قضايا

المثقف الأصيل والمثقف التقليدي

ali almirhigتلخيص ونقد لرؤية شريعتي لمفهوم المُثقف في كتابه "مسؤولية المثقف"

يُعرف شريعتي مفهوم المثقف بأنه: "كلمة تُطلق على فرد من طبقة أو شريحة تقوم بعمل عقلي" (ص50، مسؤولية المثقف)، وهو بهذا التعريف لا يروم شمل جميع المُتعلمين، أو من يصفهم بأنهم يقومون بأعمال عقلية، بصفة المثقف، مثل المعلمين وأساتذة الجامعة والشعراء والفنانين والمهندسين والأطباء والمحامون والقضاة ورجال الدين والفلاسفة والمؤرخين، لأن المثقف ليس هو الذي يُمارس أعمالاً عقلية، وهو بهذا يروم الفصل بين مفهوم المثقف ومفهوم المفكر، لأن "المفكر بمعناه الإصطلاحي "صفة لفكر إنسان ما"، أما المثقف، بمعناه اللفظي فهو "صفة لعمل إنسان ما"، ومن هنا فبعض المُستنيرين هم من أهل الفكر، وبعضهم لا ينتمون إليه كمجموعة مُصنفة، وعلى العكس فبعض أهل الفكر مُستنيرون وبعضهم لا يتمتعون بهذه الصفة" (ص53، مسؤولية المثقف)، لذلك يرى شريعتي أن كلمة "مُتعلم" هي أليق بمن تعلم أو حصل على شهادة وعمل بها، وبقيَ يعمل في إختصاصه من دون إنشغال بقضايا المجتمع العامة و مشاكله والبحث عن حلول لها. ويقصد بالمثقفين هي "تلك الطبقة التي تقوم بالفكر كعمل" وأدوات عملها الاجتماعي هي عقولها ومعلوماتها وتخصصاتها في مُقابل الطبقة التي تقوم بعمل يدوي أو بدني" (ص82، مسؤولية المُثقف).

من هنا نجد شريعتي يذهب لنقد "المثقف المُقلد" في مجتمعنا حسب وصفه، لأنه جعل من فكره نُسخة من المثقف الأوربي الذي نتجت ثقافته وفق ظروف فكرية ودينية واجتماعية مُباينة تماماً لظروفنا، فالمثقف الأوربي أخذ خصائص فكره وثقافته اللادينية من ظروف مجتمعه الذي كانت فيه المؤسسة الدينية مؤسسة ضاغطة على الفكر وقامعة للتعقل وللنزوع العلمي، بينما تجد في تايخنا الإسلامي يخلو من مثل هذه المؤسسة القامعة لعقله ونزوعه العلمي، الأمر الذي يعني أن الظروف الدينية والسياسية والتاريخية لصيرورة المثقف وفاعليته في المجتمع مُختلفة بين المثقف الغربي ومُتطلبات وجوده وفاعليته النقدية في مُقابل مُقتضيات ومُتطلبات وجود المثقف الشرقي وفاعليته النقدية، ولا مبرر تاريخي ولا ديني ولا سياسي لأن يكون المثقف الشرقي نسخة مُكررة من المُثقف الغربي.

لذلك نقد شريعتي المثقف الشرقي الذي جعل جُلَ همه نقد الدين وإنعكاساته السلبية على المجتمع، فجعل منه القامع للحُريات والمُعيق لتدم المُجتمعات. وبرأي شريعتي هذا الأمر إن كان ينطبق على المجتمع الغربي، فليس بالضرورة أن ينطبق على المُجتمع الشرقي، فلم يكن سعي المُقف الشرقي الذي صير الدين أصلاً للتخلف المُجتمع الشرقي سور تقليد وإعادة تكرار لمقولات المُثقف الغربي.

ولو تمكن المُثقف الشرقي من إدراك ووعي حاجيات مُجتمعه لأدرك أن في الدين بوصفه المكون الأساسي للتماسك المُجتمعي خلاصه وتنويره الذي يرنو إليه، لن يكون نقد الدين في مجتمعنا برأي شريعتي سوى نسيان الذات وتمكين الآخر من الإنقضاض على آخر المعاقل والسدود المانعة لسطوة الإستعمار.

إن مهمة المثقف "العودة إلى الذات" وهي مُهمة رسالية نبوية "حين لا يكون هناك نبي، ونقل الرسالة إلى الجماهير، ومُواصلة النداء، نداء الوعي والخلاص، والإنقاذ في آذان الجماهير الصماء التي أُصيبت بالوقر، وبيان "الإتجاه والسبب" وقيادة الحركة في المجتمع المتوقف، وإضرام نيران جديدة في مُجتمعه الراكد، وهذا عمل لا يقوم به العُلماء، لأن هناك مسؤولية مُلقاة على عاتق العُلماء مُحددة تماماً وهي منح حياة أكبر قدر من الإمكانيات، ومعرفة "الوضع الراهن" وكشف قوى الطبيعة والإنسان وإستغلالهما. إن العُلماء والفنيين والفنانين يمنحون المُجتمع البشري أو مُجتمعهم قوة علمية، لكن المُثقفين يُعلمون المُجتمع "كيفية السير" ويمنحونه الهدف، كما يُقدمون رسالة "التحول" وإستجابة "التحول إلى نسق بعينه" ويُضيئون الطريق للحركة". (ص126ـ127، مسؤولية المُثقف). الأمر الذي يعني أن المُثقف هو ليس من تعلم وعرف النظريات العلمية والفلسفية وحفظها، وليس هو من سار على نهج ديني موروث، وليس هو من يخضع لقيم وتقاليد مُجتمعية بالية، إنما هو الفرد الأصيل الواعي بمُتطلبات مجتمعه وإمكانات التغيير من داخله، فالمُثقف في مجتمع أفريقي مثلاً، عليه أن يفهم مُتطلبات وتناقضات هذا المُجتمع، ليسعى للكشف عن سبل النهضة المُمكنة من داخله، لأن هذا ما فعله المُثقف الغربي، حينما أدرك دوره في بث الوعي التنويري في مُجتمعه وكشف الأسباب الرئيسة للتخلف والإنحطاط في مُجتمعه، فكانت المؤسسة الكهنوتية هدفاً له في دعوة لمواجهتها والخلاص من سطوتها ورجعيتها.

مُلخص القول: أن على المُثقف أن يعي "النمط الثقافي" لمُجتمعه، فالنمط الثقافي اليوناني نمط فلسفي، والنمط الثقافي للرومان نمط فني وعسكري، والنمط الثقافي للصين هو نمط صوفي، والنمط الثقافي عندنا "نحن المسلمين" هو النمط الديني الإسلامي. (يُنظر، ص135، مسؤولية المُثقف). فينبغي على المُثقف ـ برأيه ـ "في المُجتمع الإسلامي أن يكون عالماً بالإسلام، هذا أمرٌ حتميٌ ولا مُناقشة فيه مهما كان دينه ومهما كانت عقيدته، وإن فعل فسوف يحس فجأة بحالة ثورية مُدهشة غير مُتوقعة، وسوف ينتبه إلى مأساة عظيمة قد حدثت، وهي كيف أن المُثقفين الآخرين قد ضيعوا أوقاتهم سُدى وأفسدوا مواهبهم ونوابغهم، وضللوا الناس نتيجة لـ "سوء البدء"، وكيف أنهم تسببوا في مأساة عظيمة بسوء فهمهم وتخبطهم وخطلهم وعدم معقوليتهم ومنطقيتهم في الربط بين الأشياء". (ص140ـ141، مسؤولية المُثقف)، ولا أعرف من هو هذا المُثقف برأي شريعتي، هل هم عُلماء الكلام المُسلمين مثلاً؟ وإن كانوا هم، فأي فرقة منهم يقصد وهم يُكفر بعضهن بعضا؟ هل هم المُعتزلة، أم الأشاعرة، أم الشيعة، أو ربما الحنابلة، أو لربما يقصد الفلاسفة المُسلمين، ولكن أياً منهم هل هم الفلاسفة العرفانيون أم هم الفلاسفة البرهانيون؟ أو قد يكون الصوفية، ولكن أي الصوفية يقصد، هل هم الصوفية العُرفاء من المُتفلسفة، أم هم الصوفية الطُرقيين السالكين لطُرق الحق، وأي حق هذا، هل هو مع من سلك الحلول أم الإتحاد أو في وحدة الوجود؟.

وفي السياسة، إن كان النمط الديني الإسلامي هو الغالب في ثقافتنا بوصفه المُكون لوعينا السياسي، فما هو نمط الحُكم الذي ينشده شريعتي؟ هل هو نمط على شكل ولاية الفقيه التي تكونت بعد وفاته في إيران؟ أم هو شكل نظام "الحاكمية" الذي يدعون له جماعة الإخوان المُسلمين؟ أم هو نمط الحُكم الإسلامي الذي يفصل بين الولاية الدينية والولاية المدنية الذي ذهب إليه كثير من المُفكرين الإسلاميين؟.

إن رؤية شريعتي لمفهوم المُثقف تسيح في فضاء اللفظ والنُظم البياني والخطابي للغة، الذي ينشد المثال الأعلى وفق النموذج المُتبنى وفق عقيدته بوصفه النموذج الأرقى، ولربما يكون تبنيه لهذا التصور لمفهوم المُثقف هو تصور فردي لا يتبناه كثير من أبناء الطبقة أو المذهب الذي ينتمي إليه شريعتي، لهذه سيبقى مفهومه للمثقف أسير رؤيته التفسيرية الثورية التي هي محط خلاف وأخذ ورد داخل الوسط المذهبي "الإسلامي" الذي ينتمي إليه شريعتي، فكيف بها حين إخضاعها للفضاء الإسالمي العام المُباين في النهج والرؤية والعقيدة لمُتبنيات شريعتي.  

 

في المثقف اليوم