قضايا

الإستقلال الفكري في الجامعة العراقية "رؤية مُستقبلية"

ali almirhigعاشت الجامعات كما عاشت غيرها من المؤسسات مآسي النظام السابق ولحقها ما لحقها من إهمال مقصود سواء على المستوى الاقتصادي أوعلى المستوى الثقافي، فقد أُهمل الأستاذ الجامعي من جهة وضعه الاقتصادي، حتى صار لا يقوى على شراء جريدة، الأمر الذي جعله مُنقطعاً مدة طويلة من الزمن عن التطور العالمي الثقافي والعلمي.

ففي الوقت الذي تعتبر فيه الجامعة مركزاً ثقافياً وعلمياً يخرج منه الشاعر والعالم والأديب والمثقف، أصبحت الجامعات في زمن البعث مركزاً لتصدير الفكر أُحادي الرؤية، بعثي المنبع وقوموي التوجه، فصار البعثي يصول ويجول في الجامعة مُنظراً للثقافة القوميوية، أما الأستاذ المستقل فقد فضل الإنزواء والصمت وكلامه يقتصر فقط حول المادة العلمية من دون الخوض في حوارات ثقافية خشية الوقوع في الهاوية.

لذلك أصبح نمط التعليم في الجامعات لا يُساعد على تنمية الوعي الثقافي والمشاركة في تشكيل ثقافة أصيلة، هذا علماً أن الثقافة آنذاك هي ثقافة سلطوية، تُمجد وتُطبل للطاغية المستبد "الحاكم الفاضل"!! المفكر والمثقف والسياسي الأفضل!!. الأرعن الذي خرب البلاد ونهل من الطغاة مُرَ الأحقاد على شعبه وعلى من جاور حدود بلاده، مُتغطرساً يُزيَن له الأوغاد أفعاله في خرق قوانين الدول وإنتهاتك حُرمات العباد، فجعلنا من ثقافة الإستبداد ثقافةً قومية ًنُعلَم فيه الأولاد خرق حقوق الإنسان وتغيير خارطة الأرض متى ما شاء خليفة الله في أرضه، سلطان الزمن وما جادت به السماء من وقاحة ومن نقمة تعليم العبيد للأسياد (!!).

أما إذا أردنا الحديث عن الثقافة الجامعية الآن بعد التغيير الذي حصل فكما هو معروف، فأن لكل فعل رد فعل، فالضغط الذي كان يعيشه الأستاذ الجامعي والطالب ولَد في هذه اللحظات بالذات ثقافة مكبوته تُعبر عن إتجاه فرداني يقمع الآخر ويفرض نمط من التثقيف لا يساعد على بناء جامعة للثقافة (سواء ثقافة علمية في العلوم الطبيعية والرياضية او ثقافة إنسانية) لأن الأستاذ إنسان يعيش في وسط اجتماعي، ولطاما كانت حياة هذا الوسط الجتماعي الثقافي رهينة لنمط التعليم الملائي، فسيبقى المعلم بديلاً للملى أو الشيخ، يُعلم التلاميذ وفق منهج التكايا والزوايا والرُبط، فيتخذ من طريقة التلقين للمادة الدراسية أساساً ومنهجاً في تغييب عقل التلميذ وجعله عبداً لطريقته على حساب طريقة الحوار والجدل السقراطيين، لأنه بإتباع هاتين الطريقتين "الجدل والحوار" لربما يقع في إطار نقد المحرمات الكثيرة جداً في زمن حُكم الإستبداد المُنسجم رؤيةً ومنهجاً في السياسة مع منهج التلقين والإتباع المُلائي.

لربما يبدو في كلامي هذا نوع من التشاؤم وهذا صحيح الى حد ما ولكن هذا لا يعني اليأس، فما أريد الأطاحة به ومحاربته لمدة 35 سنة مدة حُكم البعث ليس من السهل إعادة بناءه في هذه المدة القصيرة، إن علمنا بأن منهج الجامعة وطرقها التعليمية كانت تصب لصالح تغييب العقل النقدي وتصيير "ثقافة الجامعة" طلبة وأساتذةً في خدمة أيديولوجيا "الحزب القائد"، فهو من جعل من الجامعة ناطقة بإسم سياسة هذا الحزب وجعله مُشاركاً في محو ثقافة التنوع، وسعيه نحو ثقافة الدمج والإقصاء.

نحن نعتقد أن لحظة الإتزان في الوسط الجامعي خصوصاً، وفي الشارع العراقي عموماً يُمكن أن تكون قريبة جداً بعد الخلاص من لحظة الفعل ورد الفعل في تبادل العنف التي أوشكت أن تنتهي خطورتها بعد الخلاص من داعش، وهذا الأمر يُمكن تلمسه بصورة واضحة في الجامعات العراقية اليوم، فهنالك سعي عند الكثير من الأساتذة المثقفين وبشكل جدي نحو تغيير "ثقافة الجامعة" والسعي الى بناء "جامعة الثقافة" التي تتلاقح فيها الأفكار والرؤى المختلفة من خلال تبني الفكر المُنافح عن حق الجميع في الإختلاف، مع ضرورة التأكيد على التخلص من روح الإستبداد التي ورثناها من العصر السابق، وهذا الأمر لا يتحقق إلَا عبر سياسة إستقلالية الجامعات التي تقتضي أمور عدَة منها:

ـ السعي لرفع القدرة الإنتاجية للجامعة، فكلما زادت قدرة الجامعة من قدرتها الإنتاجية، إستطاعة الحصول على واردات ربحية جراء طرح منتوجها:

1ـ العلمي = النظري: مثل إستثمار الطاقات العقلية لعلماء وأساتذة الجامعة في المكاتب الإستشارية أو في خدمة المؤسسات الإقتصادية في البلد في توفير النصيحة والرأي العلمي بما يخدم هذه المؤسسات في تطوير إنتاجها ويجعلها منافسة للسوق العربية أو حتى الدولية. والمشاركة في إنتاج تكنولوجية عال.

2ـ العلمي = العملي: أي قدرة الجامعات لا سيما العلمية منها على المشاركة في إنشاء مؤسسات إستثمارية وإنتاجية ذات مرامي ربحية، حتى لا يكون قرارها مرتبط بجهة التمويل وهي الحكومة.

ـ الدفع باتجاه إختيار القيادات الجامعية المُستقلة والسعي للحفاظ على أمنها وسلامتها كي تكون مُستقلة فعلاً، فمن اللافت للنظر، أن إختيار القيادات الجامعية في جُل الجامعات العراقية يتم عبر العلاقات الشخصية أو التزكية الحزبية. وهذا أمر بات معروفاً للجميع في العراق. والمطلوب قبل إجراء خطوة إستقلال الجامعات هو البحث عن رئيس جامعة وعميد كلية معروف بقدرته العلمية وبقوة شخصيته غير مُرتبط بحزب ولامُتماهياً مع أيديولوجيا حزب مؤثر، لأن أغلب رؤساء الجامعات هم ممن لهم ولاءات معروفة لأحزاب فاعلة، وممن عُرفوا بسعيهم لطلب المناصب، ولوزير التعليم العالي إن كان مُسققلاً فعلاً أن يختار أكاديمياً يشهد له القاصي والداني بعلميته يطلبه المنصب لا يطلبه هو، وهذا أمر صعب المنال في العراق اليوم بسبب التجاذبات الحزبية والعرقية والطائفية.

الجدير بالذكر أن بناء "جامعة الثقافة" هذا لا يمكن أن يأتي بجهود فردية لبعض التدريسيين وأساتذة الجامعات، فلا بد أن تُشارك فيه مؤسسات ثقافية مثل إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين ووزارة الثقافة العراقية، كي يشترك مثقفوا العراق وأكاديميوه في بناء وعي ثقافي عبر تعاضدهم القافي ومشاركاتهم الفاعلة في  لتنشيط الوسط الجامعي وتوعيته بأهميته ودوره في بناء الحياة المجتمعية في العراق اليوم.

وما يدعم وجهة نظرنا هذه هو وجود أساتذة جامعيين فيهم نخبة من الشعراء والأدباء والكتاب المثقفين ممن حرمهم النظام السابق من المشاركة الفاعلة في تنمية الروح الثقافية والوطنية في العراق، تقع عليهم مسؤولية تعريف الطلبة بنتاجهم الثقافي وفاعليتهم المجتمعية والعلمية في المؤتمرات والندوات كي يُعرَفون بأنفسهم وبجامعاتهم سعياً منهم لنقل الوجه المُشرق للجامعة.

فضلاً عن ذلك فلا بُد للجامعات من  تنشيط علاقتها بالوسط الثقافي عبر إستضافة مثقفين وأُدباء ممن هم بعيدون عن التواصل مع الوسط الثقافي الجامعي، وهذا التواصل يُمكن تفعيله من خلال تنشيط المهرجانات الثقافية والعلمية للطلبة في الجامعات وفسح المجال للتواصل التفاعلي المباشر بينهم وبين المثقفين ممن هم من خارج الوسط الجامعي لتفعيل التواصل بين المُبدعين والطلبة، فحينما يعرف الطالب أن هناك من هو يختلف عنه في الفكر والاعتقاد وهو مٌبدع، حينذاك نستطيع تطويع روح التمرد الشبابي عنده كي تستوعب التنوع وقبول المُختلف والتعايش معه بوصفه نصف الذات الغائب أو غير المُدرك بسبب عُنجهيتها وجبروتها الناكر فعل الآخر ودوره في تكامل الوعي.

فلنا في تماهي الأستاذ الجامعي مع المجتمع الطلابي وإحساسة بدوره الفاعل عبر تخليه عن بُرجه العاجي كي يتناغم مع متطلبات المُجتمع وإدراك حاجاته، مثال يُحتذى في تنمية الوعي الذي ينعكس بدوره لتنمية وعي المُجتمع بأهمية الحرية والديموقراطية بوصفهما صنوان لا يفترقان في صناعة المجتمعات المُستقلة التي تعي وجودها وتعي في الوقت نفسه وجود آخرين مُشاركين لها في المواطنة مُغايرين لها في وسط جامعي حُر يرفض "طبائع الإستبداد" ويأمل بالخلاص من الخضوع لأخلاق الطاعة والإستعباد بلغة الكواكبي، وهذا مما نبغي من الجامعة العمل عليه وتحقيقه كي تكون الجامعة جامعة للثقافات لا جامعة للولاءات.

توصف الثقافة بأنها مثل الكائن الحي حيث تضمر فيها عناصر وتتطور فيها عناصر أخرى، أي أنها في حركة تجدد وصيرورة مستمرين ولأجل بناء الجامعة التي تعد نُريد لها أن تكون منبراً علمياً وثقافياً، وهاتان الصفتان (العلمية والثقافية) متلازمتان في كل جامعات الأرض منذ أن بدأ الوعي بقيمة التعليم العالي، الذي يقتضي توفير الإستقلال في القرار وتخطي تبعات التبني الأيديولوجي للدين أو للمذهب، فلا وجود لحرية علمية وفكرية في حال وجود هيمنة لدين أو مذهب، لأن في حضورهما غياب للحقيقة العلمية التي يُمكن أن تكون مُعارضة للتوجهات الدينية والمذهبية المُتبناة، فإن كنا نبغي معرفة الحق الذي "لا مجمجة فيه" فعلينا التخلي عن نزوعنا المذهبي والديني كي نستطيع رؤية الحقيقة كما هي. 

وهذا الأمر يجعلنا نسعى لجعل الجامعات تعمل بمنأى عن مُعتقداتنا الدينية والسياسية كي تتمتع بنوع من الإستقلال الثقافي تفرضه الطبيعة الأكاديمية الحُرة.

طبيعة هذا الإستقلال يقتضي أن تأخذ الجامعة بالصفة الحيوية التي يقتضيها كُلاً من الثقافة والعلم، لأن الجامعة لا تكون فاعلة في المجتمع، أي جامعة ثقافية وعلمية إذا لم تواكب التقدم في مختلف مجالات المعرفة وإن كان مُغايراً للرؤى الدينية السائدة في المجتمع.

إن طبيعة البحث الأكاديمي تقتضي التحاور بشكل دائم ومُستمر مع مختلف الثقافات والعولم وإن كانت مُخالفة لنا في الدين والمُعتقد، ولكن ضرورة البحث العلمي تدعونا لإقامة علاقة تواصل مع الثقافات الأخرى وإن كره المتطرفون من أئمة الدين.

فلا علم ولا تنمية من دون التواصل مع الجماعة المُغايرة لنا في الملة وفي القومية وفي التوجه الأيدولوجي والبناء الأثيني، سواء أكانت هذه الجماعة من داخل الوطن المتعدد الأطياف أو من خارجه، فلا أفق ولا رحابة في عقل لا يعي  ولا يتفعال إلَا مع أشباهه.

ولا إستطاعة ولا تمكن من دون وعي بمقتضيات "الإستقلال الثقافي" الذي يعني معرفة الغير من دون تقليد ولا إتباع يُغيب فاعليتنا وهويتنا وحضورنا الثقافي.

والجامعة هوية ثقافية وأكاديمية تُوصف بها وتُوسم المجتمعات الراقية المتقدمة، فمن قبل كُنا نوصف بأن المستنصرية جامعة علمية وثقافية وهوية ذات ملامح إسلامية، واليوم نستصر بقدرات الخيرين من الأساتذة اللاطائفيين، فلا من ناصر ينصرنا على المتذهبين سوى نزعة الإستقلال عند الأحرار من الأساتذة العراقيين.   

 

د. علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم