قضايا

الإتساع والإنكماش السلوكي!!

sadiq alsamarai"ما طار طير وارتفع ...إلا كما طار وقع"!!

منذ الصغر وهذا البيت الشعري الذي يجري مجرى الأمثال يتردد في خاطري ومن حولي، وقد سمعته من العديد من الذين مرَوا وأثروا بحياتي، ولا يزال مترددا، ويحضرني اليوم وأنا في خضم محاورة عميقة مع عدد من الزملاء عن الصيرورة الآتية للواقع السلوكي فوق التراب!!

إبتدأت المحاورة بإستغرابي من سرعة الزمن وفقداننا الإحساس بالوقت، فالأيام تجري بسرعة فائقة، حتى ليفقد الناس طعمها وقيمتها ومعانيها، فالمخلوقات بأسرها في دوّامة الحركة المتسارعة التعجيل والساعية إلى آفاق المجهول المتسع المتشاسع.

قال زميلي: أن الضخ المعلوماتي وآليات التواصل وشبكات التفاعل الآنية، أفقدت الحياة الكثير من خصائصها التي عهدتها الأجيال السابقة، فأصبحنا نطارد سراب!!

وبعد أن تشعب الحوار، ختمه بالقول : أخشى أن هذا التوسع الهائل سيدفع بنا إلى الإنكماش الهائل، وهذا ما يلوح في أفق الواقع العالمي المعاصر!!

قلت إنها فكرة تصلح للكتابة!!

ضحك زميلي مودعا، وبدأت أكتب!!

إن ما يحصل في أي جرم كوني لا يمكنه أن يحيد أو يشذ عما يتحكم بالكون المطلق من قوانين ومعايير ونواميس لا يمكنها أن تقبل أي خطأ مهما كان ضئيلا، فالمفردات الكونية تتحرك وفقا لنظام دقيق جدا جدا، وتحكمها معادلات متوازنة، وذات عوامل مساعدة أو معوّقة وفقا لآليات التفاعل والعناصر الداخلة فيه، والنتائج المطلوبة.

وبما أن الأرض جرم ينتمي لمجموعة شمسية لازلنا لا نحيط بها علما، وأنها واحدة مما لا يحصى من المجموعات الشمسية التي تمر بدورات حياتية وإستخالات كونية، وتدخل في محتدم الإحتراب المستعر في أرجاء الكون المعتم الحرّاق اللهّاب المعتقلات، فأن الأرض تعبّر عن تلك القوانين والسيرورات، وما فيها مختصر لآليات التفاعل الكوني الأعظم، وما في مخلوقاتها كافة يحقق ما فيها من الحالات والسيرورات المتواصلة مع مطلق معادلات الوجود الضاخبة المتعالية الأزيز والفوران.

فسلوك الموجودات الأرضية يتوافق مع إيقاع سلوك الأرض، ولا يمكنه أن ينفصل عنه أو يشذ عن طبيعته ومراميه الدورانية الخلاّطة الولاّدة المنهمكة بإعادة تصنيع وتوليد الموجودات من عناصرها الأولية الداخلة في جوهر كيانها وما تحتويه من طاقات تطلعية وإرادات صيرورية.

وعندما ننتقل للإنسان فأن ما في الأرض فيه وما فيها من كونها الأكبر، وهذا يعني أن الإنسان فيه مختصرات كونية وتعبيرات سلوكية متفقة والتفاعلات الحاصلة في أية بقعة كونية متحركة ومحكومة بقبضة الدوران الخارقة الخانقة.

والكون يتسع وكل إتساع موعود بإنكماش أو إنكباس في مركزه بقوة متناسبة وشدة إتساعه وتعاظم مطاطية قدراته الإنجذابية والتنافرية المتحكمة بمصيره ومنتهياته المتماوجة المتقادحة، والمتسابكة في أوعية الفراغ الفوارة، والأرض يتمدد ما فيها وعليها وينقبض، وظاهرة المد والجزر تعبير واضح عن هذا النشاط الدوراني المتواصل مع موجودات كونية أخرى في مدارات مجموعتنا الشمسية ومدارات وجودها الأخرى الفائقة الحركة والتفاعلات.

والأرض مضغوطة بغلافها الجوي أو قشرتها الغازية التي تتدرع بها وتغلفها بقدرات كهرومغناطيسية ذات خصائص إنجذابية وتنافرية، فهي تتحرك كما تتحرك الرئة ما بين الإتساع والإنكماش، أي أن الأرض تتنفس كما الأحياء تتنفس، وهذه الحركة المنتظمة تشترك فيها جميع المخلوقات وبدرجات وتنوعات متباينة وفقا لطبيعتها ودورها الحياتي.

ولا يمكن للأرض أن تحيا إذا إتّسع غلافها الجوي وترسها الغازي وتزعزعت طبقاته، لأنها ستكون عرضة لإختراقات إشعاعية وجرمية هائلة، تقضي على الحياة فيها، ولهذا فأن عليها أن تحافظ على قدراتها الإحتضانية الكفيلة بديمومة الحياة وتجددها.

فالأرض كينونة حية متحركة ذاتيا وموضوعيا، وترتدي ثيابها وتتدرع بأواصر غازية متماسكة ومقتدرة على مقاومة الصولات العنيفة التي تستهدفها بتواصل وإنقضاض تدميري نيراني الطباع والتفاعلات، وهي تدرك مقومات حياتها وشروط بقائها وتدافع عنها، وهي كأي موجود حي تصاب بالخوف والقلق والإضطرابات السلوكية التي تتلخص بالبراكين والهزات الأرضية والأعاصير والفيضانات وغيرها من التفاعلات التي تحققها الطبيعة الأرضية، وهي تحاول الحفاظ على حالتها الموائمة لأحيائها، وشخصيتها الكونية التي تتميز بملامحها وعلاماتها الفارقة.

ومشكلة الأرض أن مخلوقاتها تتناسى وتتعامى وتنحدر إلى مسارات ذات متاهات ونهايات خطيرة، وكأنها منومة أو مخدرة بالأفكار والتصورات والمعتقدات التي تعاديها وتقتلع إرادة قوانينها من أعماق موجوداتها وخصوصا البشر الذي تسيّد على جميع المخلوقات، وتفوق عليها بأعداده وقدراته الشرسة، وأصبح المالك الحقيقي للآرض والمتحكم بإتجاهات تفاعلات ما عليها، فهو الذي يقرر وينفذ ويتصور ويتوهم ويمضي في سلوكياته الفردية والجمعية القاسية.

وبما أن قوانين الوعاء تتحكم بمصير ما يحتويه، فأن الأرض تفرض قوانينها وإرادتها على ما يدور فيها وعليها من الأحداث والتطورات، ولا بد لها أن تتدخل وتدفع البشر إلى مواضعه التي يجب عليه أن يكون فيها.

فالأرض متوازنة السلوك، ولا تسمح بالإتساع الفائق، لأن ذلك السلوك لا يتفق ومناهجها الدقيقة المتعادلة، لكن البشر قد إتسع وتمدد وتمادى في نأيه عن التراب، وصار يمتلك القدرات الهائلة الكفيلة بصناعة الجحيمات الأرضية، والجهنمات المحتملة فوق الماء والتراب وفي الفضاء، أي أنه وكأنه قد بلغ منتهاه الإتساعي الذي يعني أنه على شفا حفرة الإنكماش الرهيب، والمحق والغياب والعودة إلى مبتدءات المسيرة البشرية فوق التراب الحامي المتأهب المتقطب الملامح، والغاضب المتناقم المتحامل على موجوداته التي أنجبها من رحم ما فيه.

والإتساع البشري إتّخذ منحى توالد الأفكار العلمية ذات القدرات الفتاكة بمحيطها البيئي والتواصلي، إذ بلغت التصنيعات المدمرة أوجها، وصارت المصانع المتوثبة للصراع والتخريب الدامي في تسابق كمي ونوعي، لإنتاج ما هو هائل المحق والشراسة والتوحش، فما عادت القنابل الذرية والهيدروجينية وأخواتها بكافية، وإنما تعددت أنواع الأسلجة النووية وتداخلت حتى صارت الأرض قابضة على جمرة الهلاك، وأنها لا تحتاج إلا إلى مجنون متهور يمتلك حق إتخاذ قرار الإنتحار الأرضي الذي تحققه ضغطة واحدة على زر واحد في حقيبة تحملها الأيادي المتأهبة للإنقضاض على الوجود الأرضي بأكمله.

وذهبت الأفكار إلى مديات ما عاد البشر بقادرٍ على التحكم بها، لأنه أوجد ما يتحكم به ويسيّره ويستعبده، فالبشر هو المخلوق الوحيد الذي يبتكر ويخترع ما يًستعبده ويمتلكه تماما، ونحن نعيش في عصر الإستعباد بالمخترعات التي تعزلنا عن أنفسنا وبعضنا البعض، وتحوّلنا بموجبها إلى موجودات سرابية أو أرقام على شاشات ضوئية ملونة.

كما أن المعارف قد بلغت مستويات كبيرة أعجزت الرؤوس البشرية على إستيعابها وبرمجتها، بل أنها عطّلت الأدمغة وجعلتها مدمنة على أجهزة كأنها أذكى من البشر، حتى ليبدو أمام قدراتها المعرفية متضائلا متصاغرا ومفرّغا من آليات النشاط المعلوم، أي أن البشر أجهَز على ذاته وأفرغها من محتوياتها بل وخربها ونسف أسس صيروتها التماسكية القوية، حتى أضحى ما بين الحالة الإسفنجية والصلدة، وبهذا الكيان صار من الصعب عليه هضم المعلومات ووعي التطورات، مما سيؤدي به إلى الوقوع في حفر الإنكماش الرهيب، كما يشهد الزمن المعاصر العديد من مظاهرها التي أخذت تسري وتنتشر بوبائية غير مسبوقة، وبعدوى عولمية دامية مخربة محطمة لأركان الأمن والسلام والرحمة والطمأنينة.

وكذا يبدو أن بلوغ الذروة المعرفية قد بدأ بأخذنا إلى منزلقات تهالكية إنكماشية، ذات تعجيل متسارع ومتوثب للسقوط في وديان السكون الذي يحلم بالحركة من جديد على سفوح أخرى ذات قمم أعلى، ليبلغها وقد تأهب لمنزلق بعيد!!

 فهل ستسترد النفوس عافيتها والعقول رشدها؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم