قضايا

البراجماتيكية والبراجماتية.. دراسة مقارنة بين فلسفتي جارلس بيرس ووليم جيمس

ali almirhigمن الموضوعات المهمة التي نعتقد أن الفكر العربي بحاجة لتوضيحها وبيانها هو الفلسفة البراجاماتية "الأمريكية التي صنعت أمريكا الحديثة والمعاصرة، التي أسسها جارلس ساندرس بيرس، إختط معالمها وجوهر صياغاتها وفق تشكل وعي الأمريكي المُتشكل من عدة شعوب، فما كان للبراجماتية إلَا أن تختط لها خطاً معرفياً و"أبستمولوجياً" جديداً يتجاوز عُقدة الخلاف في الأصل، ليصنع فلسفة تجمع الأمريكين في حاضرهم وتُشعرهم بأنهم سيكونوا يوماً ما صُناعاً للمستقبل.

البراجماتيكية، هي ذلك الخط الذي إختطه (بيرس) لتمييز براجماتيته عن البراجماتيات الأخرى. وقد كان (بيرس) حريصاً جداً على مصطلحاته ويعدها غاية في الدقة لأنه وضعها وهو متأكد من انها تعبر عن غرضها الذي وضعت من اجله على اكمل وجه.

تعرض مصطلح البراجماتية الذي وضعه (بيرس) ليعبر عن اتجاهه الفلسفي في توضيح المعاني والمفاهيم لبعض التحريف والابتعاد عن الخط الذي صاغه هو، مما حدا به إلى البحث عن مصطلح آخر يكون من القبح بحيث يثير الآخرين للابتعاد عنه، بين بيرس وجيمس كان السبب الرئيس فيما فعله (بيرس) هو التغيرات التي أجراها (جيمس) فيما بعد على منهج (بيرس) البراجماتي. وعلى الرغم من علاقة الصداقة الوثيقة بين الاثنين (بيرس وجيمس) إلا ان هناك اختلافات ثانوية مهمة جداً كانت السبب الرئيس في اختلاف منهجيهما ومحاولة (بيرس) تبني مصطلحاً جديداً يعبر عن صيغته، وهذه الاختلافات كثيرة نذكر منها:

أولاً: اختلافات في البيئة التي نشأ فيها كل منهما، فالأول (أي بيرس) عاش في بيت والده عالم الفيزياء والرياضيات وتتلمذ منذ صغره على يد هذا الأب، بالإضافة إلى ان البيت نفسه كان ملتقى للعلماء والمشتغلين في مجال العلم، وكان لا بد لهذا الطفل ان ينشأ نشأة علمية، وقد اصبح فعلاً محباً للعلم وعاشقاً للرياضيات والمنطق الذي تعلم فنونه من والده، كما تعلق بدراسة الكيمياء وقد كان لشغله في الكيمياء الدور الكبير في تأكيده النزعة التجريبية لديه وعدم قبول أي شيء على انه حق ما لم يخضع ذلك الشيء للتحقق العلمي. أما الرياضيات فقد جعلت (بيرس) كثير الدقة في طرح أفكاره وقد صبغ فلسفته بنوع من التجريد وحب البحث في الفلسفة التأملية "وقد استمد من دراسته لطريقة التفكير الإنساني منطقاً جديداً وهو منطق العلاقات، والمنطق عند (بيرس) يعتمد على التجربة بشكل كبير... واهم مظاهر هذا المنطق الجديد هو علاقته الوثيق بالرياضيات التي جعلته قادراً على التعبير عن وظائف العلاقات ما بين الأشياء والتي أهلته لقيادة الفكر في الاتجاه العلمي، والظاهرة الثانية في هذا المنطق هي استعمال الرموز والعلامات" وقد كان (بيرس) يأخذ على (جيمس) عدم اهتمامه بالمنطق والرياضيات، حيث يقول لـ(جيمس) في إحدى خطاباته له "أنا اضمن ان اجعل منك عالماً رياضياً من الطراز الأول" حرصاً منه على (جيمس).

أما (جيمس) فقد "عاش ونشأ في بيئة رجل دين محافظ وكان والده حريصاً على العرف البيورتاني معتزاً بثقافة عقلية أخلاقية معاً، فلم يكن من رجال الدين المنغلقين، وإنما اتسعت آفاق معرفته وجرى قلمه بخواطر وتأملات كان لأسلوبها اثر في تقويم عبارة ابنه"(49)، بالإضافة إلى تأثر الأب بأفكار (امرسون) المثالية خاصة وان (جيمس الأب) كانت له علاقة صداقة مع (امرسون) كذلك وجود (هنري جيمس) الروائي والأديب اثر كبير في روحية وفلسفة (جيمس) التي غلب عليها الطابع الأدبي. وقد كان هذا الأخ أديباً معروفاً في أمريكا آنذاك، وربما جاءت سلاسة وقدرة (جيمس) على توصيل أفكاره بيسر وسهولة نتيجة تأثره بأخيه الأكبر.

ثانياً: القراءة (مرحلة الشباب): بدأ (بيرس) قراءاته بالفيلسوف الألماني (كانط) ومن ثم (دونس سكوتس) والتجريبية الإنكليزية فيما بعد، وقد تأثر كثيراً بمنطق (كانط) وواقعية (دونس سكوتس) وتجريبية (هيوم) و(لوك) وغيرهم من الفلاسفة التجريبيين.

أما (جيمس) فقد تأثر بالفيلسوف السويدي (سويدنبرج)(1688-1772)، بالإضافة إلى تأثر (جيمس) كما تأثر أبوه في السابق بأفكار (إمرسون)، فضلا عن تأثره بالمدرسة التجريبية أيضا وبأفكار (جون ستيوارت مل) النفعية.

ثالثاً: الحالة المعيشية: كانت معيشة (بيرس) قاسية لدرجة أن حياته أصبحت قلقة وغير مستقرة وربما يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت الغموض يكتنف بعض أفكاره على الرغم من عمق فلسفته. بالإضافة إلى إحساسه بالغبن، فهو لم يحصل على أي منصب سوى مرة أو مرتين، وبقي طوال حياته بحاجة إلى المال، مما سبب في عزلته عن الآخرين وعدم إتصاله إلَا بـ (جيمس) الذي ساعده كثيراً. بينما كان "جيمس" على العكس منه، فقد كان يعيش في حالة مترفة وحياة مستقرة ومركز اجتماعي كبير يكسبه كثير من العلاقات ويساعده في الحصول بيسر وسهولة على الشهرة، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلت من (بيرس) يبحث عن إسم كبير يصنعه لنفسه، من خلال سعيه لإيجاد طريقة خاصة له في عرض أفكاره مطبوعة بطابع اللغة العلمية الدقيقة لا يستخدمها غيره من البراجماتيين الآخرين، هذا بالإضافة إلى إعتداده الشديد بنفسه، فهو يخاطب (جيمس) قائلاً "لكني كما تعرف المستر بيرس صاحب الشهرة وذيوع الصيت بسبب منجزاتي العلمية المتنوعة والعديدة، وفوق كل شيء بسبب تواضعي الشديد الذي يحدوني إلى تحدي العالم" (!!) . وفي رسالة من (بيرس) إلى (جيمس) يرَد فيها على طلب (جيمس) (حينما أراد الأخير من بيرس تدريس الفلسفة في جامعة هارفرد) حينما طلب منه تقليل مادته في المنطق والرياضيات، يقول (بيرس) "... (إن) الطلاب الدارسين هم أبعد الناس عن عالم الرياضيات كأي إنسان آخر في نيويورك على انني أُحب أن أؤكد أِن فلسفتي ليست (فكرة) طفحت وفاضت بها نفسي، وإنما هي حدث جدي خطير وعر المسالك، والجزء الذي يرتبط بالمنطق الشكلي اوثق رباط... والذين لا يستطيعون التفكير بدقة (وهو النوع الوحيد من التفكير) لا يستطيعون ان يفهموا فلسفتي... اني لأفكر في أنه خير لجمهور المستمعين ان يذهبوا إلى بيوتهم ويصلوا صلاتهم الأخيرة إستعداداً للقائي". وقد كان هذا الاختلاف بين (بيرس) و(جيمس) واضحاً، حيث لم يحب (جيمس) المنطق كما أحبه (بيرس)، بل حاول الإبتعاد في طرحه لأفكاره عن المنطق، لذلك يقول (جيمس) "من جانبي وجدت نفسي في نهاية الأمر مضطراً ان أتخلى تخلياً عادلاً منصفاً إلى غير رجعة، فللمنطق فائدة لا تنعدم في الحياة الإنسانية، ولكن هذه الفائدة لا تجعلنا نتعرف نظريات إلى الطبيعة الجوهرية للحقيقة"، ولذلك دخل (جيمس) الفلسفة من علم النفس، بينما دخلها (بيرس) من المنطق والرياضيات، وهذه النقطة يمكن أن تُعد من النقاط المهمة التي أثرت في إتجاهي قُطبيَ الفلسفة البراجماتية (بيرس و جيمس) وإختلافهما وخِلافهما في طريقة توصيل البراجماتية. ولكن "الخلاف لا يُسَد للود قضية" كما يُقال، فقد كان (بيرس) يُقدر (جيمس) وكان (جيمس) كثيراً ما يعترف بفضل (بيرس)، إذ يقول مخاطباً (بيرس) "لا يوجد مفكر أكثر ابتكاراً وإبتداعاً منك في جيلنا برمته، لقد أوحيت ليَ شخصياً بأمور في غاية الأهمية أكثر من أي شخص آخر قدر لي أن أعرفه، ومع ذلك فلم أُعطك أبداً ما فيه الكفاية من الإقرار على الملأ بالفضل لقاء ما أُدين لك به مما علمتني من لدنك"، وفعلاً فقد كان (جيمس) على الرغم من الإختلافات خير شارح للإتجاه البراجماتي، وهذا ما إعترف به (بيرس) نفسه، حيينما خاطب (جيمس) قائلاً: "إنك من بين أصدقائي، الوحيد الذي يوضح البراجماتية في أكثر أشكالها طلباً، إنك جوهرة البراجماتية". وفي موضع ثانٍ يقول مثمناً جهود (جيمس) في توضيح البراجماتية "...شهور طويلة – أزدحم بحشود من الإصطلاحات الفنية والإفتراضات والسخافات، وأنا أحاول التعبير عنها (البراجماتية) ولكنك وُفقت أعظم توفيق في أن تُبسَطها على صفحتك بكل هذا الوضوح والجلاء والصفاء في أسمى مراتبها وبيسر سائغ لم يكن في الإمكان أبدع مما كان".

لكن على الرغم من إعتراف (بيرس) بوضوح أسلوب (جيمس) وسهولته إلَا أن (بيرس) يستغرب وصف الناس لأفكاره بالقول أنها غامضة وهو الخبير في مجال اللغة، فهو ليس غامضاً بقدر ما هو يريد أن يستخدم كلمات تُعبر بدقة عن الفكرة التي يريد طرحها "وأن تبلغ هذه الكلمات من النفور والكراهة حداً يجعل بعض المفكرين السائبين الفضفاضيين ينفرون من إستعمالها.. وأنه لأمر حيوي بالنسبة للعلم أن من يدخل مفهوماً جديداً ينبغي أن يُلزم بواجب يُحتم عليه أن يخترع سلسلة من الكلمات للتعبير عنه فيها القدر الكافي من النفور والكراهة"، ولهذا إشتق (بيرس) مصطلح البراجماتية من كلمة يونانية قديمة حتى يصعب تداوله إلَا للغرض الذي يُريده هو له، وبعد ذلك ونتيجة لتوسع البراجماتيين وخاصة (جيمس) في إستخدام ذلك المصطلح إشتق (كما أشرنا سابقاً) (بيرس) مصطلح البراجماتيكية Pragmaticism.

يقول (بيرس) بهذا الخصوص "فما على الكاتب – وقد وجد براجماتيته الوليدة بلغت أشُدها- إلَا أن يشعر بأن الوقت قد حان لكي يقبل وليده قبلة الوداع ويتركه لمصيره الصاعد، وهو في الوقت نفسه يتخلى عنها حينما يجدها أنها قد وُظفت لغير الغرض الذي يبتغيه، ولكي يخدم الغرض الدقيق للتعبير عن التفسير الأصلي فإنه يتوصل ليعلن ميلاد كلمة البراجماتيكية Pragmaticism التي فيها من القبح الكافي ما يحميها من الخاطفين". وفي مكان آخر يقول (بيرس) "أُخطط الآن الصيغة الخاصة لبراجماتيتي غير أن هنالك طُرقاً مختلفةً للإهتمام بما هو عملي، تؤدي إلى المنهج نفسه المؤدي الذي يُساعدُنا في بناء تصورات مُميزة و حيوية، ومن هنا سأصر من أعماق روحي على معارضة ما هو منفصل (عن صيغتي) ففي المكان الأول هناك براجماتية جيمس، حيث أن تعريفه يختلف عن تعريف (جيمس) لأنه لم يُقيد المعنى... غير أن نظرتي ونظرته قد توافقتا، سوى أنه يهتم بإعتبارات لا يُعطيها المنهج البراجماتي وزناً".

 

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة – الجامعة المستنصرية

...................

منقول من كتابي: الفلسفة البراجاماتية، أصولها ومبادؤها، دراسة في فلسفة جارلس ساندرس بيرس، دار الطليعة، بيروت ـ لبنان، ط1، 2009.

 

 

في المثقف اليوم