قضايا

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (14)

mutham aljanabi2إن احدى الحقائق التاريخية والسياسية الكبرى التي يمكن استنباطها من تاريخ الأمم تقوم في أن قيمة الأحداث التاريخية الكبرى لا تكمن فيما تريد قوله وفعله فحسب، بل وفي مآثرها العميقة بالنسبة لإعادة ترتيب الوعي الذاتي. وذلك لأنها تضع كل شيء على ميزان المواجهة مع النفس. وإذا كان الحدث التونسي والمصري قد مثلا في بداية الأمر رئتي الاستنشاق العميق لرياح الحرية العاتية، فإنهما يكونا بذلك قد دفعا بالدماء النقية إلى كل شرايين الجسد الاجتماعي والسياسي والعقلي والوجداني والوطني (التونسي والمصري) والقومي العام (الذي اخذ صداه ومجراه يجري في كل البلدان العربية بدون استثناء). بمعنى أن هذا الحدث التاريخي الأول كان يمثل الاستنشاق العميق والسليم لنفس الحرية، بوصفه المعيار الفعلي للحق والحقيقة والقيم المتسامية. كما أنها ضمانة التطور الطبيعي والعقلاني. وذلك لأنها تضع الجميع أمام محك المجتمع والقانون. وليس مصادفة أن يتطابق الشعار الشعبي والوطني في تونس ومصر ولاحقا في البلدان العربية جميعا مع مضمون المطالبة بالحرية بوصفها نقيضا للاستبداد والفساد. وذلك لان التجربة التاريخية تكشف عن أن الاستبداد هو مصدر الفساد، والفساد هو دم فاسد، أي قاتل للروح الاجتماعي والوطني والقومي. ومن ثم فهو قاتل للوجود الإنساني الحق.

ذلك يعني إننا نقف أمام تحول بنيوي عميق في الرؤية السياسية يوحد في مقدماته وأساليبه وغاياته أيضا الأبعاد الاجتماعية والوطنية والقومية. وفيما لو أوجزنا حقيقة ما جرى ويجري من أحداث كبرى في العالم العربي الآن، فإنها تقوم في صعود ظاهرة التيار الاجتماعي العقلاني الحر في تحدي الطريق المسدود للدولة العربية الفاشلة ونظمها السياسية المتحللة. ومن ثم الوقوف أمام ظاهرة نوعية جديدة من حيث قواها الذاتية، وأسلوب عملها، ونوعية نشاطها، وشعاراتها، وطبيعة خطابها، وغاياتها.

فقواها الذاتية هي الشرائح الاجتماعية المتعلمة، والشبابية منها بشكل خاص. الأمر الذي يجعل منها قوة اجتماعية مدنية ومستقبلية. ووجد ذلك انعكاسه في أسلوب عملها الاجتماعي البحت، ومن ثم نشاطها العلني والمدني في مواجهة السلطة (التقليدية) وأجهزتها القمعية (البدائية). وكشف كل ذلك عن وجود صراع بين عالمين مختلفين، ورؤيتين متباينتين، و"ثقافتين" متناقضتين، كما نعثر عليه في نوعية النشاط الذي خاضته وتخوضه هذه القوة الاجتماعية الجديدة في مواجهة قمع السلطة.

كما يجد هذا الصراع انعكاسه النوعي الجديد في موقف الدول العربية من الصراع الدائر فيما بينها. فالدولة الراديكالية تريد الإبقاء على نمط الاستبداد والتحلل بوصفه طريق "الأمان"، بينا تسعى الدولة التقليدية إلى حرف الأبعاد الاجتماعية والمستقبلية للصراع من خلال إثارة الطائفية ومختلف الأشكال البدائية كما هو جلي في سلوك مملكة آل سعود والدويلات الخليجية. بما في ذلك من خلال "استباق" الحركات الثورية ومحاولة "تزعمها"!! وذلك لأنها تتوجس طبيعة التحول العاصف والبنيوي في الثورات العربية الأخيرة. فإذا كان بإمكانها سابقا المناورة من خلال استغلال مختلف أساليب المؤامرة والمغامرة والمقامرة في الصراع ضد سلطات لا تختلف عنها كثيرا من حيث الأسلوب والوسيلة والغاية، على الأقل فيما يتعلق باتخاذ القرار والاستفراد بالسلطة وموارد الدولة، فان القضية تختلف الآن اختلافا بدأ يتخذ أبعادا جوهرية مغايرة. فالصراع ضد الدول العربية الأخرى يعني الصراع ضد شعوبها. وهذا ما لا طاقة لها به. من هنا محاولة الالتفاف عليها بطرق تتسم بقدر هائل من الدهاء الخبيث البليد والسقوط الأخلاقي، كما هو جلي في مواقفها من الثورة اليمنية في دعمها المستمر والعلني لعلي عبد الله صالح (وقبلها إيواء زين العابدين بن علي ومساعيها للحصول على حسني مبارك والبقية الباقية من "زعماء" ترهات). والغاية من وراء ذلك هو استعمال كل ما يمكن استعماله، بما في ذلك قطع الغيار المستعملة والقديمة من اجل الالتفاف على مجرى العملية الثورية الحالية او توجيه  مسارها  صوب الطريق المسدود. كما فعلت وتفعل لحد الآن تجاه العراق من اجل إلهائه في البقاء ضمن دوامة العنف والتحلل. بينما نراها تساهم في قمع الثورة البحرينية ومحاولة تحويلها صوب صراع طائفي. بينما تسلك سلوكا عنيفا ومرابيا وداعما للحرب الأهلية في سوريا. وتعمل في الوقت نفسه بمختلف الأساليب من اجل ابتزاز مصر وليبيا. وترشي الملكة المغربية والأردن بدعوة الانضمام إلى "مجلس التعاون" (او نادي الملكيات)، أي إننا نقف أمام محاولة استبدال ربيع الحركة العربية الاجتماعية والمستقبلية "بخريف الملوك"، أي استبدال العقل والمستقبل والحرية بالخرافة والماضي والاستبداد. وليست هذه المقارنة في الواقع سوى الوجه الظاهري لصراع تيارين يتمثلان تقاليد دولة العائلة والقبيلة الفاشلة من جهة، وتيار الدولة الاجتماعية والوطنية والقومية من جهة أخرى.

وليس مصادفة أن يكون التيار المعارض من حيث أسلوبه الأولي والظاهري "الكترونيا"، أي "غير مادي". وبالتالي استحالة الإمساك به. وبالمقابل انه الأكثر قوة وتأثيرا وتصميما وقابلية للتوسع والارتقاء. وذلك لأنه يتمثل أولا وقبل كل شيء نتاج العلم والمعرفة العصرية. وفي الوقت نفسه لم يؤد ذلك إلى اغتراب هذه القوى عن المجتمع، بما في ذلك أشدها تقليدية وتخلفا. وذلك بسبب فاعلية الشعارات الاجتماعية والسياسية التي كانت تتمثل وجدان الفئات المقهورة والمهانة، وفي الوقت نفسه يرتقي بها إلى مصاف الفكرة الوطنية والقومية العامة من خلال تلحينها أغاني الوجدان المعذب بموسيقى الحرية والحق والعدالة. ذلك يعني أنها استطاعت أن تتمثل في خطابها السياسي والاجتماعي الوجدان المعذب ومشاكل المجتمع، كما تتحسسه وتفهمه القوى الحية (الشبابية).

إن تمثل الوجدان الاجتماعي من جانب القوى الشبابية الحية المتعلمة والمثقفة، أي القوى التي تحمل في نفسيتها وذهنيتها جنين المستقبل، كان ردا تاريخيا هائلا على جمود وخمول واضمحلال وتلاشي "اليسار" و"اليمين" التقليديين. وذلك لان هذا التيار الاجتماعي الحر والعقلاني، هو تيار الحياة الفعلية والمستقبلية، وليس تيار العقائد الميتة والاحتراف الحزبي الضيق.

فقد كشفت هذه الأحداث عن احتراق التيارات العقائدية وتقاليد التحزب المحترف، بوصفها بقايا عالم مندثر. وليس مصادفة أن نلحظ ضعف وخوار بل و"موت" الحركات التقليدية من "يسار" و"يمين" و"علماني" و"ديني". وذلك لان هذه التيارات التقليدية تعتاش على صراع عقائد وأيديولوجيات، ولا تعيش بمعايير المعاصرة والمستقبل. ومن ثم لا تحس نبض التاريخ ولا ترى آفاقه. ولا يغير من حقيقة وآفاق هذا الاستنتاج استحواذ الحركات الإسلامية السياسية على مقاليد الأمور في انتخابات ما بعد سقوط الدكتاتوريات في تونس ومصر وليبيا. وذلك لأنه جزء او حلقة من مسار "طبيعي" هو جزء مما ادعوه بصيرورة المركزية الإسلامية وطرق ارتقاءها من الحالة اللاهوتية الدينية إلى الدينية السياسية وعبرها صوب الرؤية السياسية الثقافية. وفي حال عدم الارتقاء فأنها تتحول بالضرورة إلى سماد الأرض الاجتماعية للبدائل السياسية الأكثر تنورا وتنويرا. وهي عملية حتمية، كما أنها طبيعية من اجل أن يجري تراكم الوعي الاجتماعي السياسي المستقبلي بمعايير التجارب الذاتية السليمة.

فالتيارات التقليدية لا ترى غير السلطة. وليس مصادفة أن ترتقي فكرة السلطة عندها إلى مصاف المقدس، وان تعتبرها الضمانة الكبرى "للثورة"، وما شابه ذلك. ومن ثم تحول المجتمع وقواه الاجتماعية إلى مجرد وقود لمغامراتها ومؤامراتها. والسبب يكمن في أن السلطة هي المهنة المدرة للأرباح والفوائد عند هذا النوع من الحركات الحزبية. الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تصنيع "أزلام سلطة" وليس رجال دولة.

بينما كشفت وستكشف الأحداث الحالية للثورة العربية عن أن التيارات الحزبية التقليدية ليست سياسية، بل عصابات متحزبة لمصالح أنانية ضيقة. وهي في أفضل الأحوال مجرد بقايا لتقاليد راديكالية خربة وتقليد أيديولوجي عتيق. مع ما يلازمه بالضرورة من انعدام العلم والمعرفة والاحتراف، أي كل ما يجد الاستعاضة عنه بالتحزب. وبالمقابل كشفت هذه الأحداث نفسها عن ظاهرة نوعية جديدة وهي صعود شباب اجتماعي متعلم وسقوط "قيادات" حزبية جاهلة. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام صعود ظاهرة اجتماعية سياسية نوعية جديدة وهي: متعلمون وليس متحزبون في إدارة الصراع السياسي. ذلك يعني أنهم يتمثلون إحدى المكونات الضرورية للمستقبل الديناميكي القائم على إدراك قيمة وأهمية وضرورة الإدارة، بوصفها بديلا جديدا لتقاليد "القيادة". والفرق بينهما هو الفرق بين العلم والمعرفة من جهة، والتقليد والتقاليد من جهة أخرى، بين فكرة علمية وفكرة حزبية، بين فكرة مدنية حديثة وبنية تقليدية عائلية أو قبلية أو جهوية. وأن هذا الخلاف الجوهري يشير إلى خلاف بين زمن ماض وبين تاريخ مستقبلي. وفيما بينهما نعثر على ملامح الديناميكية الداخلية التي ستكشف عن نفسها لاحقا، والقائمة في طبيعة التناقض الظاهر في الحياة السياسية بين المعرفة الحقيقية والتحزب. ووراء ذلك يكمن الخلاف الجوهري بين الثبات التلون. فإذا كان العلم يتسم بالثبات لأنه بحث عن الحقيقة، فان التحزب قابل للتلون.

كما تضع هذه الظاهرة الجديدة مهمة النظر إلى البدائل بمعايير الرؤية العلمية والطلاق التام مع تقاليد الأيديولوجيات والعقائد الجازمة، أيا كان شكلها ومضمونها. فالدرس الأكبر مما جرى ويجري من عصيان ثوري أولي في العالم العربي يقوم في إبراز أولوية الطاقة الكامنة في أجيال المستقبل. وهو جيل أو مجتمع المعرفة والعلم والتكنولوجيا، أي الفئات المتعلمة والمثقفة، وليس مفهوم الطبقات وغيرها من الصيغ السوسيولوجية والأيديولوجية التقليدية. فالفئات الجديدة، أو جيل المستقبل هو جيل البدائل الاجتماعية الكبرى، وذلك لأنه محكوم من حيث تأهيله ورؤيته بمعايير المعرفة العلمية الحديثة، أو على الأقل انه متحرر من شوائب التقليد الأيديولوجي والتحزب الضيق. الأمر الذي يجعل من هذا الجيل مع مرور الزمن حامل المقومات والمقدمات الجديدة للتطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، باختصار حامل البدائل الواقعية والعقلانية. وذلك لأن رؤيته المستقبلية محكومة بمعايير المستقبل نفسه. وبالتالي، فانه الجيل الذي يتماهى مع فكرة المجتمع المدني والنظام السياسي العقلاني والدولة الحديثة والتطور العلمي. إضافة لذلك أن المستقبل، على خلاف ما كان في الماضي القريب أيضا، لم يعد جزء من حلقات الزمن (ماضي – حاضر – مستقبل)، بل أصبح جزءا من صيرورة الحاضر. وهذا بدوره وثيق الارتباط بماهية العلم الحديث والمعرفة الحديثة والتكنولوجيا الحديثة. الأمر الذي يجعل من قوة المستقبل هذه القوة العقلية والروحية الكبرى، ومن ثم القوة المنتجة الكبرى. مع ما يترتب عليه من بروز قوة سياسية تذلل بالضرورة تقاليد التحزب الشائخة.

إن الديناميكية المتراكمة التي كشفت عن نفسها في أحداث الثورة العربية المستمرة تشير إلى طبيعة التراكم الذي يصنع قوة المستقبل، أي قوة التيار الاجتماعي العقلاني الحر. وهي ظاهرة كونية من حيث ديناميكيتها الداخلية، لكنها تتميز بخصوصية فريدة من نوعها في الأحداث والتاريخ العربي الآني والمستقبلي. ولعل من أهم مميزاتها:

1. أنها نتاج تطورها التلقائي، بوصفها حركة اجتماعية ثقافية سياسية قائمة بذاتها من حيث حوافزها الداخلية، أي أنها تجرى بموازاة ونفي تقاليد التحزب والأحزاب القديمة. فالأخيرة هي الوجه الآخر للسلطة التقليدية نفسها.

2. أنها نتاج مواجهة وتحد متراكمين من حيث مكوناتها العقلية والروحية على النظم التقليدية في العالم العربي. فجميع النظم السياسية في جميع الدول العربية تقليدية بدون استثناء. أن جميع الدول العربية ونظمها السياسية تعيش وتعمل بمعايير ما قبل الدولة الحديثة، أي أنها تعيش بمعايير الماضي. من هنا تراكم الشحنة الخفية والقوية ضدها على كافة المستويات. 

3. أنها تكشف عن وحدة الرؤية الاجتماعية والسياسية والثقافية بأبعادها الوطنية والقومية. من هنا تناغمها في الزمان والمكان، والنظر والعمل، والشعار والغاية. الأمر الذي يشير إلى فاعلية تاريخ خفي موحد بين الدولة العربية (الجزئية) والعالم العربي (ككل).

4. أنها حركة المستقبل. وبالتالي تحتوي على احتمالات متنوعة، لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من المسار الواقعي والعقلاني للبدائل الكبرى في الدولة العربية والعالم العربي ككل.

إن الإدراك الفلسفي العقلاني لطبيعة الثورة العربية ومجرياتها الحالية، ممكن فقط ضمن سياق ما ادعوه بفكرة الاحتمال العقلاني. إذ تحتوي من بين الأفكار جميعا على قيمة منهجية (نظرية وعملية) لفهم نوعية الانتقال من الزمن إلى التاريخ بالنسبة للعالم العربي. وتحتوي هذه بدورها على عناصر عديدة. ومن الممكن الاكتفاء هنا فقط بفكرة الاجتهاد الحر بمعايير العقل، والعمل بمعايير المستقبل، أي الفكرة المحكومة بالواقع التاريخي. والمقصود بالواقع التاريخي هنا هو المرحلة الثقافية الكبرى التي تمر بها الأمة أو الأمم. ففي حالة الموقف من العالم الإسلامي بشكل عام، فانه يمر بحالة ما ادعوه بالمركزية الإسلامية الحديثة. وهي جزء من استعادة تقاليد أو روح المركزية الثقافية الكونية. من هنا تداخل المكونات السياسية والثقافية والقومية فيها بقدر واحد. وحالما يجري نقل هذه المركزية واحتمالاتها إلى المستوى القومي، فأنها تتخذ هيئات متنوعة ومتباينة بالارتباط مع مستوى التطور الثقافي. والإشكالية الكبرى هنا هي إشكالية تأسيس وعي الذات القومي والثقافي، بوصفها حركة تلقائية متراكمة في منظومة مرجعيات متسامية. الأمر الذي يتطلب معرفة موقع النفس في سلم أو درجات التطور التاريخي الثقافي (والتي تطرقت إليها في حلقات سابقة).

وضمن هذا السياق أيضا، يمكن القول، بان ما جرى ويجري في تونس ومصر والأردن واليمن وليبيا والبحرين وسوريا ومملكة آل سعود وغيرها من حلقات السلسلة العربية الآخذة في الانفراط، ليس إلا الوجه الآخر أو الصيغة الأخرى لإعادة لضم هذه الحلقات بخيوط الحركات الاجتماعية الجديدة. وبالتالي، فإنها تشير إلى ظاهرة واقعية ومستقبلية بقدر واحد. وفيها يمكن أن نرى ونتأمل نفي الصيغة الخربة لإرساء أسس البدائل للدولة التقليدية بمختلف أشكالها وأصنافها، بوصفها نماذج للدولة الفاشلة، أو الدولة الرخوية. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى ما يجرى في العالم العربي على انه "ثأر" من النفس أولا وقبل كل شيء. لكنه ثأر عقلاني واجتماعي يأخذ على عاتقه مهمة فتح طريق المستقبل الحر بدون وصاية ورعاية أيا كان مصدرها. وليس هناك من طريق لها في العالم المعاصر غير بناء الدولة الشرعية والنظام السياسي المدني الديمقراطي والثقافة العلمية الحديثة.

فإذا كان الاحتلال الأمريكي للعراق، على سبيل المثال، دليلا أولا وقبل كل شيء على انحلال الدولة العراقية التقليدية، فان الدولة الشرعية والمجتمع المدني الحر، والثقافة العلمية المتقدة هي القوة الرادعة لكل تدخل أجنبي غريب أيا كان شكله ومستواه ومحتواه وغايته. فالتدخل الأجنبي هو أولا وقبل كل شيء دليل على انهيار الدولة الخاضعة للتدخل، وبقاء تقاليد الغلبة والهيمنة والاستحواذ على النطاق العالمي. وما جرى في العراق وتطبيقه النسبي والجزئي في ليبيا بغطاء آخر، ومحاولة تكراره في سوريا يكشف عن أن العولمة لا يمكنها أن تكون أسلوبا للحلول العقلانية ما لم يجر الاشتراك فيها بقوة تناسب قوى المشتركين الأساسيين فيها. بمعنى أنها ما زالت (وستبقى لفترة يصعب تحديدها الآن) ميدانا لصراع المصالح. وبالتالي، فان كل الشعارات البراقة عن الديمقراطية والتطور والتقدم وما شابه ذلك تبقى مجرد شعارات ظاهرية لا تؤدي محاولات "زرعها" إلا على إنتاج ثمار مرة. وذلك لأنها أولا وقبل كل شيء مشاريع خارجية، أي أنها ليست تلقائية، وليست اجتماعية، وبالتالي ليست مستقبلية. وليس مصادفة أن نرى ملامح الفشل السريع للمشروع الأمريكي في العراق وتعرضه للهزيمة المادية والمعنوية. وهذا بدوره ليس إلا الخاتمة الطبيعية لكل مشروع خارجي. كل ذلك يبرهن على جملة حقائق كبرى لعل أكثرها أهمية ضمن هذا السياق هو ما يلي:

• إن نجاح أي مشروع كبير هو أولا وقبل كل شيء نتاج لتراكم الرؤية الواقعية عن طبيعة وحجم الإشكاليات التي تواجهها الأمة والدولة.

• إن أجمل وأفضل المشاريع الأجنبية تبقى غريبة من حيث المقدمات والنتائج. وذلك لان المشاريع الأجنبية لا يمكنها التوفيق بين رؤيتها الخاصة ورؤية الآخرين، وبالأخص في ظل اختلافات جوهرية في التاريخ الثقافي والسياسي والتطور العام.

• المشاريع الأجنبية إما أملاءات وهو الأتعس، وإما سياسة المصالح الضيقة وهي الأكثر تخريبا.

• إن المشاريع الأجنبية هي مؤشر على خراب ذاتي، ودليل على اختلال في توازن القوى. وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليها.

• إن البدائل المستقبلية الكبرى ينبغي استمدادها من المستقبل الذاتي.

إن حقيقة المستقبل بالنسبة للعالم العربي مقرون بالإجماع المتنامي في كل مكونات ومنظومات وجوده على فكرة الاحتمال في البدائل، بمعنى الانهماك في التخطيط المتنوع والمختلف لهوية المستقبل. وليس هذا بدوره سوى الاجتهاد والجهاد الدائم من اجل تحقيق إستراتيجية بناء الهوية الوطنية والقومية، والدولة الوطنية والقومية، والثقافة الوطنية والقومية. وهو مشروع لا يمكن تحقيقه بين ليلة وضحاها. لاسيما وأنه ليس جزء من تصورات الأحزاب وأيديولوجياتها، بل هو المكون التاريخي لتطور المجتمع والبنية الاقتصادية ونظام الدولة السياسي والثقافة العامة والخاصة. وبالتالي، فهو المشروع الأكبر للعملية التاريخية المعقدة التي يتوقف مسارها وسرعتها على طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية وقواها المحركة والفاعلة.

ويفترض هذا بدوره بلورة رؤية واقعية وعقلانية عن ماهية البديل الوطني والقومي، الذي ينبغي أن يأخذ بنظر الاعتبار نتائج مراحل السقوط (كل بلد لحاله) من اجل تذليلها الفعلي. بمعنى دراسة وتحديد الموقف من 

• الدولة عبر تأسيس وتحقيق فكرة الدولة الشرعية

• النظام السياسي عبر تأسيس وتحقيق فكرة النظام الديمقراطي الاجتماعي

• الاقتصاد عبر تأسيس وتجسيد فكرة الاقتصاد الديناميكي والاجتماعي

• المجتمع عبر تأسيس وتحقيق فكرة المجتمع المدني

• توسيع وتحقيق القيم الأخلاقية الكبرى المتعلقة بمنظومة الحرية والعدالة والمساواة،

• التربية والتعليم عبر إرساءها على أسس علمية وعملية حديثة

• الثقافة المؤسسة على قيم العقلانية والنزعة الإنسانية

• إرساء أسس جديدة للخطاب الاجتماعي والوطني والقومي والإنساني. وتوظيف ذلك في شعارات تستجيب للواقع وما تريده الأغلبية مما يسهم في توسيع مدى الأبعاد المشار إليها أعلاه. إضافة إلى تركيزها على القيم والمفاهيم والقضايا الجامعة والملامسة لإحساسه اليومي والمستجيبة لوعيه الثقافي والتاريخي. وأن يكون الخطاب والشعار محمولا بفكرة الحرية والمستقبل. وأخيرا، الخروج التام من تقاليد وبقايا النزعة الأيديولوجية الصرف وهالة الماضي وتمجيد الموتى. (يتبع...).

***

 

ا . د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم