قضايا

الفلسفة الجوانية عند عثمان أمين وجذورها المعرفية

ali almirhig"اذا كان للرأس عينان. فللقلب أعين"

إن الإتجاه المثالي في الفكر العربي الإسلامي يقترب من فكر محمد عبده وإن كان متأثراً بالفكر الغربي وقد مثل هذا الاتجاه (عثمان أمين) بفلسفته التي أسماها (الجوانية) والتي طرحها ضمن أحد أهم مؤلفاته التي حملت الأسم نفسه الذي سنوثق لآرائه في تبنيه للفلسفة الجوانية في مقالنا هذا من كتابه "الجوانية" بالصفحات، ومن أهم كتبه (ديكارت) و(محمد عبده رائد الفكر المصري)، ومن كتبه المهمة أيضا (رواد الفلسفة المثالية).

ومن أهم مقومات فكر عثمان أمين هي:

تغليب الجانب الروحي على الجانب المادي بمعنى أنه يركز على ضرورة إستنهاض الروح أو (الطاقة الجوانية) بعبارته التي يمتلكها الإنسان العربي المسلم والتي ميزت حضارته بوصفها حضارة روحية في مقابل الحضارة الغربية ذات الطابع المادي أو الذي تغلب عليه السمة المادة أو الفكر المادي ولذلك نجده يعتقد بإمكانية المواشجة (الموافقة) بين معطيات القلب ومعطيات العقل في محاولة منه للتعريج على بيان أهمية النظرة الروحية (التي تسم الدين) والطابع العقلي (الذي يسم الإنسان) والذي يدفع بالإنسان إلى معرفة كنه العالم لذلك نجده كثير الإيمان بالقدرة والحدس والروح فضلا عن العقل أو على دعم العقل ومعطياته. وهذا من أثر ديكارت على فلسفته التي تبدأ بالحدس والذي يعني المعرفة القبلية البديهية التي لا تحتاج إلى واسطة والتي تساعد العقل في بناء استدلالاته فضلا عن ذلك أن المعرفة الحدسية عند عثمان أمين كما ذكرنا تقترب من فلسفة برجسون الذي يؤمن بالديمومة والصيرورة وقدرة الإنسان الباطنية في الوصول إلى المعرفة اليقينية.

كما أن الموافقة بين العقل والدين لديه ضرورية، ولم يستبعد العودة إلى التراث، لا سيما التراث الإسلامي بطابعه الديني "الروحي" كوننه يعتبر الدين منبع النزعة الإنسانية.

الجوانية بعبارة عثمان أمين عقيدة مفتوحة تأبى الركون الى "مذهب" أو الوقوف عند"واقع" وتتجه الى "المعنى" و"القصد" من وراء اللفظ والوضع وتنحو الى "الفهم" "والتعاطي" لا الى الحفظ والتقرير، وتدعو الى العمل البناء، مؤسساً على النظر الواعي وتلتفت الى الإنسان في جوهره وروحه لا في مظهره واعراضه.

يعدها عثمان أمين فلسفة ثورة لأنها تحاول تحقيق أمرين في مرحلة تطورنا التاريخي:

الأول عودة الى ماضينا ومراجعة له. والثاني التوجه نحو المستقبل والإعداد له.

وهي "فلسفة ثورة" ـ بعبارته ـ لأنها تنشد المثل الأعلى في عليائه ولأنها تؤمن بأن القوة المحركة للتاريخ هي قوة المبادئ وإرادة التغيير.

أما أهم منطلقات رؤيته فهي:

ـ تأمل روح الدين والاخلاق عامة.

ـ تأمل القرآن وأحاديث الرسول خاصة.

ـ الفلسفة الاسلامية لاسيما فلسفة الغزالي ومحمد عبده في الفكر الاسلامي الحديث.

ـ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، لاسيما الفلسفة الديكارتية والبرغسونية بشكل خاص والفلسفة المثالية بشكل عام.

ـ التاريخ المصري الفرعوني.

تُركز الجوانية على :

ـ إستهاض الروح والعودة الى القلب في صفائه.

ـ التركيز على الايمان والاخلاص بوصفمها أهم مظاهر نقاء الروح.

ـ العودة الى الدين، وجوهر الدين هو الايمان، وهو الذي يؤلف بين مصالح النفوس ومصالح الأبدان ويوائم بين متع الروح ومتع الحواس وهذه هي ما يسميها عثمان أمين "الوسطية" الاسلامية التي التي لم يعرف أغلب المسلمون كنهها الحقيقي. فإتجهوا الى "البرانية" التي جعلت التباين واضح بين الأقوال والأفعال، وإبتعاد العبادات عن روح العقيدة السمحاء وإستغلال أحكام الدين في تحقيق المآرب وتبرير النزوات.

الجوانية اذن في حقيقتها فلسفة مثالية أخلاقية مساحة الفكر فيها أوسع من مساحة الواقع لأن الفكر هو التعبير عن الواقع وبعبارة أمين "أن كل الكلام عن الظاهر أو الوقائع أو الحقائق هو في صميمه نظر وتأمل وتفكير قد إنفصل وتجرد منذ زمن عن مجال المحسوس والمشهود والعيان" وحينما تركز على مجال الفكر فهذا لايعني ان الجوانية ضد العلم الذي يدرس الموضوعات في مظاهرها الحسية، ولكن الفلسفة الجوانية كما يرى عثمان أمين "لا تقنع نتائج الدراسات العلمية البحتة، وهي تلتمس دائما لتفسير تصرف الكائن الانساني في الفكر أو في السلوك ماوراء الظاهر أي ماهو جوهري وأصيل"ص24.

والجوانية لاترى أن هناك تنافراً بين العقل والحدس، لأن العقل يدرك الحقيقة كما الحدس لكن العقل يدركها تجزئة وتبعيضاً، في حين يدركها الحدس إحاطة وإجمالاً وهو يستشهد بالغزالي في هذا الصدد فالعقل بتعبير الغزالي " منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة؛ والحدس لا يكون إلَا بعد تحصيل المعارف وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها، وتحصيل العلوم لا يكون إلَا بالفعل"ص25.

هذا يعني أن الجوانية هي "محاولة للتعبير عن الإيمان بضرورة الميتافيزيقا، وكرامة المعرفة وسلطان الأخلاق..."ص26.

أما مفهوم اللذة الحقة في الفلسفة الجوانية فهي "التي تكون خالصة من علائق البدن وينبغي ألَا تُلتمس إلَا ترويحا للنفس من العناء، أما اللذات الحسية الآثمة فلا حد لما تجره من تلف للبدن وللنفس جميعاً"ص60.

 "وحيثما يكون الضمير تكون الأخلاق الكريمة ويكون الدين الصحيح"ص96.

ومن يمتلك الضمير الحي يمتلك العقل الحي لذلك نرى عثمان أمين يتفق مع ديكارت بالقول "أن اولئك الذين منحهم الله عقولا لا بد أن يستعملوها في السعي الى معرفته تعالى والى معرفة انفسهم"ص96. لذلك يرى أن الفلسفة قد تنقلب كلها قبل إنقضاء نصف قرن الى فلسفة دين أو فلسفة أديان ، وتسود العاطفة الدينية أرجاء هذا العالم الحيران، ص110.

خلاصة القول ، فالجوانية طريقة في التفلسف ، بل هي تفلسف مفتوح على النفس وعلى الدنيا ، متعرض لنفحات السماء في كل لحظة ، وطريق مبوط امام الوعي ينتظر "السالكين" الى يوم الدين ، وهي تحاول ان ترى الاشخاص والاشياء رؤية روحية.ص113

يرى عثمان أمين ان الحرية بمعناها الصحيح يجب أن تكون محدودة بحدود العقل وهي ليس الإستعلاء أو التسلط على "الغير"، بل الحياة مع الآخر ولأجل الآخر. مستشهداً بقول الرسول(ص) "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولاتؤمنوا حتى تحابوا"ص114-115. فالحب لايأتي إلَا عن طريق الإيمان، والإيمان معرفة الله تعالى، ومعرفة الله تعالى تعني معرفة النفس فـ "من عرف ربه عرف نفسه" ومن عرف نفسه عرف معنى أن يكون حراً.

يرى عثمان أمين أن هناك فرقاً كبيراً بين "البراني" و "الجواني" لأن حركات النفس غير حركات الجوارح، فالوقوف عند ملاحظة الظاهرة مرادف للجهل ومؤد الى الخطأ في كثير من الأحيان .ص116-117

 "والحقيقة يجب أن تُلتمس دائماً وراء المظهر الخارجي"ص118 وهذا "الماوراء" هو الذي يعنيه أمين "بالجواني"، مستشهداً في ذلك بالقرآن الكريم وقوله تعالى" ليس البٍر أن تولوا وجوهكم قِبل المشرق والمغرب ولكن البٍر من آمن بالله واليوم الآخر.." البقرة /177.

وقوله تعالى " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان قلوبكم" الحجرات /14."ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم" وقول النبي (ص) "ان الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم. ص119

كان لنهج البلاغة للامام علي أثره البين في ما كتبه عثمان أمين، حينما يستشهد بقوله (ع) "ليست الرؤية كالمعاينة مع الأبصار فقد تُكَذب العيون أهلها ولاي غش العقل من أشخصه"، ص121.

الفلسفة الجوانية تهدف الى تدبير شؤون الدنيا وفقاً لهداية الخالق تعالى ووفقاً لتعاليم رسوله الذي إنما بُعٍث الى الناس ليتمم مكارم الاخلاق ... وهي بهذا الاعتبار تمارس الوظيفة الفلسفية على الأصالة : إلتماس اللب والمبدأ والكيف والحق. ص123، لذلك يؤيد أمين تقسيم الغزالي المعرفة الى معرفة " حدسية" المؤدية الى الجوهر الصافي وهي النور الذي يقذفه الله في الصدر وبين المعرفة "الحسية" أي معرفة الشيء من الخارج دون النفاذ الى كنهه. ص128-129.

إن هذا الفرق بين المعرفة الحسية والمعرفة الحدسية شبيه بالفرق بين النظر بعيون الجسم فتشاهد الأشياء من الخارج والنظر بعيون الروح والدخول في ذات الشيء والمشاركة فيه" إن الروح تكشف حقائق الأشياء وترفع عنها الحجاب، والبصر إنما يدرك في الأشياء ما ظهر منها، والروح تُدرك كُنهها وحقيقتها ، والبصر لايرى إلَا جزاءً يسيراً من الوجود في حين أن الروح هي الوجود بأسره"ص131. وهذا هو رأي الغزالي في مشكاة الانوار. كما هو رأي برجسون في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" الذي لا يختلف عن رأي ديكارت في تفضيله للمعرفة الحدسية التي أدرك من خلالها وجوده، فقال قولته الشهيرة "أنا أُفكر، إذن أنا موجود".

ولا يفوتنا أن نذكر أن فكر عثمان أمين هو إمتداد للفكر المثالي وتأصيل للإيمان به، كما أكد ذلك في كتابيه "ديكارت" و "رواد المثالية"، وهو في الوقت نفسه تطوير لآراء محمد عبده الذي عدَه أمين أستاذه ومُلهمه في كتابه "رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده" ومحاولته تأويل فكرمحمد عبده تأويلاً فلسفياً في ضوء مقولات الفلسفة المثالية في ضوء القاعدة التي إنطلق منها الفكر الإسكولائي المسيحي "تعقل لتؤمن"، ليجعل محمد عبده رائداً وداعياً للتنظير لها في الفكر العربي الحديث، ليصنع منه فيلسوفاً رُشدياً جديداً يُحاول التوفيق بين "الحكمة والشريعة"

 

د. علي المرهج - أستاذ فلسفة / جامعة المستنصرية - بغداد

 

في المثقف اليوم