قضايا

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (12)

mutham aljanabi2تكشف تجارب الأمم جميعا، عن أن الحقيقة هي مصدر الإلهام. وللحقيقة تجليات ومظاهر لا تحصى، وذلك لأنها القوة الجوهرية الباحثة عن نسب مثلى للوجود وتحقيقها في النفس. الأمر الذي جعل منها على الدوام مصدر الإلهام والخيال المبدع. وبالمقابل لا يفعل الخطأ إلا على تصنيع الخاطئ. وهذا بدوره لا ينتج غير الكذب والدجل والخداع، أي مختلف مظاهر ومستويات الخداع الذاتي. مع ما يترتب عليه بالضرورة من انعدام للخيال المبدع.

وعندما نتأمل الحدث التاريخي الذي بدأته تونس، ودفعته مصر إلى شوطه الأبعد، واستكملته ليبيا ثم اليمن ومازال يتعرج ويتدرج في مسار الشك واليقين في البحرين والشام والأردن والبقية الباقية من دول العالم العربي، فإننا نقف، رغم كل الطابع الدرامي والخطيئة في بعض منها، أمام نفس مظاهر الخطاب التضليلي للسلطة، أي أمام دكتاتورية متشنجة تحتقر الروح الاجتماعي والوطني وتنظر إلى الشعب على انه غوغاء ورعاع ملثمين وإرهابيين وجرذان وفئران وعملاء للأجانب. شعب لم يبق فيه بمعايير السلطة أي شيء باستثناء كمية هلامية من نفايات الزمن! أي كل ما قامت به هي نفسها من أجل أن تتسلط على دولة بلا شعب!

غير أن للحقيقة خيالها الخاص. وللسلطة أيضا "خيالها" الخاص. الأولى محكومة بمنطق التاريخ، والثانية محكومة بدقات الزمن. فعندما قال زين العابدين، وحسني مبارك، وصالح، بأنهم سوف لن يرشحوا أنفسهم لرئاسة "أبدية"، وعندما قالت الشعوب "لا نريد"، فان السلطة المتعودة على صنع الخنوع لم تفهم معنى الإرادة فيما تريده الناس. وعندما أصبح إصرار الإرادة طوقا حول السلطة عندها قالوا جميعا، بأنهم يعملون على تغيير مواد الدستور والحوار مع المعارضة والاستجابة لمطالب الشعب. وعندما قال لهم الشعب، بان مطلبه الوحيد هو "تغيير النظام" و"إسقاط النظام"، عندها "فهموا" كل بطريقته الخاص المعنى النهائي والغاية الفعلية للمواجهة والتحدي. وقد فهم زين العابدين بسرعة مضمون المطالبة والإرادة، بحيث استتبعها هروبه السريع من البلاد إلى ارض "العباد"، وما لم يفهمه الرجل العتيق والهرم السحيق حسني مبارك في بداية الأمر، لكنه اضطر لفهمه متأخرا كعادته! والفرق بينهما هو فرق الزمن، أي أيام الخوف وليالي المؤامرة. بينما كان الشعب العربي يتعامل مع الأيام بمعايير "الغضب" و"الرحيل"، أي بمعايير الإرادة الاجتماعية والسياسية الوطنية والقومية. إنها معايير صنع التاريخ الفعلي التي لا يؤدي تضليل السلطة إلا على توسيع ضلالها الذاتي.

وبغض النظر عن تنوع حالات النهاية المباشرة لأجساد الطغاة الصغار بين هارب ومسجون ومعتقل ومقتول ولاجئ مؤقت، فأنهم جميعا لم يفهموا وما كان بإمكانهم فهم مضمون وغاية ومغزى ومعنى ما حدث ويحدث، أي أنهم لم يفهموا كونهم جميعا قد جرى تهريبهم وإبعادهم وإبادتهم من تاريخ الصيرورة المعقدة والمستقبلية في الوقت نفسه للكينونة العربية. فالسلطة التي تعودت على قياس كل شيء بمعايير الزمن، تعتقد بان الاحتجاج والتمرد والعصيان والثورة موجه ضد عدد السنوات التي قضاها كل منهما في الحكم. أنهم لم يفهموا حقيقة الحقائق الكبرى والتي بلورها الشعار الشعبي العارم: "الشعب يريد إسقاط النظام"! بينما كانوا يواجهون هذا الاحتجاج بقوة الأجهزة القمعية المتحللة وأحزاب الجيب المتبلدة وأعوان من الشطارين والعيارين ومرتزقة الإعلام بشعار: "السلطة تريد ما لا يريده الشعب العنيد"! بحيث وجد ذلك احد نماذجه المضحكة والمخزية في حادثة الهجوم البدائي لقوة "الفرسان" الممتطية بألبستها الحديثة حصان وبعران! وقد كان ذلك في "جماله" يشبه جمال حسني مبارك أي نموذج القوة الوريثة لأرث بدائي يعتقد بان الفروسية هي مجرد ركوب فرس! لكنها صورة نموذجية عن شح الخيال ومسخ العقل وانعدام الضمير المميز للسلطات المنعزلة والمغتربة عن مجتمعاتها.

لقد تجاوزت مواجهة الإرادة الشعبية للسلطات المتهرئة إشكالية السلطة والمجتمع بمعايير "الاحترام" و"التبجيل" و"التفخيم" وما شابه ذلك، إلى مستوى تغيير النظام، أي البحث عن بدائل ترتقي إلى مصاف المنظومة المحكومة بفكرة الحق والحقوق. فقد كان الشعار الجوهري هو شعار إسقاط النظام الحالي واستبداله بنظام آخر، أي بمنظومة تذلل زمن السلطة لتنقل المجتمع إلى تاريخ الدولة الحديثة. الأمر الذي حوّل كافة الشوارع والساحات إلى "ميدان تحرير" تطابق في صورته مع ميدان التحرير القاهري. وإذا كانت هذه الميادين هي ميدان الصراع المباشر مع السلطة والنظام السياسي، فان رمزيته تتعدى حدود الكلمة والعبارة والأرض لترتقي إلى مصاف الفكرة المجردة المتسامية عن التحرر والحرية. وفيها تنعكس شحنة الاحتجاج الاجتماعي والسياسي والوطني والقومي المتراكمة في قلوب الجيل الشاب وعقوله، أي في قوة المستقبل.

لقد كانت قوة الاحتجاج العارمة في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين والمغرب وسوريا تعبيرا متنوعا عن إدراك قيمة الحياة والمستقبل، بوصفها القوة الوحيدة القادرة على صنع التاريخ الفعلي للأمم. فالتاريخ الفعلي هو رديف لمضمون المؤسسة القادرة على صنع تراكم الذات الإنسانية وتجاربها المتنوعة بوصفها قوة مبدعة. وليس مصادفة أن يكون الإلهام على الدوام القوة المبدعة في التاريخ، وان يكون الخيال المبدع القوة المنظمة للوجود. وان نعثر على هذا التزاوج الفعال في طبيعة وحجم وفاعلية الخيال العربي الجديد، أو قوة الروح المبدع الذي يعادل معنى الحياة وفكرة المستقبل. فالإنسان العربي المعارض لسلطة زين العابدين وحسني مبارك والقذافي وعلي صالح والأسد وآل خليفة وآل سعود وآل هاشم وآل علوي وغيرهم، والمنتفض ضد النظام السياسي القائم، يعمل ويفعل بفكرة الحق والكرامة وليس الغريزة. وفي هذا تكمن حقيقة الإلهام التاريخي الجديد للثورة التي بدأتها تونس واستكملتها وتستكملها البقية الباقية من أقطار العالم العربي. .

فقد كان النموذج السائد للسلطة "العربية" وما يزال في اغلبه هو سلطة الغريزة النهاشة النهابة المتغطرسة في لباس السرقة والاستحواذ. إنها سلطة البطون التي لا تمتلئ أبدا لأنها فارغة على الدوام شأن هوة الموت! وليس مصادفة أن يتحول طغاة العالم العربي إلى أطواق الموت الملتفة حوله! بحيث لم يعد الناس يشمون منهم غير عفونة الزمن. ولا مجاز في الأمر. إذ أن كل منهم هو مومياء الزمن الفارغ للسلطة، وممثل الاغتراب الفعلي عن حياة الدولة والمجتمع وماضيهما وحاضرهما ومستقبلهما. والمغترب قابل لكل الرذائل. وليس مصادفة أن تصبح الفوضى هي "نظام" وجود الأشياء. وعندما تصرخ الجموع في كل مكان بأنها تريد إسقاط النظام، فأنهم يعنون ما يقصدون. إنهم يريدون إسقاط الفوضى. بينما لم ير أي من "رؤوس النظام" في كل ما كان يجري سوى الفوضى. الأمر الذي جعل حسني مبارك على سبيل المثال يقول، بأنه مستعد للتخلي عن السلطة، لكنه يخاف الفوضى! انه لم يفهم بان حقيقة الفوضى هي ليست حركة الناس القوية والحية ضد الدكتاتورية التي سلبت حقوقهم وعرّضت الفرد والجماعة والدولة والأمة إلى مهانة مستمرة، كما أنها ليست بعض مظاهر اللاعقلانية التي تلازم بالضرورة التمرد الاجتماعي الكبير والعصيان والمواجهة والتحدي لعنف السلطة، بل هي اغتراب السلطة عن فكرة الدولة والمجتمع والحقوق.

إن حقيقة الفوضى في العالم العربي ككل تقوم في أسلوب وجود وعيش وعمل السلطة "الفائضة" بالخيبة والرذيلة. إنها فوضى الحياة السياسية، وفوضى الحياة الاقتصادية، وفوضى الحياة الحقوقية، وفوضى الانتماء الوطني، وفوضى الانتماء القومي، وفوضى الانتماء الثقافي والروحي، وفوضى القيم، التي أنتجت في نهاية المطاف "منظومة الفوضى". وهذه بدورها غير قابلة للعيش طويلا. إن ما جرى ويجري في دول العالم العربي من ردود فعل ترتقي إلى مصاف التحدي التاريخي ليست إلا الصيغة الأولية للرد على فوضى السلطة. وفي هذا الرد التاريخي يمكننا رؤية استلهام الإنسان العربي لتراث وشخصيات الكينونة الحرة والمتفانية من اجل الخير الأسمى للكل العربي. وفيها تنعكس الحقيقة الكبرى القائلة، بان ثورات العالم العربي ذات نبض واحد، لان قلبها واحد، وهمومها الكبرى واحدة.

ولعل المغزى التاريخي الأكبر لما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وما سيجري لاحقا في البقية الباقية، هو الاستمرار بتقاليد الإصلاحات الكبرى ولكن من خلال تحقيقها بمعايير الإلهام الاجتماعي والوطني والحقوقي والأخلاقي. ولا يغير من هذه الحقيقة مختلف مظاهر الخلل والشلل والتراجع والنكوص والشعوذة واللاعقلانية. وذلك لان الفكرة الجوهرية فيها ليست الخبز، بل الحق والكرامة. وهذا مؤشر جوهري على حقيقة الإلهام العميق بالمستقبل. إذ ليس الحق والكرامة سوى المعايير الكبرى للروح العقلي والأخلاقي. وأمام هذا الروح لا يصمد كل ما يعارضه. لأن كل ما يعارضه أشباح.

 إن الإرادة التي صنعت فيما مضى اغلب مآثر العجائب السبع، هي الإرادة الكامنة والذائبة في صلب الكينونة العربية الحديثة، رغم كل ضعفها وركاكتها الجلية والمثيرة للشماتة والشتيمة أيضا، لكنها القادرة في الوقت نفسه على رمي سلة السلطات المتهرئة على قارعة الطريق الصعب، من اجل بناء النفس والدولة الحديثة على أسس الشرعية ومبادئ الحق والعدالة.

فإذا كان الواقع والرهان والنتائج الأولية جلية للعيان والعقل والبرهان في الحالة التونسية والمصرية رغم طابعها المتناقض، فان الواقع والرهان والنتائج الأولية مثيرة للالتباس ومثيرة للشكوك الأولية في ليبيا والبحرين وسوريا، وإمارات وممالك الخليج والجزيرة والبقية الباقية من دول العالم العربي.

وإذا كانت سوريا من بين أكثرها أهمية، فلأنها كانت وما تزال بؤرة الكينونة العربية الحديثة. من هنا الطابع المرهف والمتناقض لما يجري فيها وحولها ومستقبلها. والسبب يكمن في تداخل إشكاليات النظام والسياسي والدولة، المجتمع والقومية. وهي إشكاليات تتداخل وتتلاقي بشكل اقرب إلى حد الشفرة القاتلة. فالتغيير في سوريا أمر ضروري. والإصلاح غاية عملية. مع أن سوريا تحتاج من حيث الجوهر إلى إعادة تأسيس شاملة في بنية النظام السياسي وفكرة الدولة والمجتمع والقومية تتجاوز طبيعة وحالة الموجود والوقف تجاهها من جانب السلطة والمعارضة على السواء.

غير أن الاستنتاج المذكور أعلاه لا يبدل حاليا من طبيعة الانحراف الفعلي في الثورة السورية وإشكالاتها العصية. ومن الممكن القول، بان إشكالية الحالة الثورية في سوريا تقوم في تحول "الثورة" إلى فتنة، والعصيان إلى هذيان، مع ما ترتب عليه من فساد وإفساد شامل لما تقوم به. وقد يكون تمويلها من جانب الغرب الكولونيالي والدويلات الخليجية (السعودية القطرية) هو من بين أكثرها تخريبا وتوثيقا وتدقيقا لانحرافها وزيغها. بحيث تحولت من حيث الجوهر إلى ثورة مضادة. وهناك أربعة أسباب كبرى لهذا الخراب او الخلل البنيوي القائم في هذه الرؤية والمواقف وهي:  تعارضها مع تاريخ وعي الذات الوطني والقومي العربي في سوريا، وتجاهلها لما يمكن دعوته بالحقيقة السورية بوصفها حقيقة قومية عربية كبرى هي أوسع وأعمق وأكثر جذرية من السلطة والنظام السياسي (الحالي القائم في سوريا)، وعدم جعلها الفكرة العربية القومية مرجعية كبرى ومتسامية، وعجزها عن تحويلها إلى بديهية سياسية. وقد ترتب على ذلك أربع نتائج وخيمة لعل أكثرها تخريبا هي: أنها لم تستفد من تجارب التدخل الأجنبي وآثاره المدمرة كما هو الحال بالنسبة للعراق وليبيا. الأمر الذي يشير إما إلى أنها عمياء العقل أو القلب أو الضمير أو جميعها، وأنها لم تتبع النموذج الأمثل للصراع السياسي السلمي من اجل الإصلاح كما جرى في تونس ومصر واليمن والبحرين، وأنها تصارع من اجل الانقلاب وليس الإصلاح، وتصارع من اجل السلطة وليس من أجل الدولة والأمة.

كشف مسار الثورة الدموية في ليبيا عن طبيعة الصراع المرير بين العصيان والطغيان. كما كشف مسارها في اليمن عن طبيعة الصراع بين العصيان والخذلان. أما في البحرين فقد كشف عن طبيعة الصراع بين العصيان والحرمان. كما كشفت التجربة السورية عن طبيعة الصراع بين العصيان والزمان. أما في "ممالك الملح" فانه كشف عن طبيعة الصراع بين العصيان والرهان. ووراء كل هذه الصورة المتنوعة تتلألأ الحقيقة القائلة بوجود عصيان اجتماعي متوحد من حيث بواعثه وغاياته، وتنوع في الاستبداد. فالأخير يتخذ صيغ الطغيان والخذلان والحرمان والزمان الفارغ والرهان عليه من اجل ديمومة الحالة كما هي. بعبارة أخرى، إن السلطة في مختلف الدول "تتفنن" من اجل الاستمرار. من هنا تنوع الرذيلة، او بلوغ أنواعها المتميزة، أي أن لكل سلطة أولوية في رؤية الوسيلة الضرورية لديمومتها. ومن ثم تعكس وتعّبر عن نمط معين للنفسية والذهنية الاستبدادية. بينا الرد واحد، أي العصيان على هذه الأنماط المختلفة. وليس مصادفة أن يكون الشعار العام هو "الشعب يريد إسقاط النظام". ذلك يعني أنها لا ترى في تنوع الاستبداد شيئا غير الاستبداد بوصفه نظاما فاسدا.

إلا أن تجارب التمرد والعصيان الاجتماعي وتنوعها تشير إلى أن توسع مداها الجغرافي هو مجرد أنواع لظاهرة تاريخية كبرى. بمعنى إننا نقف أمام تباين يعّبر عن وحدة في ما حدث ويحدث وسيحدث تعبّر عن المسار العام والنتائج الأولية للثورة العربية عبر كشفها العملي عن الخلل البنيوي في النظام السياسي وانغلاق نمط الدولة الحالية، باعتبارها دولة تقليدية وبدائية. ومن ثم نهاية ما يمكن دعوته بعهد الوصاية والولاية. وسواء جرى فهم العهد على انه عهدا ووعدا او بوصفه مرحلة، فكلاهما من طينة واحدة بالنسبة لحقيقة الدولة العربية الحديثة بوصفها دولة فاشلة، أي لا حداثة فيها بوصفها منظومة متكاملة.

فإذا كان تاريخ الدولة العربية الحديثة هو مجرد زمن تقليدي او زمن راديكالي، أي منظومة حكم العائلة والقبيلة او الأحزاب العقائدية الطارئة، فان انحدارها مع كل خطوة في مجال التحديث، خطوات إلى الوراء مقارنة بحقيقة الحداثة والتطور والارتقاء المدني، اصبح أمرا "طبيعيا". وحالما تتحول طبائع الأشياء ومسارها الطبيعي إلى حالة تناقض أصول الأشياء ومهمتها ووظيفتها، فان كل ما فيها يتحول إلى نقيضها.

فالأحزاب العقائدية التي حكمت وما زال بعضها يحكم الدول العربية لم تكن أحزابا سياسية اجتماعية، أي أنها لم تصل إلى السلطة عبر الانتخاب، ولم تكن علاقتها بالدولة مبنية على أساس عقد اجتماعي وشورى للنخب الفكرية والروحية. من هنا هيمنة نمط القيادة وليس الإدارة، والعقائد وليس العلم السياسي. وهي بهذا المعنى الوجه الآخر للسلطة التقليدية (الممالك والإمارات والسلطنات). وبالتالي، فان كل منها كان يكمل الآخر. وليس مصادفة أن يكون احترابها ومؤامراتها فيما بينها الصيغة شبه المطلقة لوجودها وديمومتها وحماستها. وهذا بدوره ليس إلا الوجه الآخر لعلاقتها بالمجتمع. من هنا طابعها الطارئ الذي يبرز بجلاء في اغترابها عن المجتمع والقومية والأمة ومصالحها الكبرى والعامة. ولعل السرقة والابتزاز وتهريب الأموال إلى الخارج هو احد مظاهر هذا الطابع الطارئ والخوف من نتائجه. أنها تترقب دوما إمكانية الزوال. من هنا "تهذيبها" لمنظومة القمع فقط من اجل تأجيل وقت الهروب والرحيل. مع ما يترتب عليه من هيمنة فكرة الوصاية والولاية بوصفها الوجه الظاهري لمضمون الاستبداد. وبما أنها تحاول أن تتمثل مظاهر وصاية بلا أوصياء وولاية بلا أولياء من هنا سخافة وعقم كل ما تقوم به، ومعاداتها لأبسط قواعد الوجود الاجتماعي والدولة الحديثة. الأمر الذي جعل منها زمن الضياع الدائم، وبالتالي تخريب أسس الدولة الحديثة والتقدم الاجتماعي والفكرة القومية السليمة.  

وفيما لو أجملنا مختلف مظاهر هذه الحالة الخربة على مدار القرن العشرين، فأننا نقف أمام نتيجة زهيدة جدا بهذا الصدد هي عين النكوص التاريخي للدولة والأمة، أي عين الاستهزاء والتسخيف بالطاقة والإمكانية التي يحتويها العالم العربي. فالطاقة والإمكانية الكامنة فيه، التي تجعله قادرا على أن يصبح قطبا عالميا هائلا، تحولت بأثر هذا النمط من الدولة ونظامها السياسي إلى قوة بائسة.

إن طبيعة الدولة العربية الحديثة، منافية لطبيعة الدولة والحداثة، أي لأسس وجودها الذاتية. فهي أما دولة وصاية وولاية، أو دولة سلطان وعبدان، أو دولة عائلة وعشيرة، أو دولة حريم وحرام، أو دولة ديوان وديدان، أو دولة رشوة وابتزاز. والدولة هنا تعادل معنى السلطة. بمعنى ذوبان او اضمحلال فكرة الدولة في حدود السلطة. والأخيرة مجرد تسلط وسلطان! من هنا انقلاب كل ما فيها إلى ضدها.

فالدولة هي تداول، بينما لا تداول فيها. كما أن وصايتها بلا أوصياء، وولايتها بلا أولياء. ولا تعني دولة السلطان والعبدان سوى سلطة خصي الجاه والمال، الأمر الذي جعل منها مجرد قصور مليئة بالحريم والبغاء وخاوية من كل ما يمكنه إرساء أسس الروح الأخلاقي للدولة. بحيث جعلها ذلك مجرد ديوان لديدان زاحفة! مع ما يترتب عليه من اندثار للروح الاجتماعي والوطني والقومي. من هنا طبيعة الهيمنة المطلقة فيها للعائلة والعشيرة. فهي تبدأ بأسمائها وتنتهي بألقابها! من هنا آل سعود، وآل خليفة، وآل الصباح، وآل زايد، وآل ثاني وآل قابوس! وكلها كابوس في لباس ابيض "يطّهر" نفوسها السوداء! وتقابلها بالمثل دول الاستبداد الراديكالي لدنيويات (علمانيات) مزيفة هي الوجه الآخر لهذا النمط. ولكل منها أسلوبه الخاص في الاغتراب الجوهري عن مصالح الدولة والمجتمع والقومية والمستقبل. الأمر الذي جعلها جميعا تشترك في صفات كبرى لعل أكثر جوهرية هي الاستبداد والرشوة والابتزاز. أنها دولة الرمال المتلونة، أي الفاقدة لأسسها الذاتية وقواعد ديمومتها القوية والحرة. باختصار أنها دولة بدون هوية اجتماعية، شأن البدون الكويتي. أنها دولة بلا أسس وطنية، ولا روح قومية، أي دولة بلا فكرة دولة. أما النتيجة فهي الزحف الدائم للدولة الرخوية، أي الدولة الفاشلة والمخيبة لأمال أمة كبرى! من هنا كبر العصيان الاجتماعي والسياسي في مواجهتها وتحطيمها كما لو انه لا ضرورة فيها ولا قيمة!

فالسائد في هذا النمط أو الساري في شرايين هذا النمط من الدولة هو النفط الذي جعل من كل الأشياء الأخرى توابع. مع ما يترتب عليه من إعادة إنتاج لعصبية الخيام والأغنام القديمة، أي تلك التي تضمحل فيها وتتلاشى فكرة الوحدة الاجتماعية والوطنية والقومية. الأمر الذي جعل ويجعل من "الوطنية" فيها عنصرية فجة أو "روحا" بدائية لا علاقة لها بفكرة المواطنة بالمعنى الدقيق للكلمة. من هنا انغلاقها على الآخرين وعدم قبولهم للغير. وهي حالة اقرب إلى نفسية القبلية، مع أن الأخيرة قابلة أحيانا للاختراق بسبب الغنيمة! وقد يكون أسلوب قبول "الاغيار" كمواطنين في البحرين أو ما يسمى بالتجنيس الطائفي نموذجا "عصريا" لها. أما طابعها القومي فأنه أكثر غرابة! فالعربي فيها ليس فقط غريب كالغرباء، بل ومحط شكوك ومخاوف!

ووراء هذه الحالة العنيفة والمدمرة يمكن رؤية الملامح الأولية للبنيان السياسي والاجتماعي والوطني والقومي والعقلي والروحي والأخلاقي. وقد يكون النسج الأولي للوعي الاجتماعي الذي لا يتسم بالاحتراف والإتقان، والمتحرر من زمن الأيديولوجيات والعقائد الجامدة، احد مظاهره الكبرى. أما صعود الحركات الإسلامية السياسية المتميزة بقوة العقائد الجامدة، فانه دليل إضافي على هذه الحقيقة، رغم انه يبدو مناقضا لها من الناحية الظاهرية. وذلك لأن هذا التناقض هو احد مظاهر ما ادعوه بصعود وهيمنة المركزية الإسلامية. أنها ظاهرة وأسلوب ومرحلة وحالة ثقافية وسياسية وليست بديلا شاملا. وفيها تنمو بالضرورة ويتراكم ويندثر صعود اللاهوت السياسي بوصفه الحالة الأولية والبدائية الملازمة لصيرورة الزمن الراديكالي بأثر طبيعة الانقطاع التاريخي للتراكم الطبيعي في مسار الفكرة الإصلاحية (الدينية والدنيوية) وكيفية نشوء الدولة العربية الحديثة.

إلا أن من بين أهم نتائج هذه الحالة هو الصيرورة الأولية لملامح مرجعية الحرية الفعلية والنظام العقلاني بوصفها مرجعية سياسية وفكرية كبرى. إذ تبرز ملامحها المبتسمة من وراء العيون الدامعة والأجساد المدمية لملكوت الحرية. بعبارة أخرى، أن بروز ملامح مرجعية الحرية والنظام وجوهريتها بالنسبة للوعي السياسي والاجتماعي ترتقي إلى مصاف الفرضية الكبرى للمستقبل بوصفه تاريخيا ذاتيا. وقد تجسد ذلك للمرة الأولى فيما يمكن دعوته بالمنازلة الكبرى في مواجهة منظومة الطغيان بالعصيان، والاستبداد بالحرية، والسلطة بالدولة، والعائلة والقبيلة بالمجتمع، والحاضر بالمستقبل.

***

 

 

في المثقف اليوم