قضايا

القوة والهُوّة!! (1)

sadiq alsamaraiالهُوّة: كل وهدةٍ عميقة، ما إنهبط من الأرض، أو الحفرة البعيدة القعر أي العميقة.

الوهدة: الأرض المنخفضة.

لكل موجودٍ قوة، ويمكنه أن يستثمرها ليكون أقوى وأقدر أو يبددها ليكون أضعف وأخسر، وهذا ينطبق على الأفراد والمجتمعات والشعوب، فالعديد منها تمتلك مصادر طبيعية للقوة لكنها تسخرها للخراب والدمار والإحتراب والهُزال.

وفي منطقتنا توجد أعظم مصادر القوة المُسخرة لتدميرها والنيل من أهلها، وبواسطة المتمكنين من القبض على إرادة الناس ولوي أعناقهم وقهرهم بالحاجات، وحكمهم بالحرمان من أبسط مقومات الحياة المعاصرة.

فالقوة قد تأخذك إلى الأعلى أو تسقطك في هوّة!!

وهذه بعض التأملات النفسية في القوة وممكناتها وعواقبها.

                     

أولا: القوة والعقل!!

القوة أيا كانت، انما هي طاقة إنفعالية لا يمكن السيطرة عليها بالعقل إلا فيما ندر، فالقوة إرادة إنفعالية منفلتة لا بد لها أن تعبّر عن نفسها وتطلق قدراتها من مكامنها.

القوة، أيا كانت، تُظهِر وجودها وتأثيرها في المحيط الذي تكمن فيه، فلا يمكن لقوة أن تنام، مثلما لا يمكن للأسد أن لا يفترس، والعلاقة ما بين القوة والفعل علاقة تنافر وتضاد.

والقوة ترفض في معظم الأحوال الخضوع للعقل، بل أنها تستعبده وتسخّره لتبرير غاياتها والوصول إلى أهدافها ودواعي وجودها.

القوة وُجدت لتبطش ولتدمر وتحرق.

القوة أداة شر في أكثر الأحيان، لا أداة خير.

ومن طبيعة القوة أن تنبعج ولا تبقى في مواضعها، وما إمتلك بشر قوة دون إستخدامها، لأنها تضغط لكي يتم التعبير عنها وإطلاقها.

فالقوة ما أن تولد حتى تتنامى وتتواصل في فورانها لتحطم كل حدود كانت قادرة على ضبطها، فتنطلق إلى فضاءات الدمار والخراب والهلاك لتحقق غاياتها وتعلن نهايتها، وما عرفنا قوة أرضية قد إستطاعت أن تكمن وتتستر.

فعلى سبيل المثال، ما أن إمتلك البشر القوة النووية حتى إستخدمها، لكنه مضى يكدّسها بعد أن رأى بشاعة إنفلاتها وعظيم أضرارها، لكن البشرية إلى متى ستبقى قادرة على لجم جماحها؟

إن الواقع البشري، وما يجري على سطح الأرض، يؤكد بأن هذه القوة أخذت تزعزع أركان سجنها وقدرات ضبطها، وأنها في طريقها إلى الإنطلاق وتحقيق أفضع الخراب الأرضي، وربما تمحق الوجود البشري بأسره.

فالقوة الكامنة ستنطلق، ورحنا نسمع بعض التصريحات هنا أو هناك بشأنها، وأخشى أن تتحول الأقوال بالتكرار إلى أفعال، وأخشى أن يكون الوقت الذي يفصلنا عن يوم شراستها وبطشها لم يعد وقتا طويلا.

الأرض اليوم تقف على أعتاب مأساة مروعة، تفوق ما جرى في القرن العشرين وما سبقه من قرون شرسة آلاف المرات، وأنها على أبواب دمارات عالمية لا تخطر على بال مخلوق أرضي.

وكأن الأجرام تترقب بحذر ووجل وأسى ما سيحل بالأرض بسبب شرور البشر، وبسبب ما أبدعه العقل البشري من وسائل الإفناء والإلقاء.

ترى لماذا إكتشف العقل البشري الطاقة النووية؟

هل هي دوافع رحمانية، أم أنها دوافع شيطانية؟

هل هي من أجل الخير أم من أجل الشر؟

وهل نحن بحاجة لطاقة نووية، فما إستخدمناها في شيئ ندّعيه ولكننا نخزّنها من أجل أن تحين لحظة الصفر لكي نبيد بعضنا البعض بشراسة مطلقة.

إن إستخدام الطاقة النووية في ميادين الخير محدودة ولا قيمة لها بالقياس إلى إستخداماتها في ميادين الشر، التي نسعى إليها ونحسبها بطولات وأمجاد.

ما قيمة أن تطيل في عمر بشر مريض بمرض خبيث بضعة شهور وبين أن تمحق حياة الآلاف في ثوان معدودات.

ما قيمة الخير المزعوم من هذه الطاقة بالقياس إلى الشر الناجم عن إستخدامها؟

لا يمكن المقارنة بين الحالتين على الإطلاق، ومصيبة الأرض، أن البشر قد إمتلك هذه القدرات الفتاكة وطوّر أساليب التعبير عنها، وحوّلها إلى مخزونات هائلة تنطلق بضغطة زر واحدة من قبل فرد بشري لا غير.

وهكذا فأن البشرية بسبب إبداعات العقل الملعون الإبتكارات والإكتشافات، وبسبب عدم إرتقائها نفسيا وروحيا وخلقيا إلى ما حققه العقل من إنجازات فائقة، أصبحت في حالة تخلف نفسي وأخلاقي وإنقلبت على العقل الذي أبدع ما أبدع، وسخرته لأغراضها المختلفة المرهونة بنوازع النفس الأمارة بالسوء، التي لا تعرف غير الأنانية والإمعان في حب الذات والنيل من الآخر البشري.

وللأسف الشديد، فأن قدرات النفس الأمارة بالسوء في تعاظم، والمسيرة الدموية الأرضية تتنامى وتحقق ما نراه ونسمعه ونقرأه كل يوم من الويلات والهوان الفظيع.

فهل يا ترى سيمضي العقل في ضبط القوة أم أن القوة ستنفلت من قبضة العقل؟

تساؤل يدور في الأذهان ولا ندري له جوابا، بل الأيام ستجيب.

ثانيا: المعرفة قوة!!

القوة تتناسب طرديا مع المعرفة، فالشعوب الضعيفة لا تعرف والقوية تعرف، الشعوب الضعيفة لا تقرأ والقوية تقرأ، والحضارة تبدأ بالمعرفة.

وأبناء الرافدين اخترعوا أبجديتهم وتعلموا وصاروا بشرا عارفا فصنعوا وجودهم الحضاري المتميز.

والإسلام بدأ بالدعوة إلى القراءة، وأول كلمة خاطبت بها السماء الأرض هي "إقرأ"

"إقرأ باسم ربك الذي خلق"

إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"

فالقراءة معرفة، وإقرأ، أي تفكّر وتعلم وأدرك وإزدد معرفة وفهما لكل ما يدور حولك لكي تعرف الله خالقك، لأن المعرفة توصلنا إلى الإيمان وتقربنا إلى الله تعالى وتشيع المحبة والألفة بين البشر.

بينما الجهل هو الذي يبعدنا عن الله ويرعى الشرور والموبقات ويكون مرتعا للكراهية والبغضاء.

وكانت رسالة النبي الكريم (ص) ترتكز على المعرفة والتفكير والإدراك العقلي العميق والشامل.

وقد تكررت كلمة يتفكرون في عدة آيات قرآنية، ولهذا تحول الجامع إلى مدرسة للعلم والمعرفة وكثرت مجالس العلم وتخرج من أول مدرسة إسلامية كان يديرها الرسول الكريم (ص) العشرات من الصحابة العارفين المتنورين، الذين حملوا راية العلم والإيمان إلى أصقاع الأرض المختلفة.

فإنتشر الإسلام بالمعرفة لأنها القوة الأعظم في مسيرة البشرية، فالمعرفة أقوى من السيف وكل عناصر القوة المادية المزعومة.

فالقوة الحقيقية قوة العقل والقلب والنفس والأخلاق والضمير وهذه لا تتحقق إلا بالمعرفة، ولهذا كلما إزدادت مساحة الجهل بين الناس كلما أصابهم الضعف وإنهارت قدراتهم في الحفاظ على تماسكهم وسلامة وأمان مجتمعاتهم، ومن هنا فأن الحل الأحسن لكل المشاكل القائمة في أي مجتمع هو إشاعة المعرفة ورفع شعار "إقرأ".

القوة تعتمد على المعرفة ولا يمكن لأية قوة أن تعبّر عن إرادتها من غير المعرفة، وما كان الجهل يوما مصدرا لقوة فردية أو جماعية، فالعرب في جاهليتهم لم يكونوا قوة، لكن المعرفة التي أنعم الله تعالى بها عليهم بقيادة الرسول الكريم (ص) قد جعلت منهم قوة تسيّدت الأرض لعدة قرون ولا يزال نور معرفتهم وضّاءا في أرجاء الدنيا.

والمعرفة والقوة تتفاعلان وتتداخلان فيؤدي بعضهما إلى البعض الآخر، كما يفعل الجهل مع الضعف أو بالعكس، فالمعرفة والقوة يعبران عن طاقات الوجود المتشابكة المتفاعلة القادرة على إنجاب الجديد وتحقيق التواصل الخلقي وإستمرار الحياة.

وفي الجانب الآخر فأن الجهل والضعف ينخران أعمدة الحياة ويسقطان خيمة صيرورتها، ويدمران وافر ظلالها ونمائها العظيم.

المعرفة خبرات ومهارات مكتسبة من خلال التجربة والدراسة والتثقيف والفهم النظري للموضوعات والدلالات، وهي ما نعرفه في أي حقل إختصاصي أو عام وهي حقائق ومعلومات مرتبطة به ومميزة لملامحه ومواصفاته.

وكذلك الوعي والإدراك وألفة الحقائق والمواقف بالتجربة والتفكر والتعلم.

وإستعمال القوة سلوك بشري متوطن منذ أن بدأ البشر العيش في مجتمعات بدلا من حياة الكهوف والوحشة.

والقوة تعبر عن نفسها من خلال التفاعلات اليومية الفردية والجماعية وعلى مستوى الأمم والشعوب، مثلما هي واضحة في تفاعلات الأحياء الأخرى في الغابة وفقا لقانون الغاب المتحكم بوجودها.

فالقوة تعني السيطرة على الأشياء والآخر، وفي عالمنا المتناقض هناك سيطرة متبادلة ما بين العناصر التي تريد أن تفرض سيطرتها على بعضها، فالمسيطر على الآخر لا يكون حرا في سيطرته لأنه قد أخضع قوة أخرى تريد السيطرة أيضا، وهذا يعني أن أية قوة تسيطر تضع في معصمها قيد القوة المُسيطر عليها بدرجة تتناسب ومقدار تلك القوة، ومدى معرفتها وطاقتها التواقة إلى التمكن من القوة المسيطرة عليها، أو المتورطة في تفاعلات سلبية معها، وهذا يدفع إلى الضعف والتجهيل وخسارة التفاعلات الكثير من النتائج الإيجابية، ويقيد حركة الحياة ويدفع بها إلى الخلف كثيرا.

بينما المعادلة السليمة أن يكون التفاعل إيجابيا متكافئا وخاليا من هذا النزق السلبي، الذي تديره كوامن الشرور في أعماق النفوس وتدفع به إلى الهلاك، متوهما بأنه قد سيطر وتمكن وأشبع غرائز غروره وشهواته الغابية.

ولهذا فأن القوى المتصارعة لا يمكنها أن تعيش إلا في حالة قلقة تؤدي إلى إنهيار أحد أطراف الصراع عندما تتراكم أسباب سقوطه، وتتفاعل لكي تعبر عن ضعفها الكامن الذي أنجبته القوة التي فقدت زمام المعرفة، وتأسرت بمحنتها وجهلت عصرها ومعطيات التفاعل الناجمة عن فرضها لإرادتها.

وهكذا فأن القوى عندما تتصارع تسبب ضعفا لأنها تغفل الجانب الآخر الأساسي للقوة وهو المعرفة، بينما المعارف عندما تدخل في صراع فأنها تنمي القوة وتوفر العديد من الأسباب الضرورية لإقامة معالم الإقتدار والعلاء الذي يمنح البشرية الشعور بالسلامة والأمان ويدفعها إلى العطاء المفيد.

إن عزل المعرفة عن القوة خطأ بشري مرعب، يؤدي إلى مآسي كبيرة ويلقي بالبشرية في أتون الحروب النكراء، التي تقضي على الأبرياء وتملأ الأرض فقرا وحزنا وجوعا وآلاما.

وعليه فأن البشرية لكي تحقق السلام وتنعم بالأمان، عليها أن تشيع المعرفة، لتمنح الشعور بالقوة لكل مخلوق على وجه الأرض، وبهذا يتوفر التوازن النفسي والعقلي ما بين البشر، ويركن كل واحد منهم إلى إحترام الآخر وتقدير جهده ورأيه، لأنه يعرف مثله ويعشق الإدراك والتنوير.

فالمعرفة طريقنا الأفضل للأمن والسلام والمحبة والعدل والقوة المتوازنة، التي تردع أطماع النفوس الشرهة للسيطرة وتوفير أسباب إرضاء الرغبات الحامية التي تأبى الرضا والإقناع.

فهل سنعرف ويكون كل منا قويا ومتباهيا بأخيه الإنسان؟

أم سيدوم الجهل فينا ويتنامى الضعف وتتفجر في مجتمعاتنا عناصر الهلاك والضياع والذل والهوان بسبب جهلنا وضعفنا المرير.

 وللأسف فالعالم اليوم يجني على أبنائه لأنه يساهم في التجهيل وتدمير العقل، وإطلاق نوازع النفس الأمارة بالسوء التي لا تتوقف عن فعل المساوئ وتثمير الجرائم والويلات.

وعلينا أن لا ننسى دور المكتبة في المعرفة وتنمية القوة الإجتماعية وتوفير أسباب التفاعل الخلاق فيما بينهم، فالحضارات والإمبراطوريات المتمكنة تهتم أكبر الإهتمام بالمكتبات.

وفي تأريخنا القديم كانت مكتبة آشور بانيبال تحتوي ثمانية وعشرين ألف رقما طينيا أو كتابا، وهذا يدل على أن المعرفة كانت من ضرورات وأسباب قوة الإمبراطورية الآشورية، واليوم في العالم المتقدم يكون للمكتبة دور في حياة مجتمعاتها بدءً من القرية إلى المدينة الكبيرة.

وهيهات أن نجد في قرية من قرانا مكتبة، وعندما تمتلك كل قرية في بلداننا مكتبة عامة، عندها سيعرف العالم بأننا أقوياء، فالمعرفة أداتنا ووسيلتنا في إحداث التغيير والتأثير في العالم من حولنا.

 "المعرفة هي القدرة"

"قيمة المرء ما يعرفه"

وقيمة أي مجتمع بما يعرفه لأنه أما سيكون قويا أو ضعيفا وفقا لذلك، لأن المعرفة قوة والجهل ضعف.

ثالثا: القوة سلطان!!

لا توجد قوة في مسيرة البشرية لم يتم إستخدامها، فالقوة سلطان، وتلِد السلوك المتوافق معها، بل أنها سلوك مطلق!!

والأقوياء يظلمون ويتسلطون ويستبدون، وهم الدستور والقانون، وهم العادلون المنصفون، وكل ما يقومون به صحيح ويجب أن يتبعه الآخرون!

والقوة جنون، لأنها تستحوذ على الألباب والعقول، وتستعبدها وتسخرها لتبرير أهوالها!!

والبشرية تمر بنوبات من الهوس المجنون، والإنتحار الجماعي المأفون، ونوباتها تتكرر بضعة مرات في القرون.

والقرن الحادي والعشرون، يبدو وكأنه على شفا نوبة هوس حضاري خلاّقة، بقدرات فتكها وتدميرها المبين.

القوة، القوة!!

وما أدراك ما ستفعله القوة؟!

ذلك أن البشرية قد إمتلكت صواعق كونية، وأدوات تدميرٍ ماحقة لكرتنا الأرضية، وهناك دول عديدة بحوزتها ما يكفي لفناء وجودنا، وحرق أرضنا، وإصطلاء جميعنا، في جحيمات قدراتها التفجيرية، بعد أن سخرت العلوم الذرية والنووية، وما ورائها من الطاقات الطبيعية، لإعلان الحرب على الحياة.

وأصبح في الدنيا أقطاب فتاكة، ومخازن عتاد حرّاقة، ستقلب الأوطان على رؤوس أهلها،

وستحيل الموجودات إلى عصف مأكول، وعهن منفوش، وتلك إرادة القوة، التي لا يمكنها إلا أن تكون محكومة بأمّارة السوء، التي تتأسد في أعماق البشر، وتسوقوه إلى مواطن الويلات والخطر.

وقال قائلهم: إلى أين المفر؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم