قضايا

المجتمعُ اللا دينيّ ومنظومةُ القيمِ.. الذات الحضاريّة للصينِ المعاصرةِ

ahmad awayizالحديثُ عن التجربةِ الصينيّةِ المعاصرةِ في نهضتِها يرتحلُ بِنا نحو عالمِ حضارةٍ يمتدُّ صدى أصواتِها إلى ما قبل ميلادِ السيّدِ المسيح ِبمئاتِ السنين، وهي تقفتُ بكلِّ جدارةٍ في قلبِ العالمِ الصاخبِ، عالم يضجُّ بأصواتِ حضارةٍ غربيّةٍ متناميةٍ من دون توقّفٍ، ومع ذلك نجدها تمضي بهويّةٍ شرقيّةٍ وتقول كلمتَها بكلِّ هدوءٍ ورزانةٍ بعد أن تجاوزتْ بنجاحٍ ذاكرةً موشومةً بالألمِ، ومن دون أن تفقدَ من إرثها القيمي والتاريخيّ شيئاً، كحالِ الحضاراتِ التي دبّ الجَدبُ في هويّتِها التاريخيّة فبدتْ أقربَ إلى كيانٍ بلا هويّةٍ، كيان رحّلتْ فيه مُشكلات ماضٍ دمويّ نحو الحاضرِ فأسهمتْ في إعادةِ إنتاجِ هويّةِ مشوّهةٍ وذاكرة مأزومة. هذا الإرث التاريخيّ والقيمي للحضارةِ الصينيّةِ اليوم مُثّلَ في قانونين أسهما في صناعةِ كينونةٍ تحمل نزعة لا دينيّة كلّ واحدٍ منهما بنى بُعداً من تلك الكينونةِ، أوّلهما قانون داخليّ يُمثّل منظومةَ القيمِ، والآخر قانون خارجي تُمثّله منظومةُ القوانين المدنيّة الإداريّة، في ذلك العالم الذي التقيتُ بهِ فِعلاً حينما مضيتُ أستاذاً أحملُ حقائبي باتجاه جامعةِ شنغهاي لمدّةٍ ليستْ قليلةً، وهي الفرصةُ التي فتحتْ لي النوافذ لأُبصر هذا العالم عن قربٍ بعد أن قرأتُ عنه من دونِ ضمأ؛ هذهِ الفرصة منحتني وقتاً لأطالع فيه بعمقٍ أمّهاتِ الكتبِ الفلسفيّةِ الصينيّة، ومقولات الحُكماء التي أسهمتْ في صناعةِ حضارتِها ومنظومتِها الأخلاقيّة والثقافيّة؛ حضارة يحكمُ أفرادَها نظامٌ من القيمِ الصارمة وقفَ شاهداً على عمقهِ التاريخيّ وتأثيره في صناعةِ أنطولوجيا الكائن الشرقي الذي يسكنُ ذلك العالم الحديثة، فعلى الرغمِ من أنّ مجتمعاً تعداده تجاوزَ المليار وأربعمائة مليون نسمة بيد أن مَنْ يعيشُ فيها يجدُها على درجةٍ عاليةٍ من التنظيمِ الاجتماعيّ والالتزام القيمي والإداري في السلوكِ العمليّ، فليس ثمّة فجوةُ ازدواجيّةٍ كبيرة بين تنظيرٍ وسلوكٍ، بين ما يُقالُ وما يُفعلُ كما هي الحالُ في بعضِ المجتمعاتِ الشرقيّةِ الممتلئة بالحديثِ عن المُثلِ الساميةِ والقيمِ من جهةٍ، وهي موبوءة بالانزلاق في ممارساتٍ متدنّيةٍ من جهةٍ أُخرى.

فهذا العالم الذي ينتظمُ بهذهِ الصورةِ لم يكنْ انتظامه يحتكمُ في سلوكِ أفرادهِ إلى إيمانٍ بعالمٍ ميتافيزيقيّ أخروي يُثابُ فيه المُحسنُ ويُعاقبُ فيه المُسيءُ، وإن ثمّة إلهاً يَخافُ منه الناس يتوعّد المُسيء بالجحيم ويُسكن الخيّر في جِنّانِ عدنٍ الخالدة كحالِ مجتمعات الأديان الأخَر حينما يكون الضابطُ لسلوكِ الفردِ العامِ فيها هو الإيمان بالعالمِ الأخروي الميتافيزيقيّ الذي يحكمه ربٌّ فيُسيّر بتعاليمهِ شؤون الكائن البشري. من هنا يستثيرُ الفضولُ غريزةَ البحثِ في تلك الحضارة المشرقيّةِ التي لم ينلْ نظامُها القيميّ هذا حظَّهُ من البحثِ المُعمّقِ والترجمةِ عند باحثينا العرب كحالِ ما حظيتْ بهِ الفلسفاتُ الغربيّةُ، وعالمها القيمي الذي جاءتْ بهِ سوى ما نجدُهُ من محاولاتٍ يتيمةٍ من باحثين ومن بعضِ المؤسساتِ أو دورِ النشرِ حاولتْ أن تُقدّمَ صوراً عامّةً عن تلك الفلسفاتِ على الرغمِ من ثرائِها وعُمقِ أفكارِها، وعلى الرغمِ من إشارةِ بعضِ الباحثين الجاديّن الذين قضوا تجارب واقعيّة فيها وأشاروا إلى أهميّتها، وهو ما دفعني وأنا أستاذٌ في جامعةِ شنغهاي إلى الانخراط مُساهماً في مشاريع علميّة في حقلِ الترجمةِ، ولاسيّما عبر مراجعتي لمتونٍ فلسفيّةٍ وحكميّةٍ لمفكريّن صينيين قدماء ينتسبونَ إلى مدارس فكريّة مختلفة نقلها زُملاءُ من الصين إلى اللغةِ العربيّة علّها تُسهمُ في توفيرِ متونٍ باللغةِ العربيّةِ لزيادةِ رغبةِ الباحثين في التخصصِ بهذهِ الحضارةِ وقيمها وثقافتها، فثمّة مشتركاتٌ كثيرة بين هاتين الحضارتين المشرقيّتين العربيّة والصينيّة على الأقلِ، وكم وددتُ لو أن اهتمام الباحثين العربِ بهذهِ الحضارة جاءَ يوازي اهتمام الباحثين الصينيين بالحضارةِ العربيّة، إذ يوجدُ أكثر من أربعين قسماً مُتخصصاً بالثقافةِ العربيّةِ، وهي من أكثرِ الأقسامِ طلّاباً وإقبالاً من بين الأقسام العلميّة في الجامعات، فضلاً عن الإقبال الكبير على الثقافةِ العربيّةِ في مراكز تعليمِ اللغاتِ لغاياتٍ مختلفةٍ علميّةٍ وتجاريّةٍ، على حين أن بعضَ الدولِ العربيّةِ لا يوجدُ في جامعاتِها قسمٌ واحدٌ متخصصٌ باللغةِ الصينيّةِ أو ثقافتِها أو فلسفتِها مع الأسفِ.  

المهم أن الذاتَ الصينيّة قامتْ في بناءِ قانونها الداخليّ على قيمٍ انتظمتْ في سلوكٍ عمليّ قبل أن تسمعَ صوتَها من أفواهِ من يُمارسونها. نظام كوّنتهُ القيمُ المتوارثةُ وحكمةُ الفلاسفةِ القدماء، هو شاهدُ نفسه حينما يتجسّد واقعاً عمليّاً في الأفراد من دون أن تضّجَ بهِ أصواتِ الوعّاظ بلا جدوى من سلوكهِ طريقاً لاحِباً مُستقيماً عند الأفراد؛ وهذا لا يعني التشكيك بنظامِ قيمنا السامي في الأديان التوحيديّة، فلستُ في سياقِ الحديثِ عن أصالةِ النظامين أو مُقدار تأثيره وجدواه، ولا حتى الموازنة بين الاثنين، وإنما في سياقِ الحديث عن تجسيدِ نظام القيم عمليّاً كيفما كان، وكونه قانوناً داخليّاً يُحرك الأفراد، نظام يتكلّم من دون أن تسمعَ صوته، وإنما تراه ماثلاً في السلوك.  

فقد عرفتْ الحضارةُ الصينيّةُ، ولاسيّما القديمة عدداً كبيراً من الفلاسفة والحكماء الذين نظرّوا وكتبوا وطبّقوا تعاليم حكمتهم بأمانةٍ وإخلاصٍ، ونشروها في أغلبِ البلدان وتركوا إرثاً كبيراً، وهو ما جعلَ لها ذاتاً حضاريّةً قيميّةً مميّزةً عن غيرها من حضارات العالمِ المختلفةِ كالرافدينيّةِ والفرعونيّةِ والإغريقيّةِ والهنديّةِ، ومنذ أن صدحَ لاو تسي في مقولاتهِ وكوفيشيوس في حواراتهِ مع تلامذتهِ ومُنشيوس وتشوانغ تسي وشيون تسي وهمفي تسي ولي تسي، وبوذا بتعاليمه وغيرهم من الحكماء، تشرّب الصينيون أرواحَ كلماتِ هؤلاء الحُكماء بصدقٍ، الكلمات التي بقيتْ نديّةً تستثيرُ الكائنَ الظامئ للحكمة في أيّةِ بقعةٍ من بقاعِ العالم المختلفةِ حتى يومِنا هذا، فلم يكنْ هؤلاء أنبياء يدعون إلى عبادةِ ربٍّ سماويّ، ويربطون الناس بعالم ميتافيزيقي مُتعالٍ ينتقل إليه الكائن البشري لحظة انقطاعه عن هذا العالم جسداً وانتقاله روحاً كحالِ ما تدعو إليه رسائل أنبياء أدياننا التوحيديّة، وهي التي تجعل الفردَ صالحاً ملتزماً، وإن كانت تعاليم هؤلاء الحكماء ومقولاتهم لا ترقى إلى معان نبويّة، بيد أنهم صاغوا بتلك التعاليم ذاتاً قيميّةً مسالمةً تحترمُ الخيرَ والعدلَ، وهكذا نُطالع مقولات اللاعنف واحتقار الحروبِ والعيش ببساطةٍ، والدعوةِ إلى الحريّة والسّلامِ عند لاو تسي فيلسوف الطاويّة الرئيس، ونجدُ مقولات حبّ الرحمةِ والعدالةِ والاستقامةِ ورعاية الوالدين والتواضع والإيثار ومساعدة الآخرين وتقديس العلم، والتطهر من الشرّ عند كونفوشيوس مُعلّم الكونفوشيوسية الأوّل، ونُطالعُ نظريّةِ الحُكمِ الرحيمِ عند منشيوس المعلّم الثاني فيها، وأن الشعب أهمّ من الحاكم، وأن الطبيعة الإنسانيّة خيّرة، فإن صدرَ منها شرٌّ فلابدّ من معالجةِ سببهِ الذي جعل ذلك الكائن مصدر أذىً للناس... وهكذا تحملُ تعاليمُهم ومقولاتُهم نفحاتٍ إنسانيّة تُقدّسُ الفضائل، تعاليم لها القدرةُ على تسييرِ الفردِ في منظومةِ قيمٍ نبيلةٍ مع نزعةٍ لا دينيّةٍ. ولم تُسعفْنا المصادرُ التاريخيّةُ، ولم نجدْ في مقولاتِهم ما يؤكّد بشكلٍ علميٍّ أنّهم رسلُ من الله، أرسلهم إلى أقوامهم برسائل كحالِ السيّد المسيح أو النّبي محمد وغيرهم من الأنبياء المعروفين عليهم السلام، إلّا ما نجدُه من إشاراتٍ في بعضِ معان تلك المقولات والتعاليم، إشارات في تَقديس السماءِ واحترامِها، مع فارقِ حمولةِ السماءِ عندهم.

إن مجموعَ تلك التعاليم الموروثة هو ما أوجدَ قانوناً داخلياً تشرّبته نفوسُ الناسِ في ذلك العالم ذي المليار والنصف كائن بشريّ تقريباً، تشرّبوه إلى حدٍّ غدا ضابطاً داخليّاً يُسيّر الكائن في سلوكهِ بصمتٍ، ضابطاً لم يرقَ إلى أن يكونَ ديناً تقليديّاً كحالِ الأديانِ المعروفةِ، فالذاتُ الصينيّة المعاصرة في الغالبِ لا تدين بشيءٍ مُحددٍ بصرامةٍ، وإنّما هي ترتبطُ بهذا الإرث من الأقوالِ والتعاليم لأشخاصٍ مُختلفين في توجّهاتهم، ونمط هذه القيم هو سلوكٌ لقيمٍ وجوديّةٍ، فالشخصُ مثلاً لا يكذب أو يفعل شراً قبيحاً خوفاً من ثوابٍ وعِقابٍ أخرويّ، وإنّما لأنّ الكذبَ قبيحٌ جداً، ولا يفعلُ شرّاً يدفعُ إلى إيقاعِ النفسِ في تهلكةٍ ويقودُ إلى نشرِ القُبحِ الذي يُورث الرذائل والعار للأجيالِ المستقبليّةِ، فلا أحد يقبل بأن يرثَ أبناؤه العارَ. وهنا لا أتحدث عن مجتمع مثاليٍّ صاغَهُ مِخيالُ الجمهوريّاتِ الأفلاطونيّةِ والمُدنِ الفاضلةِ، وإنما هو وصفٌ لتجربةٍ معيشةٍ، وليس ثمّة من شكٍّ في أن مجتمعاً كهذا يحملُ من شذّ في شرّهِ وتدنّيه وخرقهِ منظومة قيمِ مجتمعهِ، ويُمكن أن نلمسَ هذا التدنّي بسهولةٍ، بيد أنّ هناك نزوعاً عامّاً في السلوكِ نحو منظومةِ القيمِ التي تُوقّر الخيرِ، وتسعى إلى السلمِ وتطهيرِ الذوات من الشرِّ، وهذا النزوع تجده عند شريحةٍ واسعةٍ من الناس، وهو ما لمسته نتيجة تجربتي العمليّة وتعاملي القريب.

وأمّا القانون الخارجيّ فتُمثّله منظومةُ القوانين المدنيّة الإداريّة، نظامٌ عامٌ للمجتمع يحكمُ تلك الذات، قانون مهمٌّ له حظّهُ ومكانتُه القيميّة عند الأفرادِ، وهو ما أوجدتُهُ الذاتُ الحضاريّة المُعاصرةُ للصين عبر قوانينها المدنيّةِ البانيةِ للمؤسسات، فقد بنتْ نظاماً إداريّاً وضوابط التزمها الفرد أشدّ الالتزام، يبدأ من احترامهِ الملتزم بإشارات المرورِ وصولاً إلى نظامِ التعليمِ والصحّةِ والنقلِ والنظافةِ والإخلاص في العملِ وحبّ الوطنِ، وهو نظامٌ لا صلة له بالدينِ مُطلقاً في ظلِّ حكمٍ شيوعيٍّ مُميّز في اشتراكيتهِ المدنيّة كما هو معروف، ومميّزٌ بلا دينيّتهِ أيضاً، وقد خلقَ هذا النظام أنموذجاً تتكافأ فيه الفرصُ إلى حدٍّ مقبولٍ، في التعليمِ والصّحةِ وحتى في الحصولِ على العملِ والخدماتِ الأخَر على الرغمِ من أنّ الصين مازالتْ تُعدُّ في الدولِ الناميةِ بيد أنّها صارتْ ثاني أهمّ اقتصادٍ في العالمِ وأكبر مُصدّرٍ بين دولِ العالمِ الثالثِ، وهي دولةٌ صناعيّةٌ ملأتْ سلعها الشرقَ والغربَ. وقد صنعَ كلٌّ من هذين النظامين الداخليّ وقيمهِ الموروثة من الفلاسفةِ والحُكماء القدماء والنظام المدني الإداريّ والتنظيمي الذي نظّم طُرق العيشِ والكسبِ في المؤسساتِ المُعاصرِ، تلك الذات الحضاريّة التي نلمسها في عالمِ الصين اليوم، الذات التي بنتْ علاقتها بالحضاراتِ الأخَر على أساسِ الاحترامِ، وتبادل المصالحِ، ونجحتْ في تخطّي كثيرٍ منها، وهي مستمرّةٌ في النمو بخطواتٍ حثيثةٍ، حضارة لا دينيّة بالمعنى التقليديّ، وبدا أن لها نظاماً من القيم الراقية المُجسّد عَمليّاً في أفرادِها حتى غدا سمةً بارزةً من سماتِ تلك الأمّة، أمّة هي مصداقٌ لماضيها الصانع لذاتِها الحضاريّة القيميّة بقانونٍ داخليٍّ ومُصداق لحاضرها الصانع لذاتها الحضاريّة المدنيّة في نظمِ العيشِ والانضباط الإداريّ في العملِ المؤسساتيّ.

 

د. أحمد عويّز

 

 

في المثقف اليوم