قضايا

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (10)

mutham aljanabi2فيما لو جاز اختصار كل المعنى القائم وراء المعاناة الكبرى للأحداث التاريخية الهائلة التي يصنعها العالم العربي الآن، فأنها تقوم في مهمة تحويل زمن السلطة إلى تاريخ الدولة والأمة. مع ما يترتب عليه من إعادة تأسيس كبرى لكل مكوناتهما الجوهرية. الأمر الذي يجعل من هذه الثورة التاريخية مشروع المستقبل. من هنا أثرها الهائل بالنسبة لصيرورة الكينونة العربية الحديثة والمستقبلية. 

فقد كشفت أحداث المواجهات الدرامية التي جرت على امتداد اشهر طويلة وما تزال عن طبيعة وقوة المخاض الصعب والمعقد في عالم تتعارض وتتصارع فيه القيم والمفاهيم والإمكانيات والنيات والغايات. لكنها تفرز مع كل ذلك قيمة ومعنى ومغزى الانقلاب التاريخي العربي بوصفه صفحة جديدة في تاريخنا الحديث. وكل ما فيها من حروف وعبارات مازالت في قيد المجهول بوصفها جزء من الاحتمال غير المتناهي للخيال القومي المبدع، أي خيال الفعل الاجتماعي والرؤية الاجتماعية والبدائل الاجتماعية الكبرى. من هنا صعود أولوية المكونات الديناميكية لمغامرة الزمن والتاريخ.

فالمرء لا يجد صعوبة في القول بان الزمن هو أسلوب وجود الأشياء والذاكرة والأحداث. أو أن يرفعه إلى مصاف الصيغة المجردة عن دوران الأرض والشمس وظهور القمر واختفاءه وتتالي الأيام والشهور والسنين، أو يختصره إلى مجرد وجدان عابر، أو يضيف إليه سرعة الضوء لكي يذلل مفارقة القِدَم والحدث ويجعلها معقولة بمقاييس الحساب والرياضيات. وتعكس هذه المحاولات التنوع الهائل في الموقف من الزمن، انطلاقا من تحسس الجميع بما فيه من قدرة غامضة هي محتوى القلق والاندهاش العميق الذي يثيره من خلال معضلات الفكر "الخالدة" وأسئلته المحيرة.

غير أن للزمن بعدا سياسيا مهما هو "زماننا نحن". وليس مصادفة أننا عادة ما نربط الأمور الكبرى، الرمزية منها والواقعية، بزمن يشكل بالنسبة للوعي الاجتماعي والتاريخي نقطة انطلاق ضرورية للحساب والتقييم. فالغالبية من البشر تستصعب إدراك حقيقة الفكرة خارج الزمن، لأنه التيار الذي يخترق وجودها اليومي. وتتجسد هذه المفارقة أحيانا بما ندعوه بالزمن الجميل والزمن القبيح. أما في الحقيقة فان الجميل والقبيح ليس إلا التعبير الخاص عن أذواق الأفراد والجماعات والأمم لما تراه وتعايشه من أحداث. ومن ثم ليس الجميل والقبيح في الزمن سوى ما نفعله ونتذوقه نحن. بينما الزمن هو تيار وجودنا ومرآة تاريخنا لا غير. ففي الإنسان نراه يتمظهر في مراحل الطفولة والصبا والفتوة والرجولة والشيخوخة والكهولة، وفي الرؤية التاريخية نراه في أزمان الماضي والحاضر والمستقبل، وفي العقل نراه في مقولات الممكن والواقع، وفي الأخلاق نراه في قيم الواجب والأفضل. وهي مكونات اقرب إلى البديهة بالمظهر، لكنها اشد تعقيدا بالنسبة للفكر حالما يضعها على محك الجدل، وأكثر إثارة حالما يضعها على محك المصير، وأوسع إلهاما حالما يضعها على محك البدائل. أما القوة الوحيدة القادرة على تذليل أو توليف هذه الجوانب، فهي الحكمة. أنها الوحيدة القادرة على اختزال الزمن إلى متعة حتى في أشد مظاهره "قبحا"، كما أنها الوحيدة القادرة على ربط الأزل بالأبد في الآن الدائم، و بالتالي إعطاء المهزومين والخاسرين والمرهقين إمكانية الخلاص من اليأس والقنوط.

وعندما نضع هذه الفكرة في موقفنا من "الزمن القبيح" في العالم العربي المعاصر فان "نقطته الأولى" تقوم في صعود وهيمنة البنية التقليدية على مقاليد "الدولة الحديثة" واستمرارها اللاحق بصعود الراديكاليات السياسية التي جعلت من السلطة قدس الروح والجسد! ومنذ ذلك الحين أصبح تحطيم مؤسسات الدولة والمجتمع أسلوبا لترسيخ الرذيلة، التي تجسدت تاريخيا في مختلف نماذج الدكتاتوريات الفجة للأفراد والعائلات والقبائل! أي في كل تلك النماذج المتخلفة والبدائية والخبيثة للبنية التقليدية التي نرى تساقطها السريع والمريع كما لو أنها لا شيء! وفي كل هذه الحالة الدرامية المثيرة للعقل والوجدان تتضح معالم سقوطها المخزي التي تجعل منها بمعايير الرؤية السياسية "عقودا مظلمة"، وبمعايير المستقبل "مرحلة ماضية" و"حقبة بائدة" وبمعايير الثقافة "همجية خالصة" وبمعايير الجمال "قبحا تاما" وبمعايير الأخلاق "رذيلة لا مثيل لها"، وبمعايير الزمن "شرّ الأزمان".

وإذا كانت المرحلة المعاصرة من "الزمن العربي" تدفع إلى الأمام إشكالية السياسة والأخلاق، فلأنه بلغ الذروة التي أطلق عليها ابن المقفع يوما تسمية "شر الأزمان"، أي التي يفسد فيه الراعي والرعية، أي السلطة والمجتمع. وما يتبعه من أزمان اقل فسادا لكنها فاسدة مثل "أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس". وذلك لأنه "لا قوة بالإمام مع خذلان الرعية ومخالفتهم وزهدهم في صلاح أنفسهم". أو أن يكون "صلاح الناس وفساد الوالي". وذلك لان "لولاة الناس بدأ في الخير والشر ومكانا ليس لأحد. وقد عرفنا أن ألف رجل كلهم مفسد وأميرهم مصلح اقل فسادا من ألف رجل كلهم مصلح وأميرهم مفسد". بعبارة أخرى، إن قيمة السلطة ونموذجها العالي في السلوك هي الضمانة الأقوى بالنسبة للعدالة والحق. إذ تكشف التجارب التاريخية جميعا عن أن الأمير المفسد لحاله أكثر تخريبا من صلاح ألف رجل. وتجارب العالم العربي عموما تكشفت عن أن فساد "القائد" و"الزعيم" و"الرئيس" و"حامي الحرمين" و"الأمير" و"السلطان" لا يقومّه "صلاح" الملايين. وفي هذا تكمن شروط الوقوع في "شر الأزمان"، أي الزمن الذي "يجتمع فيه فساد الوالي والرعية". وهو الزمن الذي ساد العالم في مجرى العقود العشرة للقرن العشرين! لاسيما وأن فكرة الراعي والرعية تعكس من حيث صيغتها الأولية والبيانية صورة البداوة وتقاليد الرعاة. وبالتالي، فأنها تتضمن صورة العلاقة البدائية، مما يفقدها الآن قيمتها الأولية. مع أن مضمونها السياسي الأول كان يتطابق مع أبعادها الأخلاقية، أي أن حقيقة العبارة ومضمونها يرمزان إلى الأمانة والاهتمام والرفق، سواء جرى النظر إليهما بمعايير الملكية او المصلحة او المنفعة. وهي مهمة السلطة في تعاملها مع المجتمع بوصفه أمانة او وديعة كبرى. غير أن منطق التاريخ والحقيقة يفترضان تجاوز هذه الصورة البدائية عبر نقلها إلى مصاف الحرية كما هي. ومن ثم كسر علاقة الراعي بالرعية واستبدالها بعلاقة المجتمع بنفسه عبر مؤسساته الشرعية وجوهرية القانون والقواعد المتفق عليها.

لقد مر العالم العربي بالأزمنة الثلاثة الفاسدة وتذوق كل مرارتها المريرة! ذلك يعني انه لم يعش مرحلة "خيار الأزمان". مما يجعل من الحاضر والمستقبل قضية الرهان الفعلية. وبالتالي التعامل مع "خيار الأزمنة" على انه الخيار الوحيد الممكن والضروري بالنسبة للعالم العربي من اجل تجاوز ضعفه البنيوي الكبير منذ نشوء الدولة المعاصرة حتى الآن. ولا يمكن تجاوز هذا الضعف دون المرور بزمن "اجتماع الصلاح في الراعي والرعية"، أي في السلطة والمجتمع. وهو أمر نرى ملامحه القوية الآن في ذلك الاندفاع الهائل للروح الاجتماعي والوطني والقومي في تذليل زمن الفساد، وجعل السلطة والزمن تيارا واحدا في تاريخ الدولة والأمة. (يتبع...)

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم