قضايا

جذور صراع الأنا والآخر وتشكل الهويات الفرعية

ali almirhigلصراع الأنا والآخر تجليات كثيرة، في خطابنا العربي والإسلامي الكلاسيكي والحديث والمعاصر، ففي الخطاب التراثي "الكلاسيكي" شكلت الفلسفة خطاب "الآخر" المختلف، الذي يُهدد حضور الأنا = "الفقهية والكلامية" وحتى اللغوية على مستوى فاعلية وحضور المنطق الأرسطي في مقابل فاعلية وحضور النحو العربي، ولكن من أبهى تجلياته هو صراع الفقهاء مع الفلسفة من جهة وصراع الكلاميين من جهة أخرى، وقد شكل التبني السياسي لإتجاه فقهي أو كلامي شكل ونوع الصراع مع الفلسفة في الرفض الكلي أو القبول ببعض مُتبنياتها، لا سيما في المنطق، وكان لردود الغزالي على الفلاسفة، وتكفيره لهم بثلاث قضايا في كتابه "تهافت الفلاسفة"، السبب الأساس في تلاشي الفلسفة وفاعليتها في المشرق العربي، لتنشط في مغربه. لتكون الفلسفة أكثر ألقاً في المغرب العربي منه في المشرق العربي، مع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد الذي صارت فلسفته بعقلانيتها وبطابعها البرهاني، أحد أهم أسباب نهضة أوربا الذي إنتقلت لها الفلسفة الرشدية، بعد إحراق كُتبه، وعدَها كُتباً خارجة عن الملَة وعلوم الشريعة والفقه الإسلامي، على الرغم من أن ابن رشد كان قاضي قُضاة قُرطبة وهو المُتفقه بعلوم الدين والفلسفة على حدٍ سواء، وكتابه "بداية المُجتهد ونهاية المُقتصد" يدل على تبحره في علوم الفقه، ولكن كل ذلك لم يشفع له عند الخليفة (أبو يوسف المنصور الموحدي)، بعد أن أقنعه الفقهاء أن ابن رشد زنديق يُريد أن ينشر علوم الزنادقة للنيل منه ومن تميزه عليهم في عوم الفقه وهي علومهم وفي علوم الفلسفة، فما كان منهم إلَا أن يكيدوا به، ولم يكن لكيدهم هذا أثراً قليلاً في تاريخ التحول الفكري في النهضة الفكرية التي غادرها المسلمون والعرب منذ مُغادرتهم وتخليهم عن فلسفة وعقلانية ابن رشد، فتلقفها الغرب لتكون هناك مدرستان رشديتان لاتينيتان: الرشدية المؤمنة التي بنى عليها توماس الأكويني جُل فلسفته الإيمانية، فقد لاحظ محمود قاسم في كتابه "نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها عند توماس الأكويني"، فقد توصل إلى أن نظرية ابن الأكويني في المعرفة ونظريته في العلم الإلهي ما هي إلا "ترجمة حرفية لنظرية إبن رشد" (ص27، محمود قاسم). والرشدية الملحدة التي عدها رينان فلسفةً لا إبتكار فيها، وهم ليسوا سوى مُلَخصين للثقافة اليونانية، لأنها ليست من صُلب أو أصل عقيدتهم "المسلمين"، بسبب تعصبهم الديني، (يُنظر: إبن رشد والرشدية، ص23ـ25). "لإإنه كلما قيل عن فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أُطلقت العامة إسم زنديق" (رينان" ص52) وهناك من قوَل غبن رشد ما لم يقُلهُ بالقول بأنه "كان نصرانياً، في البُداءة، ثم صار يهودياً، ثم مُسلماً، ثم كفر بكل دين" (رينان، ص307).

وأنا هنا لست بصدد شرح فلسفة ابن رشد، إنما بصدد إيضاح تمظهرات الأنا والآخر في الثقافة العربية والإسلامية، حينما كانت الفلسفة آخر، مشكوك به وبمقدار تفاعله الثقافي بوصفه وافداً مع البيئة الثقافية المتأصلة في الشعور والوجدان. ورغم كل آمال الفلاسفة والحُكام الداعمين لها إلَا أنها بقيت ثقافة نابتة لا ثابتة بعبارة إبن باجة، فالثوابت هي الفقه وعلوم الشريعة وعلوم أصول الدين، والنوابت هي الفلسفة التي لم يلج في معتركها العقل الفلسفي العربي والإسلامي، سوى للتسلح بعدتها "المنطقية" لجعلها آلة للدفاع عن علوم الدين وتوظيف منطقها لنعصم عقولنا به من الوقوع بالزلل.

ولم يكن عصر نهضتنا العربية الحديثة مع الطهطاوي أو مع الأفغاني وتلميذه محمد عبده وكذلك خير الدين التونسي ببعيد عن رؤيا ابن رشد في التوفيق بين الفلسفة والدين، ولكن مع إعطاء الأولوية للتسلح بعلوم الفقه للتمكن من قراءة الفلسفة لما فيها من شُبهات، فجميعهم لا ينصح بقراءة الفلسفة إلَا بعد قراءة علوم الشريعة والتفقه بها، لأنها (الفلسفة) من علوم الخاصة، ومن العلوم "المضنون بها على غير أهلها"، لأن قراءتها من دون التفقه بعلوم الشريعة قد يؤدي إلى الشطط عند العامة، وهذا هو ما كان الغزالي يرنو له ويُنشده في شرحه للفلسفة في كتابه "مقاصد الفلاسفة".

وما كان للفكر العربي المعاصر ان يتخلص من سطوة هذه الرؤية وهيمنتها على الثقافة العربية بطابعها المجتمعي الميَال للإنضباط الشكلي ومقتضيات ومتطلبات الهيمنة الفكرية والثقافية للخطاب الفقهي والديني بكل تجلياته وتمظهراته، وإن كان هناك بعض من المفكرين قد حاولوا التخلص أو التملص من هذه السطوة والهيمنة، إلَا أنهم سايروا رؤاها التفسيرية ببعدها الديني أو حاولوا تأويل النص الديني "المقدس" وفق مقتضيات التأويل والتنزيل التي يُرجحها العقل الإنساني في ضوء "التفسير الموضوعي" للقرآن، أو في ضوء مبررات العقل المدني "العلماني" الذي يروم تطبيقلت مقولات "العقل الوضعي" على "النص القُدَسي" بما هو مُتاح من مساحة فيه سماها السيد محممد باقر الصدر بـ "منطقة الفراغ" التي تفسح للعقل الإنساني حرية التفسير والتأويلالتي إقتضلها وجود الإنسان العاقل الذي يُشارك ببعث روحية جديدة للنص القُدَسي كامنة فيه، جعل الله لهذا العقل إمكانية فهم صيرورة الوجود الطبيعي المتساوق مع مُعطيات النص ببعديه الزماني والمكانين بما لا يجعلنا نظن أنه قد فقد أحد أبعاده، بقدر ما يجعلنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هناك فُسحة للعقل اللبشري كي يكون مُشاركاً في فهم أسباب وجوده ووجود العالم الطبيعي، بما يحفظ للعقل الإلهي أزليته وديمومة سرمديته التي لا يعتريها تغير ولا تبدل.

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم