قضايا

الفلسفة بأكثر من وجه

ali almirhigمن مآسي الفلسفة أنها تطل علينا بأكثر من وجه، وربما من نجاحاتها. فوجه لها من داخلها، هي أنها مبحث في الوجود والمعرفة والقيم، ووجه من خارجها، هو علاقتها بلواحقها من العلوم الإنسانية والطبيعية: فنقول فلسفة الدين وفلسفة الفقه وفلسفة القانون وفلسفة الرياضة وفلسفة التربية وفلسفة الاقتصاد وفلسفات العلوم: فيزياء وكيمياء ورياضيات وبايلوجيا، وعدد ما شئت من الفلسفات الفرعية، فهي "أم العلوم". كأن تكون فلسفة الصلاة وفلسفة الفقر وفلسفة العولمة وفلسفة الحزب. ينطبق عليها المثل الشعبي القائل "لا لك راس ورجلين يلعيبي يمه". فكل يدعي وصل بليلى "الفلسفة" حينما يروم من وصف فكره بأنه "عقلاني"، حتى وإن كان هذا الفكر أكثر إرتكاساً وتراجعاً من الإرتكاس نفسه.

وحينما تكون من سمات الفلسفة نزوعها نحو الشك في العقيدة الدينية والأيديولوجية، نجد جُل هؤلاء "العقلانيين" يتعاملون مع الفلسفة بتعالٍ وتنكرٍ لها وفق المثل القائل "مكروه وجابت بنت"!!.

فرغم حضور الفلسفة في الفكر الفلسفي بأكثر من وجه، إلَا أنها حضرت عندنا (نحن العرب والمسلمين) بوجهين، هما الأبرز: وجهها العقلاني بطابعه الميتافيزيقي الذي يتحرك فيه العقل خارج الدين رغم إشتراكه معه في الموضوع، ووجه آخر، هو الوجه التبريري للدين من داخل الفلسفة، فيما سُميَ بفلسفتنا الكلاسيكية بـ "التوفيق" بين الفلسفة والدين"، وهذا الوجه كنا ولا نزال نجتار في تصنيف مفكريه هل هم فلاسفة؟ حينما تكون الفلسفة إعمالا لعقل، أم هم ممن يمكن لنا إدراجهم مع علماء الكالم؟ الذين يرومون الدفاع عن الدين بالطرق العقلية، ونحن في قولنا هذا لا نستثني فلاسفة العصر الوسيط وعصر الآباء الذين سُميت فلسفتهم بـ "الفلسفة المسيحية"، فكل فلسفات العصور الوسطى يحكمها "أبستيم" واحد هو "أبستيم" التوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين).

فأنت قد تجد في كتاب أو رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه مفكر أوفقيه أو مؤسس حزب مُؤطرٌ عقله بإطار عقائدي أو أو أيديولوجي مُغلق ليظهر لنا وكأنه: فيلسوف العقلانية الذي لم تُعطه الأمة حق قدره، فتأخرت نهضتها لأنها لم تختط من فكره منهج لها"!!، وفي كتاب أو رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه أُخرى، تجد هذا المفكر العقلاني الجهبذ ذاته، هو الناقم على الفلسفة وعلى مُعطياتها العقلانية التي يُمكن أن تُخرجه خارج عقائد الملة ومُعتقدات الأمة، ولربما تُخرجه من أيديولوجيته أو من مُعتقده الديني أو يُنظر له بأنه يروم تغيير الأيديولجيا وزحزحة المُعتقد الذي تأسست عليه الجماعة، سواء أكانت هذه الجماعة دينية أم حزبية أم أيديولوجية دينية "مُتأسلمة" مُتحزبة ليُركن خارج عقائد الحزب المُتأسلم أو الُمتعلمن الُمنغلق على فكره الأُحادي.

وبين هذه وتلك ضاعت المقاييس وفقاً لمثل القائل "بين العجم والروم بلوة إبتلينا"، فنحتاج لقدرة فائقة لتبيَن "الخيط الأسود من الخيط الأبيض" في الحُكم على أن يكون هذا المفكر فيلسوفاً عقلانياً وبين أن يكون مفكراً مؤدلجاً عقائدياً يستتر بلباس الفلسفة، أو أن يكون  هذا المفكر مُتفلسفاً يتقنع بقناع ديني.

وأنا على الرغم من توقفي عن إصدار حكم على نوايا الدارسين في مصداقية تبنيهم للفلسفة أو التنكر لها، أو في الدمج بينها وبين الدين، إلَا أنني أجد أن هناك بوناً شاسعاً بين الفلسفة والدين، فالفلسفة، تفكير حر يُغادر البديهيات والمُسلمات، فلا مُسلمات ولا بديهيات ثابتة في الفكر الفلسفي، إنما هي محطة من محطاته يُمكن أن تكون موضع الفحص والنقد والتشكيك، أما في الفكر الديني والأيديولوجي، فالمسلمات والبديهيات من مقتضيات وجوده، فلا فكر أيديولوجي وعقائدي ديني أوغير ديني من دون مُسلمات أو مُنطلقات أو بديهيات يعتقد مريدوه بصدقيتها وإنطباقها مع الحقيقة، إن لم تكن هي الحقيقة بقضها وقضيضها.

الفكر الفلسفي فكر حر لا قُدسية لفكرة مهما كان تأثيرها وبُعد تجذيرها اللاهوتي أو التأصيلي في الفكر العنصري والعقدي، فلا قُدسية لفكر إلًا بمرحليته وفي ضوء تقبل "أبستيم" المرحلة في بعده العقلاني، وأقصد بالعقلاني هنا التفكير المنظم في الإنتقال وفق مبدأي "العلية" والضرورة" أو معرفة الكل عبر إستقراء جزئياته.

لذلك فالفكر الفلسفي فكر نقدي شكي، بينما الفكر الأيديولوجي والديني والعقائدي هو فكر إيماني، يتحرك وفق قاعدة الفلسفة القروسطية "الإيمان ثم التعقل"، بينما الفكر الفلسفي ينطلق من قاعدة "التعقل ثم الإيمان"، وربما "التعقل والشك ثم الشك" وفق مبدأ "اللا أدرية"، فربما تصل لليقين من خلال التعقل الذي تقتضيه الفلسفة، وربما لا، والحال هذه تقتضي القول بأن الفلسفة هي "البحث عن الحقيقة وليس إدعاء إمتلاكها، لأننا في حال إدعائنا لإمتلاكها نُغيب الفلسفة التي من مهماتها الأساسية إثارة الأسئلة، أكثر من أن تكون مهمتها إيجاد الجواب. فيما نجد الفكر الديني والأيديولوجي فكر يسير وفق منطق إمتلاك الحقيقة، وإدعاء أصحابه إمتلاكهم لليقين، فدعاة الفكر الديني لا حيرة لهم في جواب على سؤال، لأن "مرجعهم" "مالك الحقيقة" وهو الذي يُجيب عن أسئلة الوجود والمعرفة والعلم والقيم وتحولاتها، لأنه أعلم السابقين والحاضرين، وربما القادمين، فهو العالم بأمور الدين والدنيا، لذلك تجد المتدينين أكثر إطمئناناً من ذوي النزوع الفلسفي، وفق المثل الدارج عندهم "ذبها بركبة عالم وإطلع منها سالم". فشتان إذن بينهم وبين من أنهكتهم الأسئلة!!، لذلك نرى أن أصحاب الفكر الفلسفي يأملون في الحرية خلاصاً، لانهم يعتقدون بأنها فكر حر يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات، بقصد فتح الآفاق لكل فكر مُختلف لأنهم يعتقدون بالمعرفة التكاملية التي تُنجز مع التثاقف والإنفتاح على الآخر، لأن الآخر المُختلف إنما هو الذات بعين ثانية، فيما تجد أن دُعاة التماهي والإنطباق إنما يسيرون باتجاه ذو "بعد واحد" هو البعد الذي يعتقد أصحابه بأنهم قد توصلو إلى اليقين الديني والعلمي والفلسفي والمعرفي عبر الكشف الصوفي أو المعرفة الإيمانية، هو فكر لا يقبل الإختلاف بقدر شغفه بالإنطباق وتماهي الهوية الذاتية بالأنا المتكورة حول نفسها، لذلك هو فكر لا وصف لنا له سوى أنه فكر مُنغلق يتحرك من جهة واحدة إلى جميع الجهات بقصد إلغاء الأبعاد للإبقاء على بعد واحد هو بُعد أصحاب السلطة والمُهيمنين على القرار السياسي الذين عادةً ما يكونوا هم الأكثر هيمنة في توجيه الخطاب المعرفي بما يخدم أيديولوجيا السلطة المتحكمين هم وسدنتهم بها، من رجال الدين والمثقفين والشعراء والمُنظرين المُطبلين للسلطة ممن سماهم الوردي "وعاظ السلاطين" من "المُتأترثين" الذين يحتمون بمقولات تراثية، أو من "المُتفرنجين" "المُتحذلقين" الذين يدعون وصلا برؤى فلاسفة التنوير والحداثة، وبفلسفة "ما بعد الحداثة" لا لقناعة عندهم بمقولات "الحداثة" العقلانية ولا بنقدها عند فلاسفة ما بعد الحداثة، بل هو حذلقة منهم للعزف على أوتار من يدعي وصلا ممن هم من البسطاء الذين يعشقون التفلسف لإيهامهم وخداعهم بأن أيديولوجيا "ولي النعم" "السلطان" وحاشيته و حزبه القائد إنما هي فكر عقلاني، ونقدي للعقلانية حينما تكون أيديولوجيا مُنغلقة على ذاتها، وهؤلاء هم سدنة السلطان يُتقنون اللَعب على حبال السلطة وكسبها، فتجدهم تارة مع السلطة حينما تكون في أوج قوتها، وهم من دعاة تغييرها حينما يستشعرون أنها أوشكت على النهاية، وقد روى الوردي عن أخلاق البدو، أنهم يُحاربون مع القوي، فإن هوى حكمه، إن كان شيخ عشيرة أو ملك، تجدهم أول المُجهزين عليه على قاعدة "قلوبنا معك وسيوفنا ضدك".

تتفق الفلسفة مع الديمقراطية، لأن الأخيرة هي بعض من مُعطيات العقل الفلسفي اليوناني، فتجد الفلسفة تُنظر للديموقراطية بأنها طريقة حياة أكثر منها منهج، بينما تجد أن أغلب إتجاهات الفكر الدوغمائي الأيديولوجي الديني والعقائدي، إما أنها ترفض الديموقراطية، وهو التصور الغالب في توجهاتها، أو أن بعض منها يربط بينها وبين الشورى ربطاً تعسفياً من المتأسلمين أو من القومويين الذين قرنوا القومية بالإسلام، لكن جميع هؤلاء نظَروا للديمقراطية لا لقناعة منهم بأنها مصداق لتقبل العيش وفق مُقتضياتها، بل لأن حُضورها بدى أكثر وقعاً في النفس العربية والإسلامية في العصر الحديث، فقد حاول الكثير من المفكرين المتأسلمين والقومويين التعامل مع الديموقراطية بوصفها منهجاً. أي أنها ليست طريقاً للحياة وأسلوب عيش، إنما هي أداة للإختيار والإنتخاب فقط، لأن في الشورى الإسلامية بعض تأصيل وتجذير وصلة مع الديموقراطية بوصفها أسلوب للمشاورة والاختيار غير مُلزم لمن يُشاور في إتباع ما توصل له المشاورون، على قاعدة "إذا عزمت فتوكل"، ولكن شتان بين أن تكون الديموقراطية طريقةً وأسلوباً ومنهجاً في الحياة، وبين أن تكون أداة لكسب السلطة.

وسواء كنا مع الديمقراطية بوصفها طريقة وأسلوب، أو مع الديموقراطية بوصفها منهج حياة، فكلا الرؤيتين تقتضيان إعادة النظر في منظومتنا التربوية "التلقينية" ومنظومتنا الاجتماعية "الأبوية" وبمنظومتنا السياسية "الإستبدادية" التي بُنيت على التبعية وتقليد المُرل إليه للمُرسل وكأن قوله كلام موحى له ولا مناص له من تصديقه. 

هذا الوعي الإرتكاسي للديموقراطية هو مسعىً تقتضي الفلسفة تصحيحة نحو الدقة في التوجيه لتصحيح مسار العقل الإنساني المُتبني للفكر الفلسفي الذي يقتضي بطبيعته قبول الديموقراطية كنظام تربوي واجتماعي وسياسي، الأمر الذي ما زلنا نفتقده في مجتمعاتنا إلى يومنا هذا، ولربما نكون نحن في عصورنا التي مضت أكثر نزوعاً نحو بناء وعي فلسفي ديموقراطي مما هو حالنا اليوم!!.

الفلسفة والمجتمع المدني صنوان لا يفترقان، فمنذ نشأة الفلسفة مع اليونان وهي تنزع نحو الخلاص من سطوة الفكر الميثولوجي والغيبي، ومحاولة فلاسفتها البحث عن تفسير لعلاقة المعرفة بالفضيلة والحكمة بالشجاعة، بوصفهما من ممكنات الإنسان وإستطاعاته في أن يصنع ذاته بذاته وتطوير قدراته العقلية لإدراك الفضيلة وعلاقتها بالمعرفة وفق طبيعة وجوده التي وضعت العقل مُتحكماً في إنتاج المعرفة الإنسانية التي تصنع قوانينها المُتحكمة بالطبيعة وفق قدرات البشر في إعادة صنع الواقع وفق مثال أرقى، ذلك ما طرحه سقراط وتلميذه إفلاطون. وقد سارت الفلسفة الحديثة بنقدها للفلسفة اليونانية مع نتشه أو بإعادة صياغة مُثلها مع كانت طبقاً لوعي الإنسان بقدرته العقلانية، وفق منهج ديكارت المؤسس للمذهب العقلي أو تماهياً مع مقولات بيكون في نقده لمنطق أرسطو الصُوري. والمراد من كل هذا أن الفلسفة منذ نشأتها حاولت مُغادرة الفكر الميثولوجي والثيولوجي، كي تكون نزوعاً نحو العقلنة أو الأنسنة، لهذا هي أكثر إلتصاقاً بمقولة "المجتمع المدني" الذي يتجاوز عقدة النكوص نحو الماضي والإرتكاز عليه. لكن الفكر الديني ودعاة الأيديولوجيا "الدوغمائية" لم يستطيعوا تجاوز عقدة "مثال سبق" أي الماضي بوصفه الأنموذج الأرقى الذي يستمد تأسيه وتجذيره من اللاهوت والغيب والبعد الميثولوجي المُنتج لمخيال أمة قد غادرت التاريخ منذ زمن، ولكنها تأبى الإعتراف بأنها الآن خارج التاريخ، وهي وإن إدعى بعض مفكريها وصلا بمجتمع مدني، إلَا أن هذا الوصل مُنقطع الوصال بما قبله وبما بعده، فما قبله، قد تنكر الماضون للفكر الفلسفي وإستهجنوه، وأولهم الغزالي وثانيهم ابن تيمية، وما بعده مما أنتجته عقلانية ابن رشد إنما صار فكر أعاد الغرب إنتاجه وأحسن تلقفه بعد تأكيدنا على تكفيره دُعاته ومُتبنيه، والقول بـ "تهافت الفلاسفة" وإحراق كتب ابن رشد، الذي صارت فلسفته مُلكاً للغرب.

كان لتغافلنا فلسفة ابن رشد وإهمالها أثره البين في تعامل المستشرقين بوصفنا أناس لم نكن من الأمم التي تستحق أن يُشار لها بأنها أمة تتفلسف، فبادروا إلى إصدار أحكامهم بأن أمة لا نُدين بدين الفلسفة ولا صلة لنا بالتفلسف سوى الوساطة بينهم وبين اليونان، فكنا خير أمة وسطاً ننقل الفلسفة لأمة تحتاجها للتعقل لنكتفي نحن بالدين لأننا أمة نعيش على الإيمان، فهو منهل معارفنا وخلاصنا من دنيا الواقع الذي لا نُتقن العيش فيه إلًا حينما يكون واسطةً للآخرة، التي هي خيرُ وأنفع. 

 

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

في المثقف اليوم