قضايا

العلاقة بين الشرق والغرب.. حوار أم صراع

ali almirhigيبدو لي أن موضوعا كهذا يمتلك مساحة واسعة يتحرك بها الباحث ولكن هذه المساحة في الوقت نفسه من الممكن أن تكون سبباً من أسباب حيرته لأنه موضوع شائك يتعلق بالعلاقة المكانية (الشرق والغرب) والدينية (الإسلام والمسيحية)، ويمكن أن تحتمل أيضا العلاقة الدينية والثقافية معاً (الإسلام والغرب). وقد اخترنا الأول لاعتقادنا بأن الإسلام من الممكن أن يكون أحد مكونات الوعي الغربي. فالديانة الإسلامية كما هو معروف تأتي بعد الديانة المسيحية على المستوى العقائدي في الغرب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الجميع يعلم أن الثقافة الإسلامية كانت سببا من أسباب نمو الوعي الغربي، وهي الوسيط بين ثقافة اليونان والتنوير الأوربي. ومعلوم أثر الفلاسفة والعلماء العرب في أوربا.

أما من جهة المقابلة بين الإسلام والغرب فنحن نعتقد أن هذه المقابلة غير جائزة كونها مقابلة بين ديانة وثقافة، فالإسلام دين والغرب مكون ثقافي وحضاري وليس ديناً، فالدين يشكل أحد مكوناته.

أما القول بالعلاقة بين الشرق والغرب، فذلك مبني على أساس جغرافي مكاني، طبيعة هذه الجغرافية وهذا المكان شكلت شخصية الإنسان فيهما وفي الوقت نفسه شكلت رؤية أحدهما للآخر، أي رؤية الشرق للغرب ورؤية الغرب للشرق، وذلك ما سننطلق منه.

ما هو الشرق؟

الشرق بالنسبة لنا هو ذلك المكان الذي يعيش فيه أغلب العرب والمسلمين، فيه أجزاء كبيرة من آسيا وأجزاء أخرى من أفريقيا، متمثل بدول مثل الهند وباكستان وإيران وأندنوسيا وماليزيا والمشرق العربي ودول المغرب العربي وبعض دول أفريقيا السوداء.

الشرق بعيون الغرب

الشرق: ذلك المكان الذي يمثل بالنسبة للغرب، بلاد السحر والفن، ومسكن الروح، منبع الخيرات، بلدان الشرق، بلدان الثراء والكنوز، متمثلة بآثاره، لا سيما آثار بلاد الرافدين وبلاد النيل. إذن الشرق يمثل في ذهن الغربي تلك الأرض التي تحتاج إلى مستثمر، ولا يوجد مستثمر غيره، فهو من يمتلك العقل والتقنية متمثلة بالعلم، بينما الشرق جاهل يعيش عوالم السحر والشعوذة، ولا بد من معين يعينه على أن يعي أهمية المكان الذي يعيش فيه. هذا العون أو المساعدة لها مقابل، هذا المقابل هو استثمار الأرض واستغلال البشر. وهذا لا يتم الا عن طريق الاستعمار، تلك الكلمة التي تحمل دلالة الاستغلال وفي الوقت نفسه دلالة الإعمار.

من هو الشرقي؟

الشرقي إبن بيئته، ذلك المنسجم مع الطبيعة الروحية للمكان، الشرقي الذي يشكل الدين جوهر حياته والذي يجعل العقل في خدمة الإيمان، ذلك هو تصور الغربي له، الدين الذي تجاوزه الغرب بعد إفادته من حركات الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر الذي مهد لقبول فكرة الفصل بين الديني والمدني، تلك الفكرة التي جعلت التصور الغربي للمجتمع الشرقي يبنى على أساس أنه مجتمع يغلب العاطفة على العقل. وبالتالي، فهو مجتمع جاهل لا يستطيع أن يُدير نفسه بنفسه. إذاً فصورة الشرقي في ذهن الغربي تحمل هذه الرؤى والتي ملخصها:

إن الشرقي يُغلب الإيمان على العقل. وبالتالي، يغلب الدين على العلم، أضاع عقله أمام سطوة النصوص الدينية، لذلك فهو يعيش حالة متأصلة من حالات التخلف والجهل.

سيادة فكرة الإيمان بالقضاء والقدر، التي رسخها السلاطين والمستبدون لتبرير القبول بالحكم الجائر بوصفه قضاء وقدرا، الأمر الذي جعل العقل الشرقي عقلاً خاملاً اتكالياً يقبل بكل ما يحصل له طبقا لهذه الفكرة، فعدَ السحر والشعوذة مكونين أساسيين من مكونات العقل الشرقي.

العقل الشرقي ليس لديه القدرة على إستثمار الأرض والخيرات نتيجة لهذه العقلية الخرافية.

العقل الشرقي عقل لغوي بلاغي ذو ثقافة كلامية شفاهية تعتمد المجاز والإستعارة والكناية، أكثر من إستخدامها المنطق والبرهان، أو مطابقة الإسم للمسمى.

إستحدث العرب مفهوم الإكلوريوس الديني بعد أن إستغنت عنه أوربا على الرغم من أن الإسلام يرفض الوساطة بين العبد وربه، ولكن العربي والمسلم يبحث عما لا يُجهد العقل، كما فعلوا ذلك في تعاملهم مع الغرب حينما إستعانوا به في صناعة كل شيء وإستيراده جاهزاً من دون إجهاد للعقل، كذلك الأمر مع الدين، فالدين يُفسره رجاله.

تداخل الأسطورة مع الدين في فكر المُسلم، مما يجعل هذا العقل بعيداً عن الإيمان بالسببية والضرورة، أي أن العقل الشرقي عقل عرفاني غنوصي بعبارة محمد عابد الجابري، أما العقل الغربي فهو بطبيعته عقل برهاني إستدلالي، وذلك ما ذهب إليه أغلب المستشرقين، لا سيما "رينان" المستشرق الفرنسي الذي بنى نظريته في ضوء الاعتقاد القائم على القول بوجود عقلين: عقال "سامي" بطبيعته عقل سحري غنوصي باطني يمثله اليوم العرب والمسلمون وعقل "آري" بطبيعته إستدلالي برهاني يُمثله اليوم الغرب متمثلاً بأوربا.

في المقابل، هناك صورة أخرى تحمل في طياتها انطباعاً إيجابياً عن الشرق، وإن كانت لا تخلو من بعض الرؤى آنفة الذكر. هذه الصورة هي: أن الشرق يمثل الملاذ الآمن الذي يجسد الفردوس الأرضي، لذلك نجد الكثير من المستشرقين يكتبون عن سحر الشرق لصفاء سمائه، ونقاء هوائه، وهو مهبط الأنبياء والرسل.

وهناك تصور غربي ايجابي آخر كانت الفلسفة لها في الدور الرئيس، فلم يعرف الغرب اللاتيني الفلسفة اليونانية وتحديداً فلسفتي إفلاطون وأرسطو المعرفة الحقة إلَا من خلال الترجمات العربية لاسيما كتب أرسطو، فقد ذهب جيرارد دي كيرمونا (1114ــ 1187) إلى طليطلة بحثاً عن ترجمات عربية للنصوص اليونانية التي كان يرغب في ترجمتها، وفي الوقت نفسه جرى البدء في ترجمة "كتاب الشفاء" موسوعة ابن سينا العظيمة، وفي عام 1180م إكتملت المجموعة الأولى من مؤلفات ابن سينا وأخذت تُروج في أوربا[1]. وفي بداية القرن الرابع عشر الميلادي أخرج دانتي من النار ابن سينا وابن رشد وصلاح الدين في كتابه "الكوميديا الإلهية" وضمهم إلى حكماء العالم القديم وأبطاله[2].

كان للتصوف الإسلامي سحره الأخَاذ على نفوس البعض من الغربيين لاسيما المستشرقين منهم، أهمهم كان لويس ماسنيون (1883ــ 1962)[3]، اليساري الكاثوليكي الذي وجد في التصوف الإسلامي ضالته الروحية التي من خلالها يمكن الشعور بالوحدة مع الديانات الأخرى.

صورت أدبيات الغرب الشعب المسلم بكونه يُشكل تهديداً حقيقياً للعالم المسيحي وتصورت أوربا في مطلع العصور الوسطى أن هناك شعباً هائجاً إسمه "العرب" أو "السراسنة"[4] نسبة إلى سارة زوج النبي إبراهيم. صورتهم هذه "الأسطورة" على أنهم "برابرة" يغزون إسبانيا وإيطاليا.

ماهية الغرب؟

الغرب هو ذلك الإسم الذي يُطلقه العرب والمسلمون على أوربا وأمريكا الشمالية والذي تغلب عليه الديانة المسيحية كدين رسمي لشعوب هذه المنطقة. وإن كانت الديانة اليوم لا تشكل جوهراً أساسياً في حياة هذه الشعوب لا سيما بعد حركات التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وبالتالي، فالصورة السائدة عن هذا الغرب أنه مجتمع مادي بمعنى مجتمع لا ديني، ذكرنا سابقاً أنه حاول التخلص من سطوة الكنيسة وسلطة رجال الدين وذلك ما مهدت له حركات الإصلاح الديني على يد البروتستانتي "مارتن لوثر" والكالفيني "راموس" وهؤلاء رجال دين إستاءوا من سلطة الكنيسة الكاثوليكية.

من هو الغربي؟

لما جاءت الحركات التنويرية متمثلة بالفلسفة الحديثة التي جاءت متقاطعة مع رغبة الكنيسة في الهيمنة ومع ما سارت عليه الفلسفة في العصور الوسطى والتي جعلت من العقل أداة بيد رجل الدين أو جعلت العقل في خدمة الإيمان. فلما ظهرت فلسفة فرنسيس بيكن التجريبية التي جعلت المصدر الأولي للمعرفة هو التجربة أو لما جاءت فلسفة ديكارت العقلانية التي جعلت العقل المصدر الأولي أو الأساسي للمعرفة. لما سادت هاتان الفلسفتان، فإن مسار العقل الغربي أخذ بالتغير، فبدلا من جعل العقل في خدمة الإيمان، أصبح العقل هو الأساس الذي نحتكم إليه في صدق المِعرفة وقيمتها، وأصبح الإنسان هو مركز المعرفة بعد أن كانت الميتافيزيقا هي مركزها، وبالتالي تحول المجتمع الغربي من مجتمع ديني إلى مجتمع لا ديني، بمعنى آخر أن الدين لم يصبح المنطلق الذي تقيم من خلاله معارفنا أو علاقاتنا مع بعضنا البعض، بل أصبح أمرا فرديا، يعود لقناعات الفرد، وللفرد حرية المعتقد بما فيه حرية الإلحاد.

هذا الغرب العقلاني المادي العلمي، بهذه النزعات التي تنطوي على إيمانه بأنه الأفضل والأقوى طبقا للنظرية الداروينية القائلة بالبقاء للأفضل الأقوى، أصبح بحاجة لمناطق استثمار ومناطق تجريب لقوته، ولا يوجد غير الشرق بوصفه المكان الأفضل لتحقيق هذه النزعات. فضلا عن ذلك، فإن هذا الغرب لم ينس في يوم من الأيام أنه الغرب المسيحي الذي جاءت الديانة الإسلامية لتُزعزع كيانه ليس في الشرق فحسب مهبط الديانة اليهودية والمسيحية، بل في الغرب مركز الديانة المسيحية.

صورة الغرب في أذهان الشرق:

بطبيعة الحال، تختلف صورة الغرب في أذهان الشرق، لا سيما وإن الشرق يعيش حالة مميزة من حالة التخلف والجمود بداية مع ما يسمى بالعصور المظلمة بعد سقوط بغداد سنة 656ﻫ. فبعد أن كان الشرق يمثل الحضارة المزدهرة حتى سقوط بغداد وبعد أن انتشر الإسلام في أغلب أصقاع العالم وبعد ان كان هارون الرشيد يخاطب الغمامة "أينما تمطرين فإن خراجك يعود إليّ" أصبح هذا الشرق (المسلم) يعيش حالة واضحة من حالات التشتت والفرقة والانهزام، وأصبحت هناك أكثر من دولة إسلامية، دولة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر، وأموية في الأندلس.

وبعد أن كان المأمون يعطي وزن الكتاب ذهباً أصبح العربي الشرقي المسلم لا يفك الخط ولا يعلم حتى ما وصل إليه هو نفسه ولا مجال هنا لأن نخوض في أساب ذلك، ولكنها كثيرة، أهمها سيادة النزعة الإستبدادية في الحكم وتجذرها في العقلية العربية والشرقية.

وفي لحظة من لحظات السبات الطويلة، دخل الغرب بآلياته وترسانته العسكرية، لكي يستيقظ "الشرقي" على فرقة عسكرية وآلات ضخمة للإستكشاف لكي تقول له: "جئنا محررين ولسنا فاتحين".

مع هذه اللحظة، لحظة دخول نابليون عام 1798 إلى مصر، بدأت تتشكل صورة جديدة للغرب تتصف بما يلي:

الغرب المتقدم (المتطور) يدل على ذلك تلك التقنية والترسانة العسكرية التي استقدمها نابليون معه، فضلا عن وجود الطاقات العلمية المرافقة له، كالمهندسين والإداريين والجيولوجيين والآثاريين. كل هذه التوجهات العلمية التي غابت عن العرب والمسلمين بعد سقوط بغداد، جاءت أكثر تقدماً وتطوراً مع نابليون.

الغرب المستعمر الذي يريد إستغلال خيرات هذه الشعوب وتكريس الجهل في هذه البلدان.

إنه الغرب المُتمدن الذي يُريد أن يلغي الإسلام وكل نزعات التدين في هذه البلدان المسلمة، لا سيما وأن النظرة السائدة عند الغرب حول الإسلام أنه فرقة هرطقية مسيحية الأجدر إرجاعها إلى الطريق الصحيح، طريق الديانة العيسوية بكل معتقداتها. هذا الاعتقاد بأن وجود الغرب على أراضي الشرق هو وجود مسيحي أيدته حركات التبشير المدعومة من دول أوربا بمؤسساتها الدينية والمنتشرة في كل البلدان العربية، وبالتالي مجيء الإستعمار هو عودة للصراع المسيحي الإسلامي، غايته الهيمنة.

غنه الغرب القوي المتجبر الذي يحمل النزعة ذات الطابع السلطوي التي تجعل منه مركزا ومن الآخرين هوامش تابعين له.

الموقف من الغرب:

في ضوء ما سبق يمكن القول أن الفكر العربي والمجتمع العربي والشرقي في الوقت نفسه انقسم إلى عدة اتجاهات حيال الغرب:

إتجاه يرفض الغرب برمته ويدعو إلى العودة إلى صدر الرسالة الإسلامية متمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة الأئمة والصحابة. وهذا الإتجاه يرى أن المسلمين "لا يصلح آخرهم إلَا بما صلح به أولهم" وإن سبب تأخر المسلمين هو عدم عرفتهم بأمور دينهم. تمثل هذا الاتجاه بكل الحركات السلفية والأصولية لا سيما الوهابية في الجزيرة العربية وامتداداتها في مشرق العرب ومغربهم، فضلا عن انتشارها في بعض الدول الاسيوية، لا سيما افغانسان، وهذا الاتجاه كما هو معلوم اختار العزلة ورفض التبادل الثقافي بينه وبين مذاهب الإسلام من جهة، وبينه وبين الغرب من جهة أخرى وأصبح أكثر انشدادا للماضي منه للحاضر. ويمكن ان يسمى كما يقول فؤاد زكريا "المغترب زمانا"[5].

وهناك إتجاه آخر يؤمن بالتقدم الغربي ويعتقد بضرورة أن نبدأ مما إنتهى إليه الآخرون، والنتاج الغربي هو نتاج حوار حضاري، وقد كانت بدايته مع الأتراك الكماليين الذين قاموا بالانفصال التام عن الماضي وكان شعارهم (إقتباس الحضارة الغربية بقضها وقضيضها). وقد تطور هذا الاتجاه عند العرب وبدا واضحاً عند شبلي شميل، ويعقوب صروف، وسمير مراش، وطه حسين، وسلامة موسى. يقول طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر): "إن الثقافة المصرية ليست جزءً من الثقافة الآسيوية، بل جزءً من ثقافة البحر الأبيض المتوسط"، بينما نجد سلامة موسى يبحث عن تاريخ مصر القبطي والفرعوني، فضلاً عن دعوته المصريين إلى ترك الشرق واللحاق بالغرب. وهذا ما بدا واضحا اليوم في طروحات سيد محمود القمني. ويمكن تسمية هذا الاتجاه ﺒ"المغترب مكانا". وليس ببعيد عن مثل هذا الرأي محمد أركون وإن لم يكن مغترب مكانياً، فهو يشير إلى قربنا من الغرب مكانياً بالقياس في مقابل بعدنا عن الشرق الأقصى، فاليونان في ثقافتها وفلسفتها ومكانها الحغرافي اقرب لنا من الصين ومعرفتنا بفلسفتها أكثر من معرفتنا بالهندوسية والكونفشيوسية[6].

وهناك إتجاه توفيقي: يعتقد بضرورة التوفيق بين معطيات الحضارة الغربية المعاصرة ومعطيات الحضارة الإسلامية، ويمكن أن ينقسم إلى قسمين: الأول ينطلق من التراث ولا يفقد صلته بالحاضر والثاني ينطلق من الحاضر ولا يفقد صلته بالماضي (التراث) الأول يمثله الطهطاوي، والأفغاني إلى حد ما، ومحمد عبده ومحمد إقبال والكواكبي وخير الدين التونسي. وهؤلاء جميعا يعتقدون بأن القرآن الكريم جاء ليؤيد العقل ولا يتعارض معه، وبالتالي فكل منتجات العقل البشري التي تخدم الإنسانية هي من مقتضيات النص الديني (القرآن والسنة النبوية) فضلاً عن إيمان أصحاب هذا الإتجاه بالاجتهاد الذي يجعل من العقل حاكماً وطريقاً في الحكم.

والثاني يمثله برأينا فرح إنطون وحسين مروه وطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وآخرون. وهؤلاء جميعاً لم يتقاطعوا مع التراث برمته، بل حاولوا إحداث نوع من التواصل عبر قراءة ما يمكن أن يشكل لحظة التنوير العربي، وقد وجد أغلبهم في ابن رشد غايته بوصفه يمثل أولا قمة ما وصل إليه العقل البرهاني عند العرب. وثانيا، كونه يمثل اللحظة الفاصلة بين التنوير الأوربي والتخلف العربي. فانتقال كتب ابن رشد إلى أوربا كان أحد الأسباب المهمة في تنشيط العقل الغربي وفاعليته، وفي الوقت نفسه، شكلت هذه اللحظة غياب العقل العربي واستقالته.

مظاهر الحوار والصراع بين الشرق والغرب:

لقد كان الشرق، كما هو معروف، سباقا في البناء الحضاري تمثل ذلك بحضارتي وادي الرافدين وبلاد النيل (مصر) وهاتان الحضارتان كانتا أساس الوعي العمراني والقانوني والإداري قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. فضلا عن وجود الحضارة الفينيقية التي هي حضارة سوريا وجزء من الأردن ومصر. وهي بالتالي حضارة شرقية، كذلك فإن ازدهار الحضارة اليونانية في جزء من أجزائها كان في مصر وتحديدا في الإسكندرية، وهناك من يروي عن قصة زيارة "فيثاغورس" إلى مصر وهو من أوائل الفلاسفة اليونان. ويقال أنه تعلم علم العدد من الفراعنة، فضلا عن وجود اعتقاد عن زيارة سقراط وأفلاطون وأرسطو لبلاد النيل. وهذا نذكره ليس من باب التباهي أو الأفضلية والأسبقية الحضارية التي ينكرها الغربيون والمستشرقون تحديدا.

فيما بعد وأثناء انتشار الديانة الإسلامية، نجد المسلمين أكثر اهتماما بعلوم الغير وذكرنا آنفا كيف ان المأمون حينما أسس بيت الحكمة كان يهتم بعلوم اليونان وبترجمتها، وبفضل هذه الحركة العلمية (الإسلامية) أصبح العرب والمسلمون حلقة الوصل بين علوم اليونان وأوربا، لإعطائها بعدا تجريبيا بعد ان كانت علوما نظرية تجريدية. ومعروف لدينا اهتمام العرب بعلوم الطب والفلك والرياضيات، والموسيقى، ومعروف فضل علمائنا الخوارزمي، الرازي، الكندي، الفارابي، ابن سينا، جابر بن حيان، ابن الهيثم، المنصوري، ابن النفيس، ابن باجه، ابن طفيل، ابن رشد، ابن خلدون، معروف فضلهم على الغرب، ونشر العلوم في مدارس اللاتين وأثرهم في الحركة العلمية في عصر التنوير الأوربي بعد ان كانت أوربا تعيش سباتا مطبقا.

انتشار الإسلام في اسبانيا، ولا نريد الخوض في إشكالات الوجود الإسلامي في إسبانيا، لكن الذي لا ينكر هو ما قدمه المسلمون من عمران وحركة علمية ونشر لديانة التسامح في هذا البلد، فالإسلام لم يدخل فقط كما يذكر المستشرقون لحصد أموال الجزية كما يروج لذلك، بل كان دخول الإسلام في ضوء قبول الآخر المضطهد للمتقدم (المسلم) في ذلك الوقت، فقد وجد الإسلام صدىً عميقاً في جميع الأوساط اليهودية والمسيحية. "فالابيونيون" أي اليهود الذين يعتبرون المسيح النبي الذي بشر به موسى، لا الابن الوحيد لله- كانوا على الأرجح مرحبين بالإسلام الذي ينطبق معتقده مع الرؤية الإسلامية. وكذلك المسيحيون القريبون جدا من الابيونيين أيضا إذ ينظر هؤلاء إلى المسيح كرجل وكنبي. وكانوا في اتساق مع التقاليد اليهودية، ينادون بوجوب الختان وبإطاعة الشريعة، وهؤلاء باعتقادنا مهدوا لقبول الإسلام في الأرض المسيحية[7]. وإلَا لماذا إنتشر الإسلام بهذه السرعة؟، هل السيف وحده كفيل بنشر فكرة ما؟ أنا اعتقد أن الفكر لا يُمكن أن ينتشر بالسيف فقط إذا لم يكن له مقبولية عقلية أو تجعله منظوراً إليه على أنه يُمثل خلاصاً من ضغط ما في زمن ما.

من جهة أخرى، كان هناك صراع بين الغرب والشرق تمثل بالصراع بين الإسلام والمسيحية، فبعد أن إنتشر الإسلام ووصل إلى الصين آسيوياً، وفرنسا أوربياً، كان لا بد من مواجهته. وكانت أولى المواجهات هي بالحروب الصليبية التي كانت تجعل من الصليب شعاراً للقضاء على الإسلام والمسلمين، ومعروف لنا كيف صد "صلاح الدين الايوبي" القائد المستبد زمن الصليبيين. نحن لسنا في مقام التعريض بالمسيحية ولكن شعار هذه الحملة كان الصليب، أما المسيحيون فقد كانوا ولا زالوا يعيشون في المجتمع الإسلامي، ومعروف دورهم ومشاركتهم في بناء الحضارة الإسلامية، فأغلب المترجمين في العصر العباسي وأهم الأطباء كانوا من المسيحيين وكانوا يحصلون على مكانة متميزة عند الخليفة العباسي يحسدهم عليها المسلمون أحيانا.

أيضا تمثل الصراع في العصر الحديث في الاستعمار. وقد تكلمنا آنفا عن دور الاستعمار في تشكيل صورة الغربي في ذهن الشرقي والعربي، والذي يمثل الاستشراق بكل ايجابياته رديفا له، الاستشراق الذي كان من أهم أهدافه التخلص من الإسلام. مثل هذه الرؤية تبناها أغلب المستشرقين لا سيما "رينان" و"كارل هنريش بيكر (م 1933) وسنوك هيرفونيه (م 1936). فضلاً عن المدارس والحركات التبشرية في كل من مصر ولبنان والعراق وسوريا وليبيا والمغرب وتونس والجزائر.

ختاما، لا يفوتنا أن نذكر بالطروحات المعاصرة التي سادت في الفكر الغربي متمثلة بأطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما وصدام الحضارات لهنتينكتون، فضلا عن اطروحة توفلر حول حضارة الموجة الثالثة والتي تصب كلها في خدمة فكرة "العولمة" التي لم تبق في إطار كونها فكرة بقدر ما كان الغرب ساعيا ولا زال إلى تطبيقها والتي تذهب إلى تكريس المقولة السابقة المؤمنة بمركزية الغرب وهامشية الشرق أو التي تقسم العالم إلى بلدان شمال وبلدان جنوب، سادة وعبيد، ضمن مفهوم "القرية الكونية" الذي يكرس مفهوم التبعية ومحاولة خلق مجتمعات استهلاكية تدين باستهلاكها للمجتمع المنتج متمثلا بالمجتمع الغربي والامريكي تحديدا، والذي يجعل مفهوم "الدولة الرخوة" قابلا للتطبيق، بقصد الغاء الهويات الوطنية وتذويبها ضمن دولة المركز وذلك عبر نشر ثقافة وتقاليد وحضارة هذه الدولة التي تتمحور حول محاولة المرادفة بين "العولمة" و"الأمركة"، من خلال تقزيم أوربا وتهميشها متمثلة بفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وبناء رؤية عن الإسلام لا تبتعد كثيرا عن الإسلام الذي صوره المستشرقون سابقا، وهو إسلام متطرف يلغي الآخر بوصفه يشكل خطرا على الثقافة المسيحية، ولذلك لا بد من مواجهته كونه يشكل آخر معاقل التهديد للثقافة الليبرالية الغربية لا سيما الأمريكية، بالخلاص منه نصل إلى نهاية التاريخ متمثلة بتتويج الليبرالية عرش العالم، كما يقول فوكوياما.

ما بجدر قوله هنا أن كثيرا من العرب والمسلمين قرأوا اطروحة هنتنكتون على أنها دعوة إلى الصدام، والقليل منهم من فهم أن هذا المفكر كان يطرح قراءة استشرافية مستقبلية تنبه الادارة الأمريكية لكي تضع استراتيجية لتفادي هذا الصراع أو مواجهته كي تبقى الليبرالية الطريق الافضل للتعايش. لكن العرب فشلوا في مواجهة هذه الرؤية التي تصورهم على أنهم قادة الارهاب في العالم وكرسوا وجهة النظر في أحداث 11 أيلول حينما أطاحوا ببرجي التجارة في امريكا وقتل أكثر من أربعة آلاف من البشر من مختلف الجنسيات والقوميات والديانات، الأمر الذي جعل مقولة (صدام الحضارات) أكثر مصداقية وواقعية من (حوار الحضارات) التي تبدو وكأنها بديل غير واقعي، بل وحتى رومانسي في اقل وصف إذا لم نقل انها مقولة فارغة، لا سيما في ظل سيادة الأصولية الإسلامية التي كرست الاعتقاد بأن الغرب يسعى جادا إلى هدم الإسلام، والتي جعلت من نفسها ناطقة باسم الإسلام وكأنها الممثل الحقيقي والوحيد له.

نعتقد أخيرا أن ما ذكرناه كفيل بالإجابة على السؤال الذي طرحناه في العنوان وهو العلاقة بين الشرق والغرب، صراع أم حوار؟ والنتيجة أن الصراع هو الذي أصبح أكثر حضوراً، إذا لم نقل أنه ألغى الحوار.

 

 د. علي المرهج – استاذ فلسفة

..................

[1] ينظر: شاخت و بوزورث وآخرون: تراث الإسلام، ج1، تصنيف: شاخت و بوزورث، تر: محمد زهير السمهوري وآخرون، مراجعة: د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة رقم (8) لسنة 1978، الكويت، ط2، 1988، ص40.

[2] المصدر نفسه، ص51.

[3] اهتم ماسنيون بدراسة التصوف الإسلامي كونه هو نفسه صاحب توجه صوفي، فوجد في الحلاج ضالته المعرفية في البحث عن جوانب الوحدة  بين الأديان، فكان التصوف الإسلامي ملجأه لاكتشاف هذه الوحدة الكامنة في القيمة الروحية للإسلام، فكشف لنا عن فكر الحلاج واستخرج نصوصه من بطون الكتب التراثية، فعرفنا بفكر الحلاج ومعاناته وصلبه، فألف لنا كتابه الشهير "آلام الحلاج".

[4] يذهب مكسيم رودنسن إلى انكار الرأي القائل أن أصل هذه التسمية تعود نسبته إلى سارة زوج النبي ابراهيم ويرجح أن هذه الكلمة من أصل لاتيني Saracenus نقلا عن اليونانية sarakenos، وقد ظهر هذا الإصطلاح لأول مرة في مؤلفات كتاب القرن الأول الميلادي وقصدوا به البدو الذين كانوا يعيشون منذ أزمان طويلة على أطراف المناطق الزراعية ما بين النهرين، ويهددون طرق التجارة أو يحمونها بتكليف من القوتين العظيمتين آنذاك: الرومان والفرس. ويدخل في التسمية الأنباط وأهل الحيرة. والكلمة اليونانية تعني ساكني الخيام.

ويذكر بعض الباحثين أن أصل الكلمة آت من شرقي Sharqi وهذا محتمل. لأن البدو كانوا يعيشون في شرق الامبراطورية الرومانية. والتصور الغربي عنهم أنهم شعب هائج عُرف بالسلب والنهب، خرب الأراضي المسيحية، ينتمون إلى ساره زوج النبي ابراهيم، رغم أنهم من سلالة هاجر، كما يدل على ذلك أسمهم الثاني "Agereai" وهاجر هي الأمة التي طُردت من الصحراء مع ابنها اسماعيل. وكان النبي محمد في عرف رجال الكنيسة في العصور الوسطى، ساحر هدم الكنيسة في أفريقيا وفي الشرق عن طريق السحر، وهؤلاء = البدو عندهم من المشركين، ويعد النبي محمد هو صنمهم الرئيسي وكان معظم الشعراء الجوالة يعتبرونه كبير آلهة السراسنة ينظر: شاخت وبوزورث: المصدر السابق، ص27ـص35.

[5] ينظر: فؤاد زكريا: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، ط1، 1989 

[6] ينظر: محمد أركون: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، تر: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، ط1، 2011، مقدمة المترجم، ص70).

[7] ينظر روجيه غارودي: الإسلام في الغرب، تر: محمد مهدي الصدر، دار الهادي، بيروت، ط1، 1991، ص29.

في المثقف اليوم