قضايا

العقدة الزينبية!!

sadiq alsamaraiعقدة عراقية سلوكية بإمتياز، تتلخص في التعبير عن مناوءة العراقي للعراقي والتقليل من أهميته ودوره وقيمته وتأثيره، ونكران نجاحاته وإنجازاته والتفاعل معه بسلبية مقيتة.

وليس ذلك من آليات الرجم بالغيب والتعميم والحكم الباهت، وإنما هي التجارب والأدلة التي يندى لها الجبين، وأقربها ما حصل لزينب العراقية السامرائية، وكيف تصدى لها ذوي العاهات السلوكية وحاولوا الحط من قدرها والنيل منها.

وما واجهته زينب عانى منه العراقيون الناجحون المتميزون في جميع الميادين العلمية والثقافية والإقتصادية ، وعلى مرّ الأجيال، فما أن ينهض العراقي حتى تنهض معه آفات العدوان عليه والإنتقام منه، ولهذا سادت الوجوه الكالحة والنفوس الطالحة والرؤوس الناطحة.

وترى ذلك جليا في إهتمام العراقيين بالكتابات التي تحط من قدر هذا وتنال من ذاك، وتجدها ذات مقروئية عالية ، فلو كتبتُ مقالة أنال بها من أي شخص فأن التهافت عليها سيكون بالآلاف، أما إذا كتبتُ مقالة موضوعية ذات قيمة معرفية وتهذيبية فأن الوجوه تشيح عنها.

وهذه علة سقيمة وعاهة أليمة مفادها معاداة الناجحين وتدميرهم والإنقضاض على وجودهم، فنتخذ نهج الإبادة لكي تتحقق الإرادة، وهذا واضح في ما يحصل على الواقع السياسي الذي يتمتع بإبادة اللاحق للسابق وإقتلاع إنجازاته وما يدل عليه، ولهذا تأسن الواقع وتسرطنت مشاكله.

والأمثلة لا تحصى ولا تعد وتتكرر كل يوم في واقع متمحن بذاته وموضوعه، وما إستطاع الخروج من أصفاد ويلاته وتداعياته، ولا يوجد عراقي واحد برز في موضوع ما، إلا ووجدتَ مَن يعاديه، ومنهم العلامة علي الوردي،  والجواهري الذي لو كان غير عراقي لربما نال أرفع الجوائز العالمية بل ونوبل للآداب، لكنه عراقي ومن حوله مَن يعاديه.

ولو نظرنا إلى واقع المجتمعات والشعوب لتبين لنا أنها تسعى لصناعة رموزها وأعلامها، إلا المجتمع العراقي الذي يكره هذا السلوك ولا يوجد عراقي قد برز وسانده المجتمع وأعانته الحكومات ورفعت من شأنه، بل تحسبه عدوا وربما تستهدفه وتقضي عليه.

وفي الواقع العلمي والطبي، نجد المجتمعات العربية الأخرى تصنع أعلامها، إلا العراق فأنه يمحقهم ويلغيهم، ولهذا ما أوجدنا أعلاما علمية عراقية بارزة في ميادين الإختصاصات المتنوعة رغم وجودها وتميزها وتفوقها.

ومن الحالات التي عشتها، أنني تدربت على يد أساتذة متميزين في حقل إختصاصي، ولهم باعهم الطويل وإنتاجهم العلمي والأدبي الرفيع، وذات مرة قال لي أحد أساتذتي بأنه يسعى لتأليف كتاب يتحدث فيه عن مسيرته في الطب ورحلته الوظيفية والأدبية، وهو الذي دربني وعلمني، فشاركت في كتابه بقصيدة حوارية تشير إلى الموضوعات التي كنا نتداولها من علوم إنسانية وفكرية وفلسفية وثقافية متنوعة، وكانت قصيدة أقل من عشرين بيتا، ومطلعها " يا أديبا وطبيبا حاذقا...."، ففاجأني الزملاء بأنني لا أحتاجه ولا داعي لمخاطبتي إياه بهذا الأسلوب، فقلت لهم: إنه أستاذي الذي علمني الكثير، لكنهم إستهجنوا ما كتبت رغم أنهم لم يقرؤا القصيدة على ما يبدو بل إكتفوا بالشطر الأول من أول بيت فيها وحسب.

ومرت السنون وبينما كنت ألقي محاضرة في مؤتمر علمي عالمي لمحت أستاذي جالسا بين الحاضرين فأشرت إليه متفاخرا به، وذلك من باب الخلق والسلوك القويم، وليس كما نتصور ونتوهم بآليات تفكيرنا المنحرفة المشوهة، وهذا سلوك تعلمته من الآخرين.

ففي أول عهدي بالغربة حضرت مؤتمرا علميا، فأدهشتني أخلاقيات التفاعل ما بين الأساتذة وكيف يعطي كل منهم الحق للآخر فيما أنجزه وأبدع فيه، وحتى الأموات منهم يحفظون لهم كرامتهم وحقوقهم العلمية والمعرفية، وقارنت ذلك فيما كان يدور بيننا في المؤتمرات العلمية المصغرة في بلادنا، وأدركت جوهر علة السقوط في الحضيض.

" وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت....فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا"

والخلاصة أن أخلاقنا ذهبت درج الرياح، وهذا ما عبّر عنه الذين هبوا بوجه "زينب"، وما جاؤوا بجديد وإنما الإناء ينضح بما فيه، وقد سكبوا ما فيهم بوقاحة وشراسة مخزية.

ولله في خلقه شؤون، وتلك عاهة سلوكية عراقية ومعضلة أخلاقية علينا أن نعترف بها ونواجهها ونستيقظ، ونتعلم كيف نعيش أصحاء نفسيا وسلوكيا وأخلاقيا، لا أن نتبجح بما ليس فينا، وما يتحقق من حولنا يكشف عاهاتنا والعيوب التي فينا!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم