قضايا

القوة والهُوة!! (3)

sadiq alsamaraiثامنا: القوة المتحدة!!: القوة طاقة موجودة في كل مكان وزمان، وهي مطلقة التنوع والإمتداد، ولا يمكن للحظة وجودية أن تخلو من القوة، بل أن القوة جوهر الحياة، فالكون بأسره محكوم بقوة التجاذب والتنافر وما بينهما وما ينتج عنهما، ولا توجد أية حالة خالية من هذين البعدين.

والقوة بطبيعتها ذات إتجاهين يشيران إلى وجودها وسلوكها، ولكي تحقق أية قوة إرادتها ومنطلقات إتجاهها، تحتاج لمهارات وخبرات تفاعلية تفضي بتنميتها، وزيادة آليات تكاثفها وحثها وتأثيرها في محيطها، الذي عليها أن تتعلم كيف تحوله إلى مورّدٍ ومموّلٍ لطاقاتها، لأن القوة طاقة والطاقة تتبدل وتستحيل إلى حالات منسجمة مع وعاء كينونتها ومآلاتها التفاعلية.

وهذا القانون الفيزيائي الكوني الأخلاقي الصيروراتي يشمل الموجودات الكونية كافة حية وغير حية، لأنها بأسرها تعبّر عن طاقات كامنة فيها، ولا يوجد ما هو جامد أو خامد، وإنما في كل شيئ مصدر طاقة، قد ندركه أو لا نزال بعيدين عن وعيه، فهل كانت الأجيال قبل القرن العشرين تعي أن في الذرة المتناهية الصغر طاقة هائلة عظيمة الكِبر؟!

وعليه فأن أية قوة يمكنها أن تتشظى بالتصادم الذي يحرر طاقات متخبطة ذات تأثيرات عشوائية مضطربة، ويمكنها أن تتماسك وتتقوى بالتلاحم التفاعلي مع قوة أخرى وأخرى، حتى تصل إلى درجة القدرة على التأثير الأكبر في محيطها، والحفاظ على قدرات طاقاتها وعدم إضمحلالها وتشتتها أو تحولها إلى صيرورة أخرى قد تكون متقاطعة مع القوة التي أوجدتها.

بمعنى أن أي كائن طاقوي إقتداري متفاعل في الفضاء الكوني يمكنه أن يلد ضده وبسهولة وبسرعة، ولا توجد حالة مهما توهمت بأنها معصومة من هذه الولادات، ويبدو ذلك جليا في الحركات والأحزاب والمدارس والمعتقدات والأديان بأسرها، وإتجاهات الفكر والفلسفة والأدب والثقافة والعلوم، وأبسط مثال عليه العائلة التي قد تلد أبناءَ وبناتاً ضدها تماما.

ومن المعروف أن ميل القوة للتمزق أو التعدد أسهل من ميلها للتجمع، لأن طاقات التنافر المحبوسة فيها قد تنتصر على طاقات التجمع والتلملم والإتحاد، لأن ذلك يحتاج إلى قوة وصرف طاقة، أما التبعثر فلا يحتاج إلا للتخلص من القوة والطاقة التي تتحكم في ضمه وتوحيد صيرورته.

وما تشهده العديد من المجتمعات يقع ضمن هذا الإطار التفاعلي الذي سيتسبب لها بمزيد من التبعثر والتمزق وعدم التوافق، لأن القوة الجامعة غائبة، والقدوة الضامة مفقودة، مما يعجل في زيادة سرعة التداعيات والإنهيارات التمزقية في كيان المجتمع، وميادين الحياة التي ستفقد قدرات التحكم ببوصلة مسيرها، مما يدفع بقوى كثيرة متأهبة لإمتلاكها وتحقيق أهدافها بها.

ولكي تكون المجتمعات قوية عليها أن تبحث وتؤهل ما فيها من قدرات التجاذب والإتحاد والتجمع الإنضمامي القطيعي المتراص، لتتفادى هجمات القوى الضارية المفترسة العاتية، ولتتمكن من صناعة قوتها المتأهبة لدرء الأخطار عن وجودها المستهدف بالكامل.

ولابد لها أن تلد القائد القوي الرحيم!!

تاسعا: القوة والحكمة!!

للقوة لغة وللحكمة لغة، وقلما تجد في التأريخ لغة متوازنة ما بين الحكمة والقوة، ذلك أن إرادة القوة أقوى من إرادة الحكمة.

وقد مرّت البشرية في أعجب ثمان سنوات تمكنت فيها الحكمة من لوي عنان القوة ولجمها بأسليب غير مسبوقة، لكنها إنفلتت بصيغ مباغتة.

واليوم بدأت الدنيا تعيش في مرحلة إنفلات القوة وإنهزام الحكمة أو إنعدامها، فالحكمة لا تتوافق والطبع البشري الذي يقبض على القوة، وكل قبضة لا بد لها يوما أن ترتخي.

والحكمة كما هو معروف يعبّر عنها بالدبلوماسية التي تضع معايير أخلاقية وتفاعلية ذات أثر في ضبط السلوك ما بين الدول والمجتمعات، لكن العالم قد دخل في مرحلة منطق القوة، ومعنى ذلك أن الدبلوماسية ستكون عبارة عن "أما أو"، فأما أن تنفذ أو ستكون العواقب كذا وكذا، وهذه

الدبلوماسية تم العمل بها في ستينيات القرن العشرين، وطبقت في الباكستان على علي بوتو وسلفادور أليندي وغيرهم.

وما يلوح في أفق الواقع المعاصر أن الدنيا قد دخلت فعلا في هذه المرحلة التفاعلية التي ستؤدي إلى تداعيات كبيرة ومفاجآت خطيرة، ستعصف في الواقع العالمي، وستكون الدول المتوهمة بالدبلوماسية والتي لا تنصاع أهدافا لهجمات غير مسبوقة.

ويبدو أن المناطق المؤهلة للهجمات هي دول الشرق الأوسط التي صارت ميادين صراعات دولية وإقليمية وتخربت عن بكرة أبيها.

ولابد لأنظمة هذه الدول أن ترى بعيون قدراتها لا بعيون خيالاتها وتصوراتها الفنتازية والأمجادية، فهذه الإقترابات لا تنفع ولا تصلح لعصر تمكنت فيه قوى وإمتلكت قدرات إمحاقية هائلة. 

وعلى دول المنطقة أن تتحالف وتتكاتف وتتحد لكي تحافظ على وجودها وتحمي حياة مواطنيها من أهوال التداعيات والهجمات النووية حتما وبلا منازع، فقد طال كمون هذه الأسلحة وأصبحت عديمة الصلاحية ولا بد من الخلاص منها والإنقضاض بها على الآخرين الذين يتم تقديمهم للدنيا على أنهم أعداء الدنيا والحضارة، ويكرهون الحياة الحرة الكريمة ويحلمون بالموت ويتمنونه لأنهم يرون في الموت حياتهم، ولهذا ستتراكم المسوغات للقضاء عليهم كما يريدون ويرغبون، فهم من مجتمعات الحياة الأخرى ونحن مجتمعات الحياة الدنيا.

فأما سيرعوي مَن يرعوي، أو أن كل تميمة لا تنفع؟!!

عاشرا: القوة والخوف!!

القوة لها عناصرها والخوف له مقوماته، والعلاقة ما بين القوة والخوف ذات أبعاد خطيرة، وفي مسيرات الأمم والشعوب تم الإستثمار بالخوف للقبض على السلطة والحكم وصناعة الإستبداد والطغيان والإمتهان الإنساني.

فالخوف يمكنه أن يكون مصدرا كبيرا وسهلا للقوة، ويتم إستخدامه لزرع الرعب في النفوس  الناس وترويعهم حتى يفقدون صوابهم، وتتسيد على وجودهم العواطف والإنفعالات، التي يتم العمل بموجبها لصناعة القوة المتعسفة الساعية للقضاء على الآخر وإبادة ما يشير إليه.

ووفقا لهذا السياق الفتاك فأن العديد من الأحزاب والفئات قد إنتهجت هذا السبيل المهلك وأودت بمجتمعاتها ووجودها.

وهذا واضح في مجتمعات تم تأجيج التفاعلات الطائفية والمذهبية في ربوعها، وزرع المخاوف ما بين أبنائها وإستغلال ذلك للبقاء في الحكم، برغم النتائج الكارثية والتداعيات المريرة.

ففي هذه المجتمعات يعمل أصحاب الكراسي على تخويف الناس من بعضهم، وحشدهم في فئات ومجموعات ودفعهم للإنقضاض على بعضهم، وتعزيز هذا السلوك الذي يحرر الكراسي من التساؤلات والمتابعات ويلهي الناس بما يضرهم ولا ينفعهم، فتحصد الكراسي ما تريد وينوء الشعب بالمبيد.

وهذا السبيل المتعسف الذي سلكته قوى الشر والغدر والدمار في أزمان متعددة ويفرض ديناميكية الدافع البشري الأثيم، وهو كنهج جنكيز خان وهولاكو، وسار عليه الكثيرون من الطغاة وأعداء الإنسانية.

واليوم تمضي البشرية على سكته وتحقق سلوكه في داخل الأوطان وما بينها، بإشاعة حالة من الخوف ما بين أبناء الشعب الواحد، وما بين شعوب الأرض بعضها ضد بعض لتبرير قهرها وإبادتها، والإنقضاض عليها.

وفي هذا العالم الصاخب المشحون بالمفاجآت، الدنيا تجد وتجتهد في آليات تصعيد الخوف من العرب والمسلمين، وتحويلهم إلى موجودات معادية للحياة والوجود المعاصر وتشيع في وسائل الإعلام نمطيات تدميرية للوجود العربي الإسلامي، وتأكيد ذلك بإقرانات مروعة ما بين العربي والشرور وما بين المسلم والجرائم، حتى لتتحفز قدرات البشر النفسية والإنفعالية لتكون متأهبة ضد العرب والمسلمين، وبوحشية خارقة لشدة التراكمات الإنفعالية والإقترابات السلبية، التي يتم بثها وشحنها وتكرارها وغرزها في اللاوعي البشري، حتى ليكون رد الفعل إنعكاسيا أوتوماتيكيا وشديدا.

وفي هذه المحنة المصيرية يتطلب من العرب والمسلمين الرجوع إلى أنفسهم وإصلاح ذات بينهم وتقديم صورة مشرقة زاهية معاصرة عن التفاعل العربي الإسلامي، وأن يكف الجميع وبلا إستثناء عن هذا النزق الإتلافي الفئوي المذهبي الطائفي العدواني على العروبة والدين.

ويجب على العرب والمسلمين الإعتصام بالوحدة شاؤوا أم أبَوْا، فلا خيار أمامهم إلا التوحد والتلاحم والإعتصام بالسلوك القويم!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم