قضايا

الكواكبي والرؤية التفاعلية مع الآخر "الغرب"

ali almirhigمن المعروف والمتعارف عليه ما كتبه الكواكبي عن الإستبداد ووضعه لطبائعه وصفاته و لا نُريد الخوض في هذا الموضوع لكثرة ما كُتب عنه، ولكننا آثرنا أن نلم ببعض أفكار ونصوص الكواكبي التي توضح موقفه من الغرب، لاعتقادنا بأهميتها في بناء وترميم علاقتنا مع الآخر (الغرب) .

يعتقد الكواكبي أن الإستبداد آفة وهذه الآفة تستشري لأسباب كثيرة أهمها: ضعف الأمة تجاه الحاكم وعدم وجود عقد بين الحاكم والشعب يُلزم الحاكم باحترام حقوق شعبه، مُنكراً دور الأمة في إختياره ذلك. والأنكى من ذلك هو وجود بعض المتزلفين للحكام والذين جعلوا من أنفسهم سوطاً يجلد به الحاكم شعبه وقد سماهم الكواكبي (المتمجدون)، وهؤلاء منهم القادة العسكريون الذين يستخدمون القوة لإخضاع الشعب لسلطة الحاكم، ومنهم المثقفون الذين يستخدمون الثقافة لتبرير أفعال الحاكم، آخرون من رجال الدين و (وعاظ السلاطين)، وهؤلاء هم الأخطر كونهم يستخدمون الدين لغير أغراضه ويتخذونه سلاحاً للقبول بسلطة الظالم من قبيل (إن الحاكم ظل الله في الأرض، لذلك نجد الكواكبي يعتقد بأن الإستبداد السياسي يستشري ويتسع حيث ما يوجد الإستبداد الديني لذلك يقول "متى ما وجد أحدهما في أمة جر الآخر إليه أو متى زال رفيقه أو ضعف ففيه صلاح الثاني، والعكس صحيح"، بمعنى أن ضعف الإستبداد الديني يؤدي إلى ضعف الإستبداد السياسي.

نجد الكواكبي ونتيجة لما سبق ينظر باحترام وتقدير لكل حركات الإصلاح الديني في العالم، لا سيما التي حصلت في الغرب، في البروتستانتية كما يعتقد مفكرنا، بسبب تأثيرها الشديد "في الإصلاح السياسي والأخلاق، وسعيها لتفعيل فكرة القبول بالحرية السياسية في جمهور اللاتين، أي الفرنسين والطليان والإسبانيول والبُرتغال ... وإن ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع في الدين أي تشدد إلَا وإختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه".

إن هذا الخلط أو الإشتراك بين الإستبداد الديني والاستبداد السياسي إنعكس سلباً على رؤى العامة، فتكون لديهم اعتقاد بأن هناك كثيراً من الصفات المشتركة بين عظمة الخالق وجبروت المستبد وبعبارة الكواكبي "يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يُفرقوا بين (الفعال المطلق)، والحاكم بأمره، وبين (لا يسأل عمى يفعل وغير مسؤول، وبين (المُنعم) وولي النعم ، وبين (جل شأنه وجليل الشأن وبناءً عليه يُعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويُزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب، وأما إنتقام الجبار فعاجل حاظر".

ولو أنعمنا النظر إلى هذه النصوص السابقة نستطيع أن نتبين مدى حرص الكواكبي على بناء المجتمع الذي يعتقد بأن من أهم عوامل نهضته هي الإصلاح الديني واعتقاده بأهمية وضرورة ذلك الإصلاح، كونه مدركاً تماماً إن المجتمع الذي يعيش فيه هو مجتمع ديني والدين يُشكل ركنه الأساسي، وإن أردنا تحقيق نهضة فيه أو إصلاح، فالأولى أن نتنبأ بإصلاح ديني يتجاوز عُقدة رمي التخلف على الآخر، مُحاولاً تصحيح وجهة نظرنا لذاتنا، أي تراثنا، وفق رؤية نقدية قادرة على تجاوز عقدة تفوق الأنا الضامرة في بنائنا التاريخي للذات، وإن يكن فيها كثير من الصواب، ولكنه يعتقد بأن نهضة هذا المجتمع لا يُمكن أن تتم من دون البداية بالإصلاح الديني، لأن الدين كان سبباً رئيسياً من أسباب نهضته في العصور السالفة، ولأن هذه النهضة التي أنجزها الفكر الإسلامي كانت مبعثاً للتنوير في أوربا ودول الغرب، وما كان يُمكن للحضارة الغربية لتصل إلى ما وصلت إليه لو لم يكن الشرق الإسلامي الواسطة والحلقة المعرفية التي نقلت حضارة اليونان، إلَ أن تغنينا بهذا النتاج الحضاري صار عُقدة ومعوق في سبيل تقدمنا في حاضرنا وإن كُنا قد شاركنا في بناء الحضارة الأوربية وصبها وفق تصورنا الديني الجامع للبعد اللاهوتي والأنسني النهضوي الحواري الذي إنفتح على حضارات الأمم الأخرى من غير عقدة في الحوار أو عقدة في معرفة علوم الحضارات التي سبقتنا في القرنين الثالث والرابع الهجري.

لم يكن الكواكبي يرى أن الإسلام قد شكل أو سيُشكل في حال الدراية والمعرفة به يوماً ما أمام عائقاً المعرفة العلمية والفلسفية في قرونه الأولى، بل كان دافعاً نهضوياً وبناءً حضارياً وإصلاحاً دينياً.

لذلك وجدنا الكواكبي يؤكد على المنحى المعرفي الذي وسم الحضارة الإسلامية، فعلى الرغم من أنه يدعو لضرورة العودة إلى النبع الأصيل مُتمثلاً بالرسالة الإسلامية، إلَا أننا وجدناه أيضاً يتبنى الدعوة للإطلاع على حركات الإصلاح والرُقي والتقدم في الحضارات الأخرى، كي نمتكن من صُنع حاضرنا وصياغة مُستقبلنا بطرق علمية وحضارية مُتقدمة لا تتنكر للدين ولا تهمل القيمة المعرفية للعلم والفلسفة، وكأنه يُعيد لنا سيرة الفلاسفة المسلمين، لا سيما الكندي وإبن رشد اللَذين طالبا بضرورة النهل من الأمم التي سبقتنا في التقدم، لذلك نجد سيرة الكواكبي الفكرية تبدو وكأنها إستنهاض لهذه الرؤى، وإعادة قراءة لهذا التاريخ في ضوء مستجدات العصر .

لكي يكون نقد الكواكبي للإستبداد الديني وعلاقته بالإستبداد السياسي أكثر نُضجاً نجده يعود إلى الحضارة اليونانية ويستفيد من أُطروحاتها في بناء الوعي السياسي الذي يبتغيه للمجتمع العربي والإسلامي، فهو يعتقد أن حكماء اليونان هم أول من إستخدم الدين في الإصلاح السياسي "حيث تحيَلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الإشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الإشتراك في الإلوهية التي أخذوها عن الآشوريين بصورة تخصيص العدالة بإله والحرب بإله والأمطار بإله إلى غير ذلك من التوزيع، وجعلوا لإله الآلهة حق النظارة عليهم، وحق الترجيح عند وقوع الإختلاف بينهم "، الأمر الذي دفع اليونانيين إلى مُطالبة حُكامهم بالنزول من مقام الإلوهية طالما إن الإله ليس له الحق بالتصرف بكل شيء، وجعلهم حكم الأرض شبيها بحكم السماء مبنياً على الاعتقاد بإنسانية الإنسان أولاً التي تجعل الحاكم مساوياً لأبناء شعبه، الأمر الذي سهل عليهم بناء جمهوريات مثل أثينا و إسبارطة. وحكم الإسلام كما يعتقد الكواكبي ليس بعيداً عن ذلك لما فيه من سعي للتوفيق بين الديمقراطية والأرستقراطية ،إلَا إن القاعدة التي جاء بها النبي محمد (ص) "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" تجعل الإسلام أقرب الى الديمقراطية منه إلى الأرستقراطية إعتماداً على هذا النص، فكل مسلمٍ سلطانُ عام ومسؤول عن الأمة في الوقت نفسه وهذا هو مبتغى الديمقراطية التي تريد أن تجعل من الشعب حاكماً لنفسه.

 

د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

....................

المصدر: الكواكبي: طباع الإستبداد ومصارع الإستعباد.

 

في المثقف اليوم