قضايا

نقد النص والحقيقة في فكر علي حرب

ali almirhigإهتم علي حرب بنقد النص، وهو من أوائل الكتاب العرب المعاصرين الذين يمكن تصنيفهم ضمن إتجاه ما سُميَ بـ "نقد النقد"، وهو إتجاه تعامل أصحابه مع النص بوصفه ميداناً للمعرفة مستقل عن مؤلفه، مُتبعين برؤيتهم هذه القائلين بـ "موت المؤلف"، الذين يميلون إلى تأكيد مقولة أن "النص ملك القارئ" أو المُتلقي، فهو يخرج بعد نشره أو قوله عن رؤى ومقاصد مؤلفه، ليكون ملكاً للقارئ الذي يفهمه وفق مستويات تلقيه، بل ويخرج عن واقعه الخارجي الذي أفرزه.

يشتغل علي حرب ويحرث في منطقة لم يشتغل عليها الكثير من الكُتاب والباحثين العرب، فهو يُحاول إستنطاق النص الذي هو تحت مشرطه، لمسائلته وإستنطاقه، تحليلاً وتفكيكاً، ليس للإقتراب من مقاصد مؤلفه، بل للكشف عما يكتنزه النص من معاني لم يكشف عنها مؤلفه.

هو يتعامل مع النص بوصفه خطاباً، لفض بكارة هويته وتعرية بداهاته التي ينبني عليها، وكشف "المسكوت عنه" أو ما لم يكشف عنه كاتبه. بمعنى آخر، يحاول علي حرب الغوص في النص للكشف عن "المُضمر" ورفع الحُجب عنه وتفكيكه لفتح الخطاب "المنسي فيه"، لذلك هو كما يؤكد "تفكيكي في تعامله مع خطاب العقل ومُطلقاته، بمعنى آخر هو "يُحاول فحص العقل بما هو ذات مُتعالية تتصف بالقُدرة على الربط والتأليف" (نقد النص/9).

يسير علي حرب على خُطى فوكو في الكشف عن علاقة المعرفة بالسلطة، فالعقل الفلسفي يخفي برأيه "هوى المعرفة والسلطة عند الفيلسوف" (نقد النص/9) ولربما يخفي العقل النقدي للأسطورة والدين مقولات أسطورته وبُعده الما ورائي الضامر أو المُضمر في نص المؤلف الناقد كما هو الحال مع كانط في كتابه "نقد العقل المحض".

إن قول علي حرب يتماهى مع "القول الفلسفي لما بعد الحداثة"، إذا إستعرنا عنوان مؤَلف هابرماس، لأنه يسعى للكشف عما يُمارسه عقل الحداثة من تغييب وحجب للهوى والنزوع الفطري للإنسان نحو الجنس والدين والإسطورة، ليبني أسطورته هو "أسطورة العقل" بيقينياته ومُطلقاته.

فماذا يعني تأكيد فلاسفة الحداثة وكل الفلسفة التقليدية بقولهم أن "الإنسان كائن عاقل"؟، ألا يعني هذا نفي لنزوعه نحو العنف والتطرف، وبأقل الأحوال هو قول يحمل في طياته إقصاء لنزوع الإنسان الغريزي والروحي نحو الخيال.

إن ما يُميز علي حرب في طرحه هذا أنه يروم تخليد النص وإقصاء قائله، لا سيما النصوص الإبداعية في الفن والشعر والفلسفة، فهي نصوص غير خاضعة لمنطق "الحقيقة"، "فالتعصب للحقيقة هو ضد الحقيقة، وبعبارة صريحة: نقترب من الحقيقة بقدر ما ننفتح على الخطأ. فالحقيقة التي لا تُخطئ ليست بحقيقة" (نقد الحقيقة/141) لذلك فالنصوص الإبداعية ليست بحاجة للكشف عن مصداقها العقلي أو التجريبي، بقدر ما هي نصوص تحتاج لقراءة فاعلة ومُنتجة، بإختصار إن "النص ـ عند علي حرب ـ لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة" (نقد النص/14). لأن قيمة النصوص الإبداعية لا تكمن فيما تقوله من حقيقة، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بما تُخفيه وما تستبعده، لأنها نصوص لا تحمل دلالة جاهزة ونهائية، "بل هي فضاء تداولي، وإمكان تأويلي، ولذا (فهي نصوص) لا تنفصل عن قارئها ولا تتحقق من دون مُساهمة القارئ... وكل قراءة هي إكتشاف جديد، لأن كل قراءة تستكشف بُعدجاً مجهولاً من أبعاد النص، أو تكشف النقاب عن طبقة من طبقاته الدلالية، وبذا تُسهم القراءة في تجديد النص، وتعمل على تحويله" (نقد الحقيقة/9)، ولا يُريد بالقراءة هنا علي حرب القراءة الحرفية التي تسير مسار النص وتُعيد حضوره كما هو للحلول محله، إنما هو يدعو للقراءة التأويلية، "التي تقوم على إكتناه روح النص، بالبحث عن معانيه الجوهرية، أو الكشف عن دلالاته الأصلية، أو الوقوف على مقاصده الخفية" (نقد الحقيقة/11).

حينما يؤكد علي حرب على "نقد النص" فذلك لأنه يعتقد كما ذكرنا أن النص ذاته يُمارس الحجب وليس هو فقط آلية لمؤلفه، فالنص الإلهي مثلاً: بأن الله هو الحكم، إنما هو يحمل في ظاهره وبين طياته حجب طبيعة السلطة ببعدها الناسوتي، ويحجب رغبة القائل به في ممارسة سلطته على من يتوجه إليهم بالخطاب. ويحجب ثالثاً ذاته وحجبه، أي كون النص نفسه يُمارس سلطته على السامع والقارئ. (نقد النص/16).

وهذا التفكيك لبنية النص اللاهوتي ونقده ينطبق على كل خطاب يدعي أصحابه أن خطابهم هو خطاب الحقيقة نفسه، لأنه يخفي وراء خطابه نزوعه لإقصاء القارئ، ومحاولة الإضفاء على نصه طابعاً قُدسياً، يتعالى فيه الخطاب على واقعه وعلى مُتلقيه، لينزع نحو أحدية القول وإطلاقيته ومنحه صفة البداهة، وبهذا يستوي الخطاب العقائدي المُعلمن مع الخطاب العقائدي الثيولوجي.

ما يُميز قراءة علي حرب أنها قراءة لا ترهن نفسها لسطة خطاب، أي خطاب، فحتى الخطاب الأنطولوجي عنده خطاب فيه المُضمر والغائر والمسكوت عنه، فهو أيضاً لا يخلو من نزوع نحو الإقصاء والحجب، فمفهو الوجود نفسه بقيَ مرتبطاً بالنزوع للماوراء أو للميتافيزيقا على الرغم من سعي الفلسفة الوجوديين لسحبه للفضاء الإنساني الحر. من هنا كان علي حرب يسعى إلى نقد النص ومفاهيمه المكونة لخطابه، لا لإستبدالها بنقيضه، وفق منطق الآيديولوجيا المُتحيز، أو وفق منطق العقلانية الديكارتية الإقصائية الآخر التي حاول ميشال فوكو الكشف عن مُضمراتها حينما بيَن أن "خطاب العقل يُخفي علاقة العقل باللاعقل"، إنما وفق منطق الأبستمولوجيا ببعدها التأويلي عند بول ريكور في كتابه "الذات عينها كآخر"، فلم يكن علي حرب بنقد النص يروم البحث عن الكشف عن عورات النص بنقيضه، فلم يسع ـ على سبيل المثال ـ لنقد الخطاب الإسلامي بإستحضار مقولات نقيضه العلماني، إنما هو يرى أن في كل نص ما يمكن لنا أن نستكمل لعبض عناصره الغائبة بما يُعتقد أنه نص مُغاير له في المسار والمُنطلقات، فالنقد لا يعني النفي لنص على حساب نص آخر، بل هو "يُبين أن الأول شكل للثاني أو أن الثاني شرط الأول" (نقد النص/19). فهي دعوة وسعي من علي حرب لتجاوز أيديولوجيا الإقصاء والتحيز لتأكيد أهمية الإختلاف بوصفه إستكمال للمعنى وكشف عن ثراء النص المقروء، فالنص المُحكم أو المُنغلق الذي لا يقبل تعددية في الفهم و "فهم الفهم" بعبارة "شلايرماخر" و "غادامير"، إنما هو نص ينبغي تجاوزه، لأنه نص يقتضي المطابقة والتماثل لا التعدد والإختلاف، وهو نص لا زال ساكناً راكداً في منطقة "اليقين" ومنطقه، يُعاني أزمته الداخلية في نزوعه نحو المركزية التي تجاوزتها خطابات ما بعد الحداثة، فلم تعد القراءة تسير في ضوء توجهات وبديهيات منطق "المركزيات" التي يسير وفقها الفكر "التوتاليتاري" الشمولي، فلم يعد الهم في قراءة النص اليوم هو الذي يبغي التماهى مع منطق الحداثة في الكشف عن معقوليته، إنما هو سعي للكشف عما هو لا عقلاني في النص العقلاني، والعكس صحيح، أي الكشف عما هو عقلاني في النص اللاعقلاني. فقراءة الفلسفة الرشدية ـ على سبيل المثال ـ وهي فلسفة عقلانية تقتضي الكشف عن عناصرها اللاعقلانية الغائرة في النص، لذلك لم تكن قراءة محمد عبد الجابري برأيه موفقة لفلسفة إبن رشد لأنها أبات البائن وسكتت عن خطابها المٌضمر. والأمر ذاته ينطبق على قرائتنا وقراءة لفكر إبن عربي اللاعقلاني، فهي تقتضي الكشف عن عقلانية المُحتجبة أو المسكوت عنها وراء نصه اللاعقلاني، لذلك يكون النص الأول فما هو مسكوت عنه فيه هو الصورة الأخرى المُضمرة للثاني، والثاني هو الصورة المُضمرة للأول في المسكوت عنه في النص الثاني. فالقراءة في حقيقتها، نشاط فكري/ لغوي مُولَد للتباين، مُنتج للإختلاف" (نقد الحقيقة/5) ، "فالإختلاف طبيعي ومشهود، والإئتلاف معقول وغائب" (نقد الحقيقة/30). لذلك نجد علي حرب أكثر ميلا للقبول بالعقل الصوفي لما في من "إنفتاح أقصى على الوجود وقُبول لكل مُغايرة" (نقد الحقيقة/42). لأن الحقيقة لا يمكن أن تُبنى من دون وجود الآخر المُختلف "الغير". فالعقل عند علي حرب " هو أقل  معقولية" (الماهية والعلاقةـ نحو منطق تحويلي/ 249) فالعقل كا يراه حرب لم يستطع التخلص من عوالق اللامعقولية، والذين يتعاملون مع العقلانية بكونها هي الحل، إنما هم من يُعلنون لا عقلانيتهم "ويُنتجون أخطر أنواع اللامعقول" (الماهية والعلاقة/251).

كان هم علي حرب هو نقد إطلاقية الحقيقة ونقد التفسير الأُحادي للنص في محاولة منه لنقد عقلانية التنوير الأوربي بإفراطها في النزوع نحو العقل ووضعه موضع النقد، لإتاحة المجال للإنفتاح في الرؤيا وللكشف عما في النصوص من معاني مسكوت عنها ربما تكون مُفيدة في إثراء معاني العيش المُشترك والقبول بالإختلاف والتعدد، ولربما فيها ما هو مُضمر في إسكات الآخر ولجم عقله عن المغايرة والإختلاف.    

 

 

في المثقف اليوم