قضايا

المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (15)

mutham aljanabi2إن إشكالية الزمن والتاريخ في حياة الأمم هي إشكالية تبذير أو تراكم الثروة المادية والمعنوية فيها. فمن خلالها تظهر مختلف جوانب هذه العملية المتناقضة. بمعنى أنها تعكس بقدر واحد مصير الأمم ومسئوليتها الذاتية عما جرى ويجري من هزائم وانتصارات وسقوط وصعود وانحطاط ورقي، بوصفها جزء من تاريخها الذاتي.

وعندما نتأمل تجربة العالم العربي الحديث وصيرورته الذاتية في مجرى القرن العشرين، فإننا نقف أمام ظاهرة التبذير الشنيعة لتراكم التجارب الذاتية، بأثر صعود وهيمنة واستمرار الراديكالية السياسية والنظم السياسية التقليدية، مع ما ترتب عليه من تبذير دائم للطاقة الفعلية والكامنة للإنسان والمجتمع والمشاريع المستقبلية. مما تسبب بدوره بانسداد لآفاق المستقبل وصعود مختلف التيارات اللاعقلانية، كما هو جلي في حالة الارتكاس العنيفة من القومية العامة إلى الوطنية المغلقة، ومن الليبرالية إلى التوتاليتارية، ومن الدنيوية إلى الدينية، ومن الانفتاح إلى الانغلاق، ومن السلم إلى العنف، ومن المجتمع إلى القبيلة، ومن الدين إلى المذهب، ومن المجتمع إلى الطائفية، ومن التحرر إلى العبودية.

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ظاهرة اختلال الأوزان الداخلية للفرد والجماعة، للنخب والمجتمع، للسلطة والدولة، للثقافة والفكر، للوطنية والقومية. وهو اختلال يعكس تنافر وتعارض العلاقة المفترضة بين الزمن والتاريخ. بمعنى تخمّر الزمن وتحلل التاريخ. مع ما فيها من خروج على الطبيعة. فالطبيعة أيضا تحتوي على نماذج لعلاقة الزمن بالتاريخ. أما بالنسبة للإنسان والثقافة والوجود الدولتي للأمم، فان الزمن طبيعة، بينما التاريخ ما وراء الطبيعة، أي القادر على إبداع المعنى. فالإبداع الحقيقي معنى، أي روح، من هنا بقاءه وإمكانية تغلغله في كل مسام الروح والجسد الفردي والاجتماعي والعالمي، بغض النظر عن القومية والدين والعقائد أيضا، أي على عكس الزمن بوصفه اجترار لمتطلبات الجسد العابرة والجزئية. من هنا تحولها إلى أشباح سرعان ما تزول، على عكس الروح، أي إبداع الإرادة القادرة على الارتقاء إلى مصاف الأبد. فالنفري على سبيل المثال باق بوصفه إبداعا روحيا رغم إننا لا نعرف عن جسده أي شيء. لكن جسده أيضا يسري بيننا. بينما اضمحلت وتلاشت كما لو أنها أشباح كثيرة هائلة و"جبارة" مختلف قوى الزمن العابرة من أباطرة وأبنية وغيرها. بل أن قيمتها الوحيدة بالنسبة للوعي تقوم في كونها بالنسبة لنا مجرد زمن.

وليس مصادفة أن تصبح اشد الأشياء عذوبة فقط بعد تعذبها بدهاليز الزمن لكي تخرج إلى فضاء الوجود بوصفها تاريخا! شأن سقوط الأمطار والمياه الجارية في كل مكان. أنها تنهمل وتمر أياما وأسابيع وأشهر وسنوات أي فترة من الزمن "تتنقى" بين عقبات وعتبات الوجود كما لو أنها تسير عبر مصفاة الزمن من اجل الخروج من ينبوع هو مصدر الحياة و"آية" العذوبة. فالماء يتعذب في دهاليز الزمن وينتقى حالما يتكامل في ينبوع مغر للروح والجسد، أي في "تاريخ" بناء النقاوة واللذة والجمال، باختصار كل ما يمكنه أن يعطي للحياة بهجة ويجعلها ذات معنى، رغم أنها لا تتعدى بمقاييس الزمن أن تكون مجرد امتداد بين صرختين (الولادة والموت).

وفيما لو نقلنا هذه الصورة البيانية والرمزية إلى ميدان الرؤية الفلسفية، فإنها تبدو بالشكل التالي: إن الزمن هو أسلوب وامتداد وجود الأشياء والظواهر، أي كل شيء. أنه أسلوب وجود النشوء والفناء، والصيرورة والعدم. فكل ما في الوجود زمن. انه أرقام النشوء والاندثار. كما أننا نربط وجود الفرد وزواله بالزمن (تاريخ الولادة والموت). مع أنها أمور شرطية. إذ لا وجود على الإطلاق، بمعايير الكون المطلق لعام 2000 أو غيرها، إذ كل تسلسل الأعوام هي تصورات شرطية محكومة برؤية ثقافية أو دينية أو غيرها. لكن الذي يجعل منها "تاريخا" بما في ذلك تدوين الأشياء والأحداث هو قدرتها على نقل "الزمن" إلى وما وراء الزمن (العابر). أي حالما يجري نقله إلى مصاف "وعي الذات". فالزمن سريان والتاريخ بناء، والزمن لحظة عابرة والتاريخ قوة متراكمة، والزمن أس الوجود والتاريخ صرحه الثقافي.

من هنا لا تناقض بين الزمن والتاريخ. بمعنى أن التاريخ ممكن فقط عبر الزمن. فالتاريخ يحتوي على الزمن بوصفه وجودا منفيا، لكن الزمن لا يحتوي بالضرورة على تاريخ. فالخراف بلا تاريخ، لأنها تعيد إنتاج كل ما فيها بما فيها بلا بدائل ولا احتمال عقلاني ولا تراكم غير الصوف واللحم! بل أن الإنسان يصبح حيوانا فعليا حالما يتجاوز فكرة الزمن ليرتقي إلى مصاف التاريخ، أي حالما يدرك طبيعة الوجود بوصفه تاريخا معقدا ومليئا بعذابات الصراع من اجل البقاء، وان كل ما فيه وحدة واحدة، وان الخروج على إدراك هذه الأوليات يحتوي على "موت" محتم، وان هذا الإدراك "يذلل" الأبعاد الوهمية في فكرة الموت، لكي يعيدها إلى مجراها الطبيعي بوصفها كلا واحدا للوجود. وهي رؤية تجعل من معاناة الإنسان تاريخا، أي رؤية أخلاقية وجمالية وإنسانية عذبة بعذابها. فالجمال عذاب من نوع خاص سواء تطرقنا إليه بمعايير الجسد أو الروح.

وليس مصادفة أن العرب القدماء كانت تقول، على سبيل المثال، ليس إلا الدهر يفنينا ويحيينا. بينا كان الرد المحمدي (بوصفه ردا تاريخيا إنسانيا وليس مجرد رد بمعايير الإيمان والدين والإلحاد وما شابه ذلك، لأنها مجرد متضادات أو ثنائيات "مصطنعة") يقوم في إبراز فكرة التاريخ الإلهي (يوم عند الله لا يعادل أيام البشر). ولا يعني ذلك فيما لو وضعنا هذه الفكرة ضمن سياق الرؤية التاريخية المجردة من اعتبارات الإيمان واللاهوت سوى فكرة البحث عن بدائل وأمل دائم ابدي. أنها محاولة تجاوز "الزمن الجاهلي" وتذليله "بتاريخ إلهي"، أي التأسيس لفكرة الأبد. وحقيقة الإبداع ابد دائم لأنه يجعل من كل الأحداث ومجرياته العابرة صورة ومعنى ورمز بمقاييس الروح، أي ما وراء الوجود العابر للزمن. وهو الأسلوب الوحيد القادر على صنع وعي الذات. فالتاريخ هو أولا وقبل كل شيء "وعي ذاتي". وبدونه لا تاريخ.

إن التاريخ بنية ومنظومة من وعي الذات لها أصولها وجذورها في اللغة والشعر والأدب والفكر (فلسفة وحقوق ولاهوت وتصوف وعلوم طبيعية) والعمارة والفن، باختصار في كل الأشكال الكبرى للإبداع المادي والروحي. ليس هذا فحسب، بل وبقدرتها على التجوهر في إبداع واستظهار الجديد من خلال تحولها إلى مرجعيات ثقافية متسامية بالنسبة للوعي. فالتاريخ بهذا المعنى يفترض بلوغ البشر مستوى التراكم الثقافي في امة لها حدودها التاريخية الكبرى.

إن إمكانية تحول الزمن إلى تاريخ ترتبط فقط بإمكانية إرساء أسس منظومة لها حدودها الواضحة في كل شيء، وقادرة من حيث تلقائيتها الذاتية في الاستمرار والتجدد. لهذا يمكننا الحديث عن تاريخ يوناني وروماني وصيني وعربي وأمثالهم. انه تاريخ قابل للتجدد والاستمرار استنادا إلى ذاته بوصفه منظومة لها مرجعياتها الثقافية المتسامية. غير أن هذا التاريخ الثقافي قابل للاندثار في "زمن الأسلاف" في حال بقاءه محنطا، أي معزولا عن الفعل بمعايير "المعاصرة". فالمعاصرة هي بحث عن بدائل ومن ثم استمرار للتاريخ الثقافي، أي معاناة أبدية للإبداع. من هنا تنوع حالات وجود الصراع والتعايش والتوازي والتداخل بين الزمن والتاريخ. ولكل حالة مقدماتها ونتائجها. وهي حالة أو حالات معقدة أحيانا، يمكن دراسة كل منها بصورة ملموسة من اجل البحث عن بديل عقلاني وإنساني لها في حالة كونها أزمة عابرة أو أزمة بنيوية أو طريق مغلق.

وحالما ننقل هذه الحالة من علياء التجرد إلى ميدان الحياة الواقعية للعالم العربي المعاصر، فإننا سوف نقف أمام أسئلة "مصيرية" كبرى مثل: لماذا افتقد العالم العربي إلى صنع تاريخه الذاتي الحديث؟ ولماذا يدور في فلك الأسلاف؟ ولماذا لم يتقدم في منافسة الأمم وصنع ثروته الذاتية؟ ولماذا يقف من حيث الجوهر يراوح في مكانه بعد أكثر من قرنين من الزمن؟ ولماذا تقف مصر منذ إصلاحات محمد علي باشا بدون خطوة نوعية كبرى إلى الأمام؟ ولماذا تراوح سوريا بين كماشة العوز والانغلاق؟ ولماذا تناثر العراق واندثر بعد قرن من الزمن كما لو انه يواجه نفسه للمرة الأولى في قضايا الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة والعلم ومتطلبات الوجود الحياتي العادية؟ أي لماذا نقف أمام تهشم وضعف البنية الداخلية والذاتية لمثلث "التاريخ العربي" (دمشق – بغداد – القاهرة)، أي للتاريخ الذي تمثل من حيث الجوهر كل الكمون الكوني في حضارات وادي النيل والرافدين؟

تكشف هذه الأسئلة أولا وقبل كل شيء عن واقع تبذير الثروة التاريخية للأمة. كما تشير في الوقت نفسه إلى فشل أو توقف مشروع الحداثة والتطور الديناميكي المستقل بمعايير المعاصرة. وذلك لأننا نقف أمام احتدام ابسط إشكاليات الوجود الاجتماعي والسياسي للدولة والأمة، كما لو انه مؤشر على أن ما جرى ويجري هو مسار من عدم إلى عدم، أو من لا شيء إلى لا شيء. بلا تراكم، أي بلا تاريخ في بنية الدولة والأمة والثقافة والعلم والتكنولوجيا. من هنا سيادة وانتشار واستفحال مختلف العلاقات التقليدية في بنية الدولة والنظام السياسي والعلاقات الاجتماعية والثقافة. وهذه كلها علاقات زمنية لا تاريخ فيها لأنها هي هي دوما. بينما التاريخ، بوصفه منظومة قيم أخلاقية متسامية وقاعدة سياسية مدنية وحقوق ونزعات إنسانية وتراكم مادي في ثروات الأمم العلمية والتكنولوجية، فانه يبقى مجرد احتمال وبدائل. الأمر الذي يجعل من فكرة التاريخ في العالم العربي المعاصر فكرة المستقبل نفسها. وهذه بدورها ليست إلا الفكرة القادرة على إرساء أسس المنظومة العقلانية في بنية الدولة القادرة على تنشيط الرأسمال الاجتماعي بمختلف مكوناته ومستوياته. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية دون تذليل تقاليد الراديكالية السياسية والبنية التقليدية بمختلف أشكالها وأصنافها. فالراديكالية السياسية والبنية التقليدية هي صانعة الزمن في العالم العربي الحديث والمعاصر. وبالتالي فان تذليلها التام هو الشرط الضروري والأسلوب الوحيد لتذليل مكونات وعناصر وأسباب الخلل التاريخي في بنية الدولة والأمة. 

فعندما ننظر إلى ظاهرة الانحطاط المتنامية في العالم العربي المعاصر، فإننا نرى تراكم ثلاث طبقات تاريخية أدت، على خلفية الأزمة الشاملة للدولة العربية الحديثة، إلى تبذير كل تراكمه الذاتي كما هو جلي في صعود اشد النماذج والأشكال غلو وتطرفا، بوصفه الرد المشوه على فشل المشروع التنموي والتحديثي للدولة والنخب السياسية العربية. فقد كانت الصيرورة العربية الجديدة بمختلف قواها الاجتماعية والسياسية والفكرية مرتبطة ومحكومة في الوقت نفسه بثلاث ظواهر كبرى في التاريخ الحديث، وهي:

•        ظاهرة الغزو الاستعماري،

•        والحرب الباردة،

•        وصعود الفكرة الليبرالية.

وجميعها ظواهر "غربية" (أوروامريكية) المنشأ، عالمية التأثير والأبعاد. من هنا إشراكها الجميع، بما فيه العالم العربي، في عملية جديدة أخرجته من تقوقعه الذاتي وانغلاقه العميق في السلطنة العثمانية المتهرئة. ومن ثم إدراجه في فلك الحركة التاريخية الجديدة التي استطاعت أن تستثير فيه تيارات متقطعة من النهضة الأدبية والإصلاح الديني - السياسي والانبعاث القومي. وهي عملية تاريخية معقدة لم تتكامل في الوجود والوعي العربي المعاصر. من هنا استمرار الخلل البنيوي في الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة.

إذ يكشف هذا الخلل أولا وقبل كل شيء عن عدم تكامل بنية الوعي الذاتي العربي، الذي برز بوضوح في ثلاثة أشكال مختلفة يكمّل أحدها الأخر في مجرى تاريخه الحديث:

•        الأول وهو صعوبة بناء الدولة العصرية والتحديث،

•        والثاني سهولة انسياقه وراء صراع المصالح والعقائد الذي ميز اغلب تاريخ الحرب الباردة (اغلب القرن العشرين)،

•        والثالث يقوم في انقباضه الذاتي واستعصاء قدرته على التحول صوب الديمقراطية والإصلاح البنيوي الشامل بعد انهيار المواجهة التاريخية للمعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي).

فقد بقى العالم العربي من بين المناطق القليلة في العالم التي تتلذذ بنفسية وروحية المعسكر. وتشير هذه الحالة إلى بقاء وتعايش المراحل التاريخية الثلاث في وجوده ووعيه المعاصر كما لو أنها مكونات لا يمكن المزج بينهما. ويشير هذا الواقع بدوره إلى بقاء المشاكل والإشكاليات الكبرى في تاريخه الحديث دون حلول، أي انه لم يتطور من الناحية النوعية. من هنا بقاء اغلب مكونات تاريخه التقليدي في الوعي والممارسة، بما في ذلك السياسية. وأصبح هذا الواقع، من الناحية المادية والمعنوية، مرتعا للثقافة التوتاليتارية واللاهوتية التقليدية. وليست هذه النتيجة معزولة عن هيمنة التقاليد السياسية الراديكالية والبنية التقليدية (جمهوريات وملكيات متشابهة ومتكافئة من حيث الرؤية والغاية) بمختلف أشكالها ومستوياتها ومظاهرها في كل مجرى القرن العشرين في العالم العربي. إذ ليس تاريخه السياسي في مجرى القرن العشرين ولحد الآن سوى هيمنة الزمن الراديكالي والتقليدي الدنيوي (العلماني) منه والديني.

عندما نتأمل التجارب التاريخية العاصفة لصعود الراديكالية السياسية العربية الحديثة، فإننا نقف أمام استفحال دورها وتكاملها التدريجي في "منظومة" الاستبداد والانغلاق الثقافي. وتلازمت هذه الظاهرة مع طبيعة التغير الهائل الذي جرى على تاريخ الجغرافيا السياسية للعالم العربي وتجزئة وتفتيت تراكمه الطبيعي للرقي المدني والدولتي والاجتماعي. ومن ثم لم يكن صعود الفكرة الوطنية والقومية في ظل انتفاء شروطها الضرورية منذ عشرينيات القرن العشرين، سوى المقدمة المشوهة لتصنيع آلية الراديكالية السياسية، أي آلية الإنتاج الدائم للحثالة والهامشية والأوهام والأيديولوجيات التوتاليتارية والعقائد الأصولية. مع ما كان يرافقها من تنشيط لاعقلاني للجماهير، أي "للقوى السياسية" المتحزبة والهائجة، وبموازاتها "تنظيم" يقترب من عبودية منمقة وبهرجة مزيفة "لحداثة" معلبة مستوردة ومعروضة في متاحف أمراء مأمورين وملوك صعاليك!

فقد احتوت هذه العملية في أعماقها على احتمال صعود الزعماء والأبطال والقواد الجماهيريين والجمهور، بوصفه الوجه الآخر لسيادة نفسية الغوغاء والرعاع. لكنها كانت تحتوي بالنسبة للعالم العربي على مخاطر الإعاقة التاريخية للتاريخ، أو التشويه المفتعل للمسار الطبيعي الملازم للدولة والمجتمع والثقافة والأمة. وحالما أصبحت هذه الظاهرة آلية قائمة بذاتها منذ خمسينيات القرن العشرين، فإنها تحولت إلى "مرجعية متسامية" بالنسبة للوعي السياسي الراديكالي، أو أنها جعلت من الراديكالية فكرة متسامية عبر مطابقتها مع أيديولوجيا الثورة والانقلاب بوصفها العقيدة المقدسة لحرق مراحل التاريخ.

وليس مصادفة أن تصبح فكرة حرق مراحل التاريخ الصراط المستقيم لبلوغ الجنة القومية والتقدم، أو المطّهر الذي ينبغي أن تحترق في مجرى عبوره كل الأوساخ العالقة على الجسد والضمير والعقل العربي. من هنا تحول انقلاب يونيو عام 1952 العسكري في مصر إلى "نموذج" الثورة، و"الضباط الأحرار" إلى نموذج "القوة السياسية" الجديدة. وسوف تكرر سوريا هذه المزاوجة بين الثورة والحرية في الأفعال والرجال عام 1954، ثم يعيد العراق تنشيطها عام 1958. بمعنى تكامل الفكرة الراديكالية وقواها السياسية الجديدة في المثلث الفعال (مصر وسوريا والعراق) للفكرة السياسية العربية في القرن العشرين.

إن تحول الظاهرة الراديكالية إلى آلية تصنيع وتنشيط القوى السياسية "الجديدة"، وتحولها إلى نموذج في القيادة، كان يحتوي في أعماقه على سحق وحدة المنطق والتاريخ في الفكرة السياسية بوصفها اجتهادا عقلانيا في إدارة شئون الدولة والمجتمع. وليس مصادفة أن تضمحل تدريجيا وتتلاشى فكرة المجتمع المدني والحرية والإدارة، وعوضا عنها تبرز الملامح الناتئة "للزعيم السياسي" و"القائد الجماهيري" و"الأب الروحي". وهي صيغة كانت تتآكل فيها كل الاحتمالات العقلانية للبدائل. ومن ثم كانت تحتوي في أعماقها على تذليلها التدريجي بوصفها اجترارا للزمن أكثر مما هي تجارب التاريخ. مع ما ترتب عليه من تصنيع "منظومي" دائم للانحطاط. ومن بين اشد ملامح هذه الظاهرة هو استفحال نفسية وذهنية الراديكالية السياسية والتوتاليتارية الدنيوية والدينية.

إن التجربة العربية الحديثة تجربة بلا حداثة بالنسبة لبناء الدولة والمجتمع والثقافة! من هنا استفحال نفسية وذهنية الراديكالية السياسية والتوتاليتارية الدنيوية والدينية بوصفه مؤشرا نموذجيا على تحلل البنية التاريخية للوعي السياسي عند النخبة والجمهور، أو سيادة وهيمنة الوعي العادي الجماهيري الأسطوري على الوعي العلمي. وقد لا تخلو أكثر الدول تطورا من الناحية العلمية والاقتصادية عن إمكانية الإصابة بهذا العدوى الغريبة، لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من تجارب الإرادة العنيفة لتذليل الخلل (كما كان الحال في ألمانيا الهتلرية). غير أن الحالة العربية تعكس ليس نزوة التاريخ، بل غريزة الزمن في الوعي السياسي. وليس مصادفة أن تؤدي تجاربه السياسية على امتداد القرن العشرين إلى إنتاج احد اشد النماذج غرابة بهذا الصدد، أي تحول جميع الدكتاتوريات "العلمانية" إلى حليف "استراتيجي" لعتاة القوى السلفية. بحيث نرى السادات يتحول إلى "الرئيس المؤمن"، والنميري إلى مطبق الشريعة الإسلامية، وصدام إلى قائد "الصحوة الإيمانية"، والقذافي إلى "مفكر الإسلام الأخضر". مع ما يرافقه من تحول ممسوخ لبنية النظام السياسي عبر إعادة "بناء" السلطة على أسس عائلية جديدة. بمعنى رجوع اغلب النظم الجمهورية إلى نظم عائلية، أي إلى ملكيات جمهورية! وبالمقابل يمكن رؤية صعود الدعاوي الدعائية المستشرية عن تحول العائلات المالكة إلى "قائدة الإصلاح الديمقراطي" و"النظام الشرعي" و"الثورة". وما بينهما تتراوح في مكانها الرتيب مختلف "العقلانيات" الجبانة والمتسترة وراء رداء "القانون والشرعية" و"المصالح القومية" وما شابه ذلك من أغلفة براقة لواقع لا قانون فيه ولا شرعية لغير المصالح الأنانية الضيقة.  

إن اضمحلال وتلاشي الفرق والخلاف بين "الأنظمة العلمانية" و"الأنظمة التيوقراطية"، ومن ثم تلاشي الخلاف الجوهري بين فكرة التيوقراطية والعلمانية في "النخب السياسية" العربية، يعبر أساسا عن واقع استفحال القيم التقليدية واندماجها "الطبيعي" في منظومة الاستبداد التي وجدت في التوتاليتارية الدينية والدنيوية ملاذها الأخير. وهي توتاليتارية جعلت من الإرهاب الشامل للسلطة وسحق المجتمع المدني وفكرة الشرعية المرتع الفعلي لتيارات الغلو وإرهابها "المقدس". إذ لم يكن هناك من مقدس للاستبداد السلطوي غير السلطة. من هنا تسابقها مع الحركات الإسلامية المتشددة في الدفاع عن "المقدس". ومن ثم إعادة إنتاج الحنبلية الجديدة التي تجعل من الإرهاب حربها المقدسة الجديدة ضد كل بديل يهدف إلى بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية.

إن هذا التضافر التاريخي بين مكونات ومقومات متضادة في الفكر والممارسة السياسية يشير إلى عمق الخلل البنيوي في طبيعة الدولة والنظام السياسي والثقافة. وهو خلل يتناغم مع خلل الأوزان الداخلية في كل شيء. وبالمحصلة هو تعبير عن انحطاط فعلي شامل. وفي ظل ظروف كهذه يصبح الإرهاب ثمرة حلوة كما كانت الحرية هي الثمرة الحلوة لصعود القوى الاجتماعية الحية والفكرة التنويرية والعقل الحر. ذلك يعني، إن تحول الإرهاب إلى "عقيدة مقدسة" هو بحد ذاته مؤشر على نوعية الهبوط الشامل في الوعي النظري والعملي، أي في الفكر والأخلاق. ويشير هذا الهبوط بدوره إلى طبيعة الأزمة البنيوية التي يعاني منها المجتمع والدولة والثقافة. وفي الحصيلة ليست هذه الأزمة سوى الصيغة الأكثر تجريدا للانحطاط الثقافي.

فالانحطاط الثقافي هو الحاضنة الفعلية للتطرف والغلو. والقضية هنا ليست فقط في أنه يمد الوعي السطحي بكل الصيغ والرموز السهلة للهضم السريع للعوام، بل ولما فيه من "طاقة" على شحذ أوهام الحثالة الاجتماعية وأنصاف المتعلمين بروح العنف والتخريب. وفي هذا يكمن سر القدرة الفائقة والاستعداد الأكبر من جانب الأصوليات الإسلامية المعاصرة على ابتذال قيم الاعتدال العقلانية. ويكشف هذا الابتذال عن ضعف الثقافة العقلانية واضمحلال أو غياب الذهنية النقدية، أي كل ما تشترك به وتتسابق الأنظمة السياسية العربية والأصوليات الإسلامية المتطرفة. ومن فعل هذين المصدرين تتراكم قيم الحنبليات الجديدة بوصفها التجسيد العملي لجنون "الإرهاب المقدس"، أي التجسيد الأغرب لتبذير الثروة التاريخية للأمة.

فقد كانت الحنبلية التيار المناسب لإيمان العوام، أي للذهنية العادية والتقليدية. وذلك لان مضمونها لا يتعدى فكرة الانصياع والتنفيذ الشكلي والتقليد الحرفي لمجموعة النصوص المتراكمة في خيال الثقافة وأوهامها وعقولها. كما أنه التيار الذي مّثل الفكرة القائلة بضرورة التقييد الحرفي بكل ما هو "مقدس" و"إسلامي". بينما لم يكن هذا المقدس والإسلامي في تصوراته وأحكامه سوى كمية النصوص المحببة لأوهام العوام. من هنا انهماكه الفعال في شئون الجسد الفردي. إذ ليست حقيقة الحنبلية سوى الاعتناء المفرط بحقوق الجسد والتزاماته بما يخدم "واجبات" الانتقال من لذة الدنيا إلى "نعيم الآخرة". ذلك يعني أن حدودها القصوى تنحصر في شهوة الفرجين. وهي شهوة اختزلت مضمون الإسلام وعقائده الكبرى من خلال تحييد العقل ومنعه من الإبداع الحر، لأنها وجدت في كل فعل عقلي حر أسلوبا يؤدي بالضرورة إلى "بدعة".

وتشير هذه الحالة أولا وقبل كل شيء إلى جمود الروح الثقافي وخراب الذهنية النقدية وانحسارها التام. وليس مصادفة أن تسود الذهنية الحنبلية في جميع مراحل السبات الثقافي والحضاري في عالم الإسلام عموما وفي العالم العربي خصوصا. الأمر الذي جعل منها أيديولوجية مناسبة للانحطاط الثقافي والسياسي.

لقد غرست الحنبلية في النفسية الاجتماعية والذهنية الثقافية نمطا أصوليا (راديكاليا لاهوتيا) في الفكر والممارسة استطاع في غضون قرون عديدة تجفيف أغلب المصادر الحية للرؤية الإسلامية. إنها استطاعت أن تنتج وتعيد إنتاج ذهنية لا يتعدى اهتمامها حدود الجسد الفردي المرفوع إلى مصاف "الأمة". بمعنى غياب واضمحلال، بل واندثار الأبعاد الاجتماعية والسياسية للفكر. مع ما ترتب عليه من تجميد للحياة الاجتماعية بمعايير العبادات الشكلية، وتحنيط للحياة السياسية يقيم الخضوع، ومن ثم ترسيخ وتوسيع وتجذير الاستبداد السياسي والفكري والاجتماعي عبر دعمه الدائم بقواعد الإيمان التقليدي.

وليس اعتباطا أن تكون معظم الحركات الإسلامية الغالية والمتعصبة منها والإرهابية هي مجرد نماذج متنوعة للحنبلية (الوهابية المحدثة وأمثالها). وهي ظاهرة يمكن تحسسها الملموس من خلال رؤية الارتباط العلني والمستتر بين الحركات الأصولية المتطرفة والأنظمة التقليدية. ففي كليهما تسود وحدة القيم المشتركة عن "الوحدة" و"الصراط المستقيم" ومحاربة الحرية الفردية والاجتماعية والسياسية والدفاع عن "القيم الإسلامية"، أي كل ما يمثل تقاليد الاستبداد والثقافة اللاهوتية المغلقة.

فالوهابية من حيث بنيتها العقائدية وذهنيتها الثقافية ومزاجها النفسي هي الصيغة الأكثر تمثلا لتاريخ الانحطاط الفكري والروحي والعقلي للإسلام. ومن ثم لا يعني صعودها المعاصر سوى إضفاء صفة العصرية على واقع الانحطاط بأحد أقسى وأتعس وأرذل نماذجه النظرية والعملية. وبالتالي، فان بلوغ الحركات الإسلامية الراديكالية ذروتها في الأصولية الوهابية الجديدة هو مؤشر على ما يمكن دعوته بختم الولاية الراديكالية في التاريخ العربي المعاصر. بمعنى تراكم الذهنية والنفسية الراديكالية في نموذج ديني أصولي توتاليتاري جمع في ذاته كل النتاج اللاعقلاني للقرن العشرين في العالم العربي. وبما انه قرن التفريغ الشامل للبدائل العقلانية، من هنا فراغ البدائل الإسلامية السلفية بشكل عام والوهابية بشكل خاص من أية رؤية إستراتيجية باستثناء إستراتيجية الإرهاب بوصفه أسلوب "الشهادة الحية" للأموات. وهذا بدوره لا يعني سوى الاستمرار الأعنف بتبذير الرأسمال التاريخي للدولة والأمة. وهو السر القائم وراء الالتقاء الفعلي بين "الأنظمة التيوقراطية" و"الأنظمة العلمانية" في إعادة إنتاج الراديكالية المتشددة، أي في التبذير الدائم للكلّ الاجتماعي.

إن السبب الجوهري القائم وراء هذا التبذير يكمن في "منظومة" الخراب التي رافقت صعود وهيمنة الراديكالية السياسية والبنية التقليدية بمختلف أشكالها، أي كل ما أدى إلى تبديد وتبذير ما أسميته بالرأسمال التاريخي للدولة والأمة. فهو المستنقع الأكبر لخنق كافة الطاقات الحية. بعبارة أخرى، إن السبب القائم وراء تبذير الرأسمال الاجتماعي يقوم في الخروج على منطق التاريخ والبقاء ضمن سياق الزمن. من هنا انعدام التراكم التاريخي والتهام بقاياه في تجارب ميتة. مما أدى إلى اختلال الأوزان الذاتية للعالم العربي المعاصر. وهذه بدورها ليست إلا النتيجة المترتبة على انعدام التأسيس الفعلي للتاريخ الذاتي، ومن ثم انعدام المنظومة المرنة لوحدة الزمن والتاريخ في بناء الدولة والمجتمع والثقافة. وذلك لان إشكالية الزمن والتاريخ هي إشكالية العابر والأبدي، المتبدل والثابت، الطبيعي والثقافي، التقليد والإبداع وغيرها. فما لم يجر بناء فلسفة العلاقة الديناميكية بين الزمن والتاريخ، فان التبذير المستمر للرأسمال التاريخي للأمة يصبح أسلوبا للوجود، أي لاجترار الزمن الميت. وهي عملية لا تنتهي لأنها بلا بداية ولا نهاية، أي دوران فارغ. ولا يمكن تذليلها إلا من خلال نقلها من عالم الوجود الطبيعي إلى ميدان منظومة البدائل. بمعنى تنشيط فكرة الزمن والتاريخ بالشكل التي يجعلها أسلوبا منهجيا وأداة معرفية في تناول إشكاليات الحياة بمختلف مظاهرها، بما في ذلك السياسية. فالإبداع العظيم هو الذي يتجاوز فكرة الزمن (العابر والجزئي) إلى تاريخ وعي الذات القومي والإنساني. بمعنى القادر على صنع منظومة فعالة في توسيع مدى الرؤية الإنسانية.

فالوعي التاريخي القومي بوصفه منظومة بحاجة إلى رؤية إصلاحية شاملة تنفي الغلو والتطرف بوصفه تعبيرا عن نفس غضبية وجهل يناسبها في تقاليد الأحزاب الراديكالية، أي كل ما عانى منه العالم العربي في مجرى النصف الثاني للقرن العشرين، وبالأخص منذ ستينيات القرن العشرين. بحيث أصبح الصعود الراديكالي للتشدد الإسلامي الوجه الآخر لهبوط الراديكالية الدنيوية (العلمانية) وتدميرها لمشروع النهضة والحداثة. الأمر الذي جعل ويجعل من اندثارهما في ظل العولمة المعاصرة وصراع الوجود الثقافي والقومي للأمم أمرا حتميا.

وإذا كان موت الراديكالية الدنيوية واقعا جليا بعد مرور نصف قرن من الزمن الضائع، فان الراديكالية الدينية المتشددة (الأصوليات) ولدت ميتة منذ البدء. وذلك لأنها ليست قادرة على مواجهة العولمة بمعاييرها، كما أنها عاجزة عن تمثل المصالح القومية بمعايير الحداثة الفعلية. وإذا كانت التجارب التاريخية للأمم الحديثة تبرهن على استحالة توسيع المدى العقلاني للمسار الفعلي في ارتقاء الأمم دون مخاض التجارب الخشنة والمريرة، فلأنه الأسلوب الوحيد لإرساء أسس العقلانية والرؤية الواقعية والنزعة الإنسانية، أي المكونات الضرورية لبناء منظومة الدولة والأمة الحديثة.

فالتاريخ لا يعرف معجزة إحياء الموتى. أنها مقبولة ضمن سياق ومذاق الأوهام والأساطير الدينية والدنيوية. أما التاريخ الفعلي للأمم فهو تاريخ المستقبل، أي تاريخ الأمم القادرة على حل إشكاليات وجودها المعاصر بمعايير المعاصرة، والمستقبل بمعايير المستقبل. ذلك يعني أنها حلول لا مكان فيها للراديكاليات الدينية والدنيوية والتقليديات المتنوعة أيا كان شكلها ومحتواها. وذلك لأنها جميعا منظومات مغلقة من حيث المبدأ والغاية. وبالتالي عاجزة عن إدراك قيمة ومعنى وأثر فكرة الاحتمال والبدائل الحرة.

إن مفارقة التاريخ العربي المعاصر تقوم في طرحها بعد قرن من الزمن الضائع، مهمة البحث عن بدائل واقعية لما خلفته الراديكالية السياسية والنزعات التقليدية من تبذير وتحطيم وتهشيم للتراكم التاريخي للأمة، وتدمير للعقل والعقلانية والضمير الاجتماعي الحر. وهي بدائل لا يمكنها الاستقرار والنمو إلا في حال استنادها إلى فكرة اجتماعية وطنية ذات أبعاد قومية عربية. بمعنى قلب المعادلة التاريخية المشوهة للنظريات والأفكار من خلال صنع معادلة تاريخية عقلانية تبدأ بالفكرة الاجتماعية وتتكامل بالفكرة الوطنية لتنتهي بالفكرة القومية، بوصفها حلقات واقعية وضرورية ومستقبلية. فهو الأسلوب الوحيد الذي يضمن صيرورة وتراكم الرأسمال التاريخي للأمة.

والثورة العربية الأخيرة هي المفتاح السياسي والاجتماعي لفتح مغاليق التاريخ من خلال رمي بوابة الزمن العتيقة وفتح الطريق أمام فكرة الحرية وممارسة الاحتمال العقلاني من اجل إرساء منظومة المرجعيات المتسامية للمجتمع والقومية والدولة والثقافة. وبهذا تكون قد وضعت الطبقة الأولى لإرساء صرح العلاقة الديناميكية بين الزمن والتاريخ، أي زمن التجارب الحية وتاريخ تنظيمها في وعي ذاتي عقلاني الرؤية وإنساني النزعة ومستقبلي التوجه.(انتهى)

*** 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم