قضايا

نقد داريوش شايغان للأيديولوجيا.. قراءة لا تأبينية

ali almirhigغادرنا شايغان جسداً، لكن فكره بقيَ ينهش بقايا الوعي الأيديولوجي الزائف، ليُعيد نسجه من جديد خارج بناه الميثولوجية، من أجل بناء معرفة تواصلية لا تفقد أنسنتها وإنفتاحها على الآخر، مُتسقاً مع رؤية ريكور في كتابه "الذات عينها كآخر".

حاول شايغان مُخاطبة الروح والعقل معاً، عبر رؤية إنسانية لا تقفقد صلتها مع البعد الوجداني للتكوين البشري، ولا تنفك عُراها عن التعريف التقليدي للإنسان على أنه "كائن عاقل"، ولا تغيب أنسنتنا التي زرعناها أفقاً للترحاب المعرفي والتواصل العقلاني إلَا حينما نُغيب روحنا، لنُجعلها غائرة في اللاتاريخي الذي بهيامنا به وعشقنا لسحره إنما نصنع بأيدينا "أطرنا الفكرية المُنغلقة" لإدامة عُزلتنا عن الآخر، الذي كُنا نحن في عصورنا الذهبية مُنفتحين على نتاجه الثقافي الثر وجتصييره لتنشيط العقل الفلسفي والعلمي في تاريخنا الديني والفكري المنتصر.

حاول شايغان هدم بعضٍ من "أسيجتنا الدوغمائية" المُتحجرة في مُحاولة منه لبناء عقل فاعل يرغب بتحقيق اليقظة والإنتقال لبناء وعي نهضوي عبر التواصل "اللَامرضي" مع الغرب الواعي "اللا كولنيالي المُتأمرك"، ومحاولته تشخيص الخلل في علاقة الأنا مع الآخر، والنفاذ لتحولات "النفس المبتورة" في ثقافتنا التي لا ترى سوى نصف الكأس، فمنها من لا ينظر سوى لنصفه المملوء، وآخر لا ينظر إلَا لنصفه الفارغ، وكل يرى النصف المملوء بأنه الموافق لأيديولوجيته، فمن ينتمي لأيديولوجيا العودة للتراث بوصفه مكمن الإبداع والنهضة المرجوة، لا يرى سواها كنصف يدواي نفسه المبتورة، ومن ينتمي لأيديولوجيا الحداثة والمعاصرة بطابعها التغريبي، لا يرى سوى النصف الملآن بكونه هو المُعبر عن تماهي الذات الإسلامية مع مقولات التحديث، وكلاهما لا يرى النصف الفارغ من الكأس إلَا بوصفه نقيضه الذي كان سبباً أساسياً لتخلف الذات وتراجعها. وفي كلا الأمرين هروب من الواقع وإعلان عن عدم تمكننا من مُعالجته، إما بالهروب منه للخلف "الماضي" أو بالهروب منه للأمام "الحداثة الغربية"، وهذا لا يعدو سوى تأكيد لحضور الغرب وفاعليته في تغيير نمط التفكير في العود القهقري للماضي أو التماهي مع الحاضر أو لما بعده "المستقبل" من دون بناء أسس معرفية قادرة على تشكيل هوية مُتماسكة لا بتر فيها.

وقد أكد رؤيته هذه بكتابه "هوية بأربعين وجهاً"، بكل تمزقات هذه الهوية الضائعة، وتوهانها بين عوالم العودة والإنفاء والإكتفاء بالماضي، أو الخروج من سطوة هذا الماضي لعبور أمواج بحار التقنية الفائقة والثورة المعلوماتية المتلاطمة، أو ما سماها توفلر "بـ "الموجة الثالثة" بمجداف خشبي.

هناك بعض من أوجه الشبه بينه وبين بعض المفكرين العرب، لا سيما أركون في تركيزه على مفهوم الفرقة الناجية أو مفهوم النجاة، وقد سماه شايغان "تاريخ لنجاة الأخروي"، وكيفية تجلي مفهوم الخلاص في البحث عن الفرقة الناجية في الإسلام، و "كل حزب بما لديهم فرحون".

إهتم شايغان بنقد الفكرة الديني، وهذا ما ظهر جلياً في كتابه "ما الثورة الدينية" الذي إستكمل فيه رؤيته التي طرحها في كتابه "النفس المبتورة" التي ركز فيه على ما ذكرناه آنفاً، ليؤكد على ضرورة بناء فكر حر تعددي يقبل التنوع لا تفوح منه رائحة الأيديولوجيا بكل ما فيها من تطرف وإقصاء.

وكل ما عانت وستعاني منه حضارات الشرق هو هذا الإصرار على التمسك بالروح الباطني والسحري المؤسس لبنائها الفكري، وعداؤها المُفرط لكل سُبل التحديث الذي جاءت بها الحضارة الغربية، وإن ظهر لنا بعض حضور وتأثير لهذه الحضارة فهو يُعد في المخيال الجمعي "غزو فكري" لا بد لنا من مُحاربته والخلاص منه ومن أتباعه "أذناب الإستعمار" !!. حتى غاب العقل النقدي عن حضاراتنا الشرقية بما فيها الشرق الأقصى "الهند والصين واليابان وكوريا" التي كانت محط إهتمام شايغان، ورغم ما تشهده هذه البلدان من نهضة تقنية نجاح مُلفت إلَا أنه "نجاح يشبه نجاح التلميذ الذي يُقدم إجابة ناجحة جيدة في إمتحان بلغة أجنبية" (شايغان/ هوية بأربعين وجهاً/57)، وما يؤاخذ عليه شايغان هذه البلدان أنها بقيت أسيرة التبعية والتقليد ورهينة لتحولات الفكر الغربية وعلومه وتقنياته، وكل ما حصل فيها وسيحصل من تطور إنما هو إعلان عن مفارقة الذات لتاريخها، فهو إبداع على وفق مثال هو "المثال الغربي" لا قُدرة لنا على إثبات أصالته في الوجدان والتكوين التاريخي لهذه الأمم الذي لا زالت تُعاني من ضغط الصراع بين بعدين، هما: البعد التاريخي الأصيل "الدين"، وبعد الحضارة الغربية الجارف "العلمنة". ولذلك نجد هناك بعض قبول وشيوع لفكرة "العلمنة" هذه في مُجتمعاتنا ببعدها القومي أو الأممي الشمولي "التوتاليتاري" الذي يُعيد للأذهان الراكسة فيها عوالم النقاء العرقي وطاقاته المُضمرة في الصراع الأثني، لتجعل بعضها من القومية أو الدين "سياجاً دوغمائياً" بعبارة محمد أركون بين الأجناس. فإن غاب الدين كنظام اجتماعي نجد حضور "الإنسان الساحر" "الغائر في الخرافة" هو الذي ينهض من بين أنقاض الدين لكي يُلغي بحُنقه المُدمر "الإنسان الصانع" بعبارة شايغان.

وتلك هي من مشاكل الإنسان الشرقي الذي تمكنت منه الأيديولوجيا وطغت بحضورها الآسر على عقله، فغيبته، وجعلته أسير مقولاتها الدوغمائية ومُسلماتها الغيبية القائمة على الاعتقاد بمقدماتها على أنها حقائق قبلية من دون أن يُخامره شك في مدى صحتها تجريبياً. إنها وعي زائف بعبارة الماركسيين، لأن كل رؤاها مُقدمات ونتائج إنما هي مُسلمات لا عقلانية، لا إرتباط لها بعوالم الإستبناط والإستقراء، إنما هي ترتبط بعوالم "التعصب" الذي لا معرفة في سوى معرفة الذات ونُكران لحضور الآخر، وكل ما فيها من أفكار تبدو أنها "واضحة ومُتميزة" بعبارة ديكارت، إنما هي من قبيل المنطق الحُلمي لا المنطق العلمي. ولذلك تجد أنها أكثر قُرباً من الأسطورة واليوتوبيا بعبارة "كارل مانهايم"، مُهمتها تدجين العقل وتعليمه إتقان فن الإصغاء والتلقي السلبي للمعرفة بطابعها العقائدي المبني على الإيمان لا التعقل الذي يسعى من خلاله الأيديولوجيون إلى التماثل والتطابق، وإلغاء الاختلاف بعبارة عبدالله إبراهيم في كتابه "المُطابقة والإختلاف" التي يسعى من خلالها المؤدلجين "إلى "مثلنة" الجماعة و "أبلسة" الخصم" كما يقول شيغان في كتابه "ما الثورة الدينية/220).

إنه نزوع الأيديولوجيا نحو "المُماهاة" كما يرى شايغان، تُلغى فيه تحولات الزمان، تجعل من الزمان مكاناً ثابتاً لا حركة فيه، أو مكان لا تُعده الحركة في حال قلبنا لتعريف أرسطو له. إنه فكر لا تاريخي، يتمركز حول الأنا بنزعة "أنوية" بعبارة علي الوردي، هي فكر مُنغلق على نفسه و "دوغمائي".

تقع الأيديولوجيا كما يرى شايغان "عند تخوم الوعي واللاوعي، فهي تستمد مقولاتها السحرية اللَاعقلانية من الوظيفة الرمزية للاَشعور، وتستمد جهازها العقلي من كونها تعتمد كأداة على عقل هو شكلي النزعة ومشوه" (ما الثورة الدينية/224). وهي بالنتيجة "فكر مشحون بالعاطفة" "يُبشر بإكتمال الوهم".

ولم يستثني شايغان من النقد "العقل الأداتي" "التقني" الذي صير العقل العلمي أسيراً للتقنية ومرتهناً بها، مُتفقاً برؤيته هذه مع ما ذهب إليه أصحاب مدرسة "فرانكفورت": "ماركوز" و"هابرماس" و "هوركهايمر"، وسعيهم لنقد فكرة مركزية الغرب ونقدهم للتماهي مع القول بمركزية "العقل" وتغييب تنوعات الروح الإنساني الذي أُختزل كله بمركزية العلم وغلبة التقنية على جوانب الإبداع الإنساني الأخرى في الفنون، فصيروا الإنسان ببعد واحد، فكمتب ماركوز كتابه المعروف "الإنسان ذو البعد الواحد"، ومحاولته نقد "المجتمع الصناعي" ونقد دور المعرفة التكنولجية في تنميط الوعي البشري، وجعله عبداً وأسيراً لتحولات التقنية. حتى كدنا نفقد الوعي بالهوية الإنسانية عموماً من فرط تماهينا مع التصور المركزي الغربي لها على أنه هوية عقلية "تقنية".

إنها "أوهام الهوية" كما عرض لها في كتابه الموسوم بهذا العنوان، التي تمركز الغرب حول بناء عقلي لها مُغاير لتمركز الشرق وتصوراته السحرية لها.

كتابه هذا "أوهام الهوية" إنما هو توصيف لهويته الضائعة بين تجليات عقله الديني ونزعته التغريبية التي شكلت هوية وعيه المُتجدد بهموم مُجتمعه وحياته المعرفية التي تجلت بأبهى صورة لها حين دراسته في فرنسا، بلاد اللائيكية التي نهل منها جُل معارفه النقدية وتحولاته الأبستيمولوجية في التخلص من هيمنة الأيديولوجيا.وضياع التوصيف الدقيق والتصنيف الحصيف عنده لفك الخلط بين التغريب والعلمنة، وتماهيه مع نزعة التغريب ونقده المُستفيض لنزعة التتريث من دون الكشف الواضح والجلي لقرائه وتوطينهم في أي من الضفتين، أو تجاوزهما في إبداع واختراق لكل البنى التقليدية والتغريبية، فبقينا نحن قارئيه نهيم بين الجرفين ولا مرسى لنا.

لكن فضيلته تبقى وتدوم بفضل فيض عقله الموسوعي الذي نهل من جُرفيَ المعرفة، شرقية كانت أم غربية عبر سعيه الجاد للبحث عن مُشتركات الحضارة الكونية ببُعدها الأنسني.

      

 

 

في المثقف اليوم