغبطهم، هو كلّ من تأتّته أسباب اللعب أكثر ونال الأسباب الملذّة أكثر.(7)

يغلب على تدبير اجتماع الخسّة لشؤونهم ومصالحهم المَكْر والخَدِيعة لنيل لذاتهم ومُناهم. غير أنّهم في سعيهم ذاك لا يستثمرون ملكاتهم العقلية والفكرية في تحصيل ما يوافق الفضيلة الخُلُقِية الحقّة، وإنّما يقتصرون في تدبيرهم المدني على ما يتماشى وأهوائهم. ينتهي الخِسِّيسُون من تسخير جهدهم إلى تكريس التدبير الماكر، فينتجون بذلك الآلام والشرور نيلا لمرادهم،(8) وتحقيقا لشهواتهم ومسايرة لنزواتهم.

يُستشفّ من هذا الكلام أنّ أعضاء اجتماع الخسّة يغلبهم الهوى، ويُرَكِّب الجهل في نفوسهم وَهْمَ التدبير النفعي لمصالحهم. نتيجة لذلك، يُفْضي هذا النوع من الاجتماع المدني المتهافت إلى جعل أعضائه كائنات مدنية مخادعة مراوغة. يشمت وضيعهم الفاضل منهم، ويستصغر كبيرهم صغيرهم، ثمّ يشيع فيهم الاحتقار اعتدادا منهم بمتعهم وكثرة مقتنياتهم، وبذلك تنطبق عليهم قولة أناتول فرانس "نحن إذا زيّنا ملذّاتنا جوّدنا أيضا آلامنا".(9)

 

ذ. الحسين أخدوش - * كاتب من المغرب

...................

(1) آراء أناتول فرانس، ترجمة عمر فاخوري، نشرة مؤسّسة هنداوي، القاهرة، مصر، سنة 2015، ص 20.

 (2) نستعمل مفهوم الفارابي الأخلاقي لمدينة الخسّة، ونقصد به نفس التعريف الذي يورده هذا الفيلسوف في معرض حديثه عن المدن الجاهلة المضادة للمدينة الفاضلة كما يتصوّرها ومضاداتها من المدن الجاهلة. يمكن الرجوع بهذا الخصوص إلى كتاب أبو نصر الفارابي المسمّى: آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري نادر، نشرة المطبعة الكاثوليكية، بيروت، لبنان، 1959.

(3) نقصد بذلك حديث هذا الفيلسوف المدني عن كيفية الاجتماع المدني الفاضل، حيث يعتبر أنّ " صحّة المدينة واستقامتها هي اعتدال أخلاق أهلها، ومَرضُها التفاوت الذي يوجد في أخلاقهم. "، أنظر بهذا الخصوص كتابه: فصول منتزعة، علق عليه وجمعه فوزي متري نجّار، نشرة دار المشرق، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان.

(4) أنظر بهذا الخصوص معجم لسان العرب لابن منظور.

(5) أبو نصر الفارابي: كتاب أراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نصري نادر، نشرة المطبعة الكاثوليكية، بيروت، لبنان، 1959.

(6) أبو نصر الفارابي: كتاب أراء أهل المدينة الفاضلة، ص 36.

(7) أبو نصر الفارابي: كتاب السياسة المدنية الملقّب بمبادئ الموجودات، تحقيق فوزي متري نجّار، النشرة الأولى 1964، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، لبنان. ص 89..

(8) عبد الله عاصم: دروس للأغنياء في الأخلاق، الإنتاج الأدبي 2، الطبعة الأولى 1980، ص 46.

(9) أناتول فرانس، مرجع سابق، ص 56.

 

 

في المثقف اليوم