قضايا

دعوة إلى حوار مثمر في الديمقراطية

saleh altaei2بعد الأحداث المصيرية التي مرت بها أمتنا العربية، ولاسيما الربيع العربي وأحداث سوريا والعراق واليمن والبحرين وحتى الخلاف بين دول الخليج، هل ستبقى التجربة الديمقراطية العربية مجرد رؤية تراوح بين الرفض والقبول، أم انها ممكن أن تتحول إلى حقيقة على أرض الواقع؟ وما هي الدول المستهدفة؟ وهل ممكن للديمقراطية أن تخترق حواجز حكم الأسرة الوراثي وحكم المملكات؟ التكوينة السكانية المتباينة للبلدان العربية حيث الأغلبية والأقلية شاخصة ومميزة، هل تحول الديمقراطية إلى معضلة صعبة المراس، ام  حلا يلوح في الأفق لواقع مأساوي موروث؟ وهل تجد الدعوات العربية لإقرار الديمقراطية تعاونا غربيا أم أن الغرب نفسه ممكن ان يخشى الديمقراطية العربية التي ممكن أن تنتج بلدانا مستقرة يصعب تمرير الطبخات الخارجية إليها؟ وأخيرا ما رأي الجماعات الراديكالية الإسلامية والنظم التي تتخذ الدين دستورا للحكم في تطبيق الديمقراطية، ولاسيما وأن بينها جماعات ترى أن الديمقراطية تتعارض مع الإسلام أصلا ومنهجا؟ وما الأجدى؛ البحث عن الديمقراطية لمعرفة الذات، أم إثبات الذات يؤدي إلى السعي وراء نظام يحفظ الحقوق؟ بل هل للديمقراطية أن تحفظ الحقوق فعلا أم ان سلبياتها وإيجابياتها مثل غيرها من النظم؟ وإذا ما كانت الديمقراطية هي التي أشاعت الاستقرار في كثير من البلدان، فإلى من نعزو وجود بلدان أكثر استقرارا من أكبر النظم الديمقراطية وهي لا تعرف الديمقراطية ولا تبحث عنها؟

واقعا لا خلاف بين العقلاء في أن مسيرة طويلة وخطيرة تلك التي قطعتها الدول الأوربية في صراعها التاريخي مع إثبات الذات، كانت بدايتها مع بزوغ عصر النهضة الصناعية؛ التي أمدت الجوانب الحياتية الأخرى بنوع من الدعم والمساندة، أسهما في ولادة نهضات أخرى، كانت من أبرز سماتها النهضة الفكرية والعلمة، التي أسهمت بدورها في تغيير قناعات المجتمعات، وعلاقتها بنظم الحكم والسياسة والدين وأنماط الحياة، فولدت منظومة الحريات المفتوحة؛ التي بدأت تتلون تبعا لعلاقة المجتمع بالموروث، ومن خضم هذا الحراك الإنساني الكبير، ولدت نظم الحكم الديمقراطية الحديثة، التي سمت بتلك المجتمعات إلى ذرى المجد الحضاري، لدرجة أن المواطنين باتوا يشعرون أن كل ما يعيشون فيه من نعيم وتطور هو من ثمار الممارسة الديمقراطية، وهو ما دفعهم إلى التفكير جديا بتصدير هذا المفهوم إلى دول العالم الأخرى التي تعاني تسلط وإكراه دكتاتورية الأشخاص والأيديولوجيات السياسية والدينية والعشائرية.

وقد نتفق أو لا نتفق أن الديمقراطية كمفهوم وكممارسة غير قابلة للتصدير العشوائي لأنها بمضمونها لا تصلح للتطبيق إلا بعد بناء أسسها ابتداء بالثقافة المجتمعية والفردية، مرورا بآليات التطبيق التي يجب أن تتواءم مع واقع حال الشعوب ووضعها الاجتماعي والاقتصادي والديني، مع ضرورة وجود رغبة شعبية في تقبل هذا التغيير الذي يخرق عادات الموروث، ولذا لا يمكن للتصدير الشرعي، أو للتدخل العسكري، والإكراه القسري أن يفرض الديمقراطية على شعوب غير مؤهلة لتقبلها. يقول العالم الفرنسي (دروغايم): "إن أفكار الإنسان ليست حصيلة نشاطاته العقلية الخاصة به فقط، ولكنها حصيلة البيئة الاجتماعية التي هو جزء منها أيضا". لكن هذا لا يعني أن من المستحيل تسلل الديمقراطية إلى بيئات جديدة لتؤسس لوجودها، سواء بدافع الرغبة أو الغيرة أو التأثر بالشعوب الأخرى، والمعروف أن المغريات ممكن أن تحقق ما يعجز الخوف عن تحقيقه، ومغريات الديمقراطية كثيرة، ألا يشفع ما قدمته الديمقراطية من خير للشعوب الأخرى، ليجعلها الخيار الأمثل والأسلم لحل مشاكلنا؟ ألم تحقق الديمقراطية الغربية كل الانفتاح الذي يعيشه الغرب اليوم؟ ألا تعتبر هذه من أكبر المغريات؟

فلماذا نلجأ إلى الساحات والميادين لتغيير الدكتاتوريات، فتسفك دماء الأبرياء، وتدمر البنى التحتية، وتتفشى روح الكراهية والحقد، بدل أن ننفتح على أسس الديمقراطية، فنتعامل معها وبها ومن خلالها؟. وهل معنى ذلك أننا بحاجة إلى استيرادها من الآخرين مثلما نستورد منهم أساسيات وكماليات حياتنا من البضائع والسلع؟.

الذي أراه أننا كشعوب لا زالت تبحث عن ذاتها بعد أن عاشت جل تاريخها في خضوع تام للدكتاتورية السياسية والدينية والفكرية والعشائرية، وعانت جدل المخاضات الصعبة، فضلا عن حقب الخضوع للمستعمر الأجنبي والآثار التي تركتها، قد نبدو غير مؤهلين لاستيراد الديمقراطية، أو فرضها قسرا وكرها، ولكن تراكم المآسي التاريخية وحالات الاستلاب التي عانينا منها عبر التاريخ قد يؤهلنا بالمقابل لنتقبلها بأي شكل كان حتى ولو بالقوة والإكراه، عسى أن تتغير حالنا وتتطور مجتمعاتنا تبعا لفكرة (آخر العلاج الكي).

وأنا هنا لا أسعى إلى تزكية الديمقراطية بعد أن تكدست لدى الشعوب خبرات لتجارب قاسية تسببت بها، فعجز الديمقراطية عن تحقيق العدالة المطلقة عن طريق صناديق الاقتراع قد يخلق بين الناس وبينها حاجزا سميكا عازلا، ربما بسبب المآسي والجرائم التي ارتكبت باسم الديمقراطية عبر التاريخ، وهي كثيرة لا تحصى. ألم تأتي ديمقراطية صناديق الاقتراع بأدلف هتلر ليحكم ألمانيا، ثم ليقود العالم إلى شفير الهاوية والفناء؟ ألم تتدخل قوات الدول العظمي تحت غطاء الديمقراطية لقتل الرئيس التشيلي المنتخب ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع سلفادور ألندي؟ الم يتحرك العسكر الجزائري لطرد الإسلاميين من جماعة عباسي مدني الذين أوصلتهم صناديق الاقتراع إلى الحكم؟ فتسبب ذلك بسفك الكثير من الدماء البريئة، ألم تنشق المقاومة الفلسطينية إلى معسكرين بعد أن أوصلت صناديق الاقتراع التنظيم الإسلامي برئاسة إسماعيل هنيه إلى منصب رئاسة الوزراء؟ ألم يتحول العراق إلى ساحة حرب أهلية حقيقية بسبب تداعيات الديمقراطية؟ ألم تتعرض مصر إلى حراك عنفي ممكن أن يقودها إلى حرب أهلية بالرغم من أن صناديق الاقتراع هي التي اوصلت مرسي إلى سدة الحكم؟ ألم تدمر اليمن تحت شعارات الديمقراطية؟ ألا تحرق سوريا اليوم باسم الديمقراطية؟

معنى هذا أننا نحن العرب شعوبا وأنظمة نقف أمام مفترق طرق، نبحث عن مرشد يملك مؤهلات القيادة ليمضي بنا، لكن من هو القائد المحتمل؟ من يصلح ان يتصدى لقيادة الناس: الرأسمالي، الديني، الاشتراكي، السياسي، العسكري، المستقل، التكنوقراط؟

برأيي المتواضع أنك أنت، أنت المثقف العربي هو الأكثر حظا في هذه الممارسة، وما عليك سوى أن تسأل نفسك: أين مكاني في هذا الحراك؟ أين يجب أن أكون؟ أين أريد الوقوف؟ ماذا يجب أن أصنع؟ ما هي واجباتي وحقوقي؟

وأنا لا أملك سوى أن أسألك: أنت أيها المثقف العربي، كيف تريد أن تتحرك، وفي أي اتجاه؟ هل ترفض أم تؤيد؟ هل تسكت، أم تجابه؟ هل تستخدم العقل والفكر، أم المدفع والمفخخات؟ هل تقبل بالتغيير أم تعارض؟ هل لديك خيارات أخرى من ابتكارك؟ هل تملك آليات ممكن من خلالها تجاوز سلبيات الديمقراطية؟ هل لديك آليات ممكن من خلالها وقف زحف الديمقراطية؛ إذا لم تقتنع بجديتها؟ وهل تنظر إلى الربيع العربي الخائب على انه الخيار الأوحد لنشر الديمقراطية في الوطن العربي بعد أن عجزت الخيارات الأخرى، أم انك تنظر إليه كنمط جديد من أنماط الدكتاتورية؟ وأن لا حل لذلك إلا بالديمقراطية!.

تكلم، قل ما شئت، إن الكلام واحد من الآليات المهمة جدا  في السيرورة والبناء. وقد قال الصهيوني (تيودور هرتزل): "كل ما يهمني هو أن تتكلم، حتى لو تكلمت ضد الصهيونية .. لكن لا تصمت إزاء الموضوع .. الحديث عن الشيء ولو بتفاهة يعرضه على أنظار الناس". فدعنا نسمع صوتك ولا تجلس مع المتفرجين فالمدراج مملوءة ولم يعد فيها شاغر!   

وبناء على ما تقدم وبعد أن فشلت المشاريع الأخرى أو تعرقلت، هل بات لزاما على الطليعة الواعية من أمتنا، من المفكرين والأدباء والباحثين والفنانين أن يستلموا المبادرة من خلال حوار مثمر غايته الخروج بنتائج نهائية يُتفق عليها، لتتحول إلى ورقة عمل ومشروع بناء، وترفع نتائجها إلى كل الأطراف المعنية باعتبار أنها تمثل خلاصة رؤى المجتمعات العربية بشأن إقرار أو رفض الديمقراطية؟.  أم أن هذه الشرائح مثل غيرها تأثر غالبيتها بالحراكات والمواجهات والتحيزات والتحزبات، وأخذ الخوف والهلع أقليتها، بعد أن رأى بأم عينه كيف سُلبت أرواح بعض من اعترض على الفساد والمساوئ جهارا أمام الناس.

مساحة الحوار مفتوحة أمامك، وصوتك مسموع، ورأيك يؤخذ به، لا تتقيد بمساحة ولا تلتزم بعدد كلمات، قل كل ما عندك دون أن تجرح الآخرين، ودع الآخرين يقولون رأيهم، ناقش وتحرى ودقق وتفحص ولا تترك الملعب إلا بعد أن تقتنع كليا، فمن العيب أن نرضى بأنصاف الحلول.

 

صالح الطائي

في المثقف اليوم