قضايا

الفارابي ومضادات المدينة الفاضلة!!

sadiq alsamaraiالفارابي مفكر راهب لامع إستهلك وقته وحياته في دراسة الفلسفة اليونانية والتوفيق ما بين قطبيها البارزين، وحاول جاهدا أن يلائم ما بين الدين والسياسة، وذلك بأساليب ربما لا تختلف عن وعاظ السلاطين، لأن الخوف على ما يبدو هو العامل الذي جعله يفكر بأسلوب وقائي حذر من غضب الكرسي عليه، ولهذا أوجد صيغة تعايشية غريبة ما بين العمامة والكرسي، وأعطى للسلطان صلاحية نبي وإرادة إله، وحسب الناس تابعين ومنفذبن لإرادته التي لا تعلو عليها إرادة أو تخضع لمساءلة ورقيب.

وسأتناول هذا الموضوع في مقالات قادمة، لكني سأبدأ من حيث إنتهى بخصوص مدينته الفاضلة والتي يمكن تسميتها وفقا لمفاهيم العصر بالمدينة العاطلة أو العاضلة، لأنه جعلها وفقا لتصوره كالجهاز المتكون من أعضاء عليها أن تتحرك بآلية روؤبوتية للحفاظ على سلامة الجهاز، وأغفل فيها الكينونة الإنسانية والحاجة التفاعلية اللازمة للتطور والرقاء.

والفارابي بعد أن يتحدث عن مدينته الفاضلة ومكوناتها وصفات رئيسها ينتقل إلى ما يُضادها، وهو في إقتراباته يعبر عن معرفة ثاقبة بالسلوك البشري ودراية فائقة بأغوار النفس ونوازعها ومحفزات شرورها وخيراتها.

فيقول:

" والمدينة الفاضلة تضادها المدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة. ويضادها أيضا من أفراد الناس نواب المدن.

والمدينة الجاهلة هي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم. إنْ أرشدوا إليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنما عرفوا من الخيرات بعض هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنها خيرات من التي تظنّ أنها هي الغايات في الحياة، هي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، وأن يكون مخلّى هواه وأن يكون مكرّما ومعظّما.

فكل واحد من هذه سعادة عند أهل الجاهلة. "

لو إفترضنا أن الديمقراطية تمثل الطريق إلى السعادة وحاولنا إفهام أهل المدينة الجاهلة بذلك، فهل سيدركونه أو يستوعبونه ويفهمونه؟

فبما أنهم لم يعرفوا معنى الديمقراطية ولا خطرت ببالهم فأن إرشادهم إليها سيكون محالا.

ذلك أنهم ماسورون بحاجات بسيطة لا تختلف عن حاجات المخلوقات الأخرى من حولهم، بمعنى أنهم لم يرتقوا بوجودهم إلى مستوى عقلي وذوقي يبحث عن جواهر السعادة، فما دام الجهل بالشيئ يمنع الوصول إليه، فكذلك هي أحوال أهل المدينة الجاهلة، التي مهما حدثتهم عن الديمقراطية فأنها لا تصل إلى أسماعهم ولا تلامسها أفهامهم.

فعندهم ما يحفظ البدن من الأوجاع والأضرار ويمنح المال والحصول على اللذات الممكنة مطلوق الهوى وينال التكريم والتعظيم من الذين حوله، فهذا ما يريده ويعرفه، وهو ذات الشيئ السائد في المجتمعات التي أخذت تعلي من شأنها بالبحث عن أنسابها، والتفاخر والتباهي بعظامها وما عرفت العصامية والإقدام والعطاء الفعّال الأصيل.

"والسعادة العظمى الكاملة هي إجتماع هذه كلها. وأضدادها هي الشقاء، وهي آفات الأبدان والفقر وأن لا يتمتّع باللذات، وأن لا يكون مخلّى هواه وأن لا يكون مكرّما."

وإذا منع بين أهل المدينة الجاهلة وحاجاتهم الخمسة فأن ذلك في مفهومهم هو الشقاء، وعليه يمكن الإستحواذ عليهم وجرهم إلى جانبك بتوفير شروط أو وعود الوصول إلى مراميهم ورغباتهم التي تمتعهم ويتلذذون بها أيما تلذذ.

وهي تنقسم إلى جماعة مدن، منها:

أ ـ "المدينة الضرورية: هي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قِوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح، والتعاون على إستفادتها."

هي المدينة البقائية التي لا يميزها عن أي قطيع من الحيوانات التي تبدو بهيأة بشرية لا غير، وحاجاتها لا تختلف عن أي مخلوق في مملكة الحيوان.

ب ـ "المدينة البدّالة: هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيئ آخر، لكن على أن اليسار هو الغاية في الحياة."

ويمكن تسميتها بالمدينة الساذجة التي تسعى لغاية لا تدري ما تبتغي من ورائها، سوى إرضاء غزائز وحاجات لا قدرة لها على التفاعل معها والإستثمار فيها، فأهلها يتبجخون بيسرهم وثرائهم لكنهم لا يمتلكون القدرات العقلية اللازمة للإستثمار والتطور، وإنما الغاية أن يكون عندهم المال، وهو شبيه بأحوال المجتمعات الثرية بنفطها، والتي تتبجح وتتفاخر بملياراتها، وما تمكنت في الإستثمار الحكيم المفضي للسعادة الكلية.

ج ـ "مدينة الخسّة والسقوط: هي التي قصد أهلها التمتّع باللذّة من المأكول والمشروب والمنكوح، وبالجملة اللذة من المحسوس والتخيّل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه ومن كل نحو."

وهي المدينة المنفلتة المستباحة القيم والأخلاق، والتي يكثر فيها سلوك السوء بكل ما يتصل به وينجم عنه، ويتوفر له من أدوات ومواد وآليات تساهم في التحول إلى سكارى بالموبقات، ويتسيّد فيه البغاء والأنس والطرب الخليع ولا يوجد عند أهله اي رادع.

د ـ "مدينة الكرامة: هي التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم، ممجدين معظمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إما عند غيرهم وإما بعضهم عند بعض، كل إنسان على مقدار محبته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه."

وهي مدينة المديح الزائف والتمجيد الصارخ، وجوهر ما تقوم عليه هو الكذب والمحاباة والنفاق، لكن أهلها يحبذون القيام بما يؤهلهم للوصول إلى مرتبة الممدوح من قبل الشعراء والخطباء، وما هم إلا موجودات خاوية المحتوى، كالبراميل الفارغة التي تصدر أصواتا عالية، وما أكثرهم في المجتمعات المتهاوية على عروشها.

ه‍ ـ "مدينة التغلب: وهي التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدّهم اللذّة التي تنالهم من الغلبة فقط."

ويمكن القول بأنها المدينة المكلوبة أو المذؤوبة، التي يهاجم أهلها كل مخلوق ويستلبون ماله ووجوده، وهم السراق وقطاع الطرق والمجرمون بأنواعهم وأصنافهم وفئاتهم ومسمياتهم التي تتكاثر مع تكاثر البشر.

ولا هم عندهم إلا أن يقترفوا الجرائم والخطايا والبشائع، ويحسبون ذلك غلبة وفوزا ويتلذذون بأوجاع ومصائب الآخرين، وما هم إلا وحوش كاسرة بهيأة بشر.

و ـ "المدينة الجماعية: هي التي قصد أهلها أن يكونوا أحرارا، يعمل كل واحد منهم ما شاء، لا يمنع هواه في شيئ أصلا."

وهي المدينة الخالية من الرقيب ولا يعني أهلها إلا تحقيق ما يرغبون ومتى وأنى يشاؤون، وهي مدينة التيهان في وديان الرغبات وصحارى الفجران، ولا يتحقق فيها سوى الإنهماك بدوافع الغرائز وحاجات الأبدان، وقد يتمادى أهلها بسلوكهم حتى تصاب بتصدعات وتصارعات إهلاكية.

وهذه المدينة وأصنافها المتصورة أو المعاشة إنما هي حالات قائمة في الواقع السلوكي البشري، وتختلط في وجودها بين الناس، فعندما يعم الجهل تتولد سلوكيات مولودة من رحمه، وكأن الفارابي يقوم بحسابات رياضية ويشتق معادلات سلوكية، يوظفها لشرح رؤيته للسلوك البشري في مدنه المعادية للمدينة الفاضلة ذات السلوك القويم ومضاداتها ذوات السلوك الرجيم.

"وملوك الجاهلة على عهد مدنها، أن يكون كل واحد منهم انما يدبّر المدينة التي هو مسلّط عليها ليحصل هواه وميله. وهم الجاهلة التي يمكن أن تجعل غايات هي تلك التي أحصيناها آنفا."

وهذه معادلة وصفية ذات توازنات سلوكية ينجم عنها، أن رأس كل فرع من فروع المدينة الجاهلة يكون المثل الذي تتحقق محاكاته من قبل أهلها، فهو الذي يحقق بهم ما يريد وهم يحققون به ما يريدون، وبهذا يتوافق شنٌّ مع طبقه.

المدينة الفاسقة

ـ "المدينة الفاسقة: هي التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة واللّه عز وجل والثواني والعقل الفعّال، وكل شيء سبيله أن يعلمه أهل المدينة الفاضلة ويعتقدونها، ولكن تكون أفعال أهلها أفعال أهل المدن الجاهلة."

هي المدينة المناقضة لذاتها وموضوعها، فهي تقول ما لا تفعل، وتناقض أفعالها أقوالها، فبرغم من معرفة أهلها بما هو فاضل ومستقيم، لكنهم يمضون في طريق معوج وياتون بالرذائل وهم الذين يحاولون تبرير ما يأثمون بآليات إسقاطية وذهنية تنافرية، كما يحصل في عالم اليوم في العديد من المجتمعات المدعية بما لا تفعل.

المدينة المبدلة

ـ "المدينة المبدّلة : هي التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدّلت فدخلت فيها آراء غير تلك، وإستحالت أفعالها إلى غير تلك ."

مدينة بدلت بعض آرائها وأفعالها الفاضلة، وهذه المدينة دليل على إستحالة تواصل السلوك البشري على سكة واحدة، مهما كانت تلك السكة قويمة وذات معايير سامية وأخلاق راقية، فالسلوك البشري ميال للإنحراف والشطط ولا يمكن ضبطه حتى بالقوانين الصارمة، وأهل هذه المدينة كغيرهم من البشر الذين عاشوا في أوقات ذات قيم ومبادئ وأخلاقيات نبيلة، لكنهم سرعان ما تبدلوا وتحولوا إلى ما يناقض ما فيهم وما كانوا يفعلون.

المدينة الضالة

ـ "المدينة الضالة:هي التي تظن بعد حياتها هذه السعادة، ولكن غيّرت هذه، وتعتقد في اللّه عز وجل وفي الثواني وفي العقل الفعّال آراء فاسدة لا يصلح عليها (حتى) ولا ان أخذت على أنها تمثيلات وتخيلات لها، ويكون رئيسها الأول ممن أوهم أنه يوحى إليه من غير أن يكون كذلك، ويكون قد إستعمل في ذلك التمويهات والمخادعات والغرور."

وأهلها يعتقدون إعتقادات فاسدة في الله والثواني والسعادة، وفي هذه المدينة يعالج الفارابي جوهرا سلوكيا بشريا أزليا بدأت بسببه العديد من الحالات التفاعلية ما بين المخلوق والخالق، وهي نزعة سلوكية معروفة في أقدم الحضارات التي وصلت إلينا، فكان الملك أو الحاكم إلها ومن ثم نصف إله ومن بعد ذلك يحكم بإسم إله ومضت الحالة إلى يومنا هذا، فالبشر لا يمكن حكمه بالبشر المجرد من القوة الخارقة الفائقة، فعندما لاتتوفر العدة القوية يكون الحاكم متصلا بالخالق ويكون كلامه واجب التنفيذ وحسب.

وفي عالمنا المعاصر توجد العديد من أنظمة الحكم التي تمضي على هذا المنوال، فتستعبد البشر وترمي بهم في جحيمات الضلال والخداع والبهتان.

ويبدو أن الفارابي قد أدرك النفس البشرية وتمثلها بعمق ووضوح وصنف مدنه رمزا لها، فمدينته الفاضلة ما هي إلا رمز للنفس المطمئنة، ومدنها المضادة ترمز للنفس المارة بالسوء، وفي مقدمة كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة، أسهب في محاولاته الحذرة المتوجسة للتوفيق ما بين النفس اللوامة والنفس المطمئنة، لكي يتوقى غضب السلطان ويتوافق مع إرادة الزمان الذي كان فيه، والذي تسوده القوة المطلقة للحاكم المحاط بالعشرات من ذوي اللحى والعمائم الذين يهللون له، ويوهمونه بأنه حاكم بأمر الله بل وأنه نائب الخالق لتقرير مصير خلقه.

اي أنه أحكم فهم وإستيعاب الجهاز النفسي البشري، وكان لزاما عليه أن تكون النفس اللوامة صوت الخالق وسلطته وقوته المفروضة على خلقه، والتي بموجبها يجب أن تتفاعل النفس المطمئنة مع النفس الأمارة بالسوء والشرور.

وبهذا المعنى لم يجد دليلا على فصل مدينته الفاضلة عن الخالق وربط رئيسها به، بل وجعله ينوب عنه أو يتصرف وفقا لإملاءاته، وهذا التعمق في مدارات النفس اللوامة وفضاءات تفاعلاتها، أخذه بعيدا إلى النظر في معنى النبوة وكيف يمكن تعريفها وتوصيفها، لأنها من وجهة نظره العميقة عبارة عن تخاطب ما بين البشر وخالقه، ويمكنه أن يصل إليه بالتفاعل الجاد المجتهد، الذي يفتح له أبواب الفيض الرباني بصور ووسائل متنوعة.

وفي هذا ينتقل إلى معارج الإدراك والتسلق الإدراكي لسلم الصعود إلى عين اليقين.

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم