قضايا

التمايز وتفعيل المغيب الثقافي

محمد كريم الساعديإنَّ الرد الثقافي الذي انتجته الدراسات ما بعد الكولونيالية يرتكز على آليات تفكيك خطاب السلطة الكولونيالية والتي كان جزء منها يتمظهر في ردوده على رصد آثار السلطة الكولونيالية على الأجساد الخاضعة لها على وفق عمليات تمتد الى أزمنة وأمكنة عديدة وطرائق وأساليب تستخدم في هذا المجال، وحتى مرجعيات ثقافية وفكرية تمثلت في مرتكزات مهمة ساعدت في بناء العقلية الكولونيالية، ومن هذه المرتكزات الثقافية والفكرية (الاستشراق، الخطاب الفلسفي الغربي، الخطاب الفني والأدبي) وكل هذه ساهمت في إنتاج صورة ذهنية عن الأجساد خارج الحضارة الغربية وكيفية أخضاعها، ومن ضمنها الصور الذهنية عن المواطن الأصلاني، وهو ما يعتقد بأنه يخضع بالأساس الى التقاليد والطقوس والعادات التي لا تجعله إنساناً قابلاً للنهوض والبحث عما هو جديد ليجدد واقعه، بل أن هذه الأمور تسهم في جعله يتقوقع بداخلها، بالإضافة الى ذلك فقد ساهمت هذه الصفات الآخر في جعله يظهر بصورة سلبية، كما ان هذه السلطات الكولونيالية مارست عليه مجموعة من الاساليب ثبتت هذه الصور الذهنية في العقلية الغربية سواءً كانت على مستوى المؤسسات أم على مستوى الناس العاديين في أوربا، أنَّها صور نمطية ركزت عليها المؤسسات الثقافية الكولونيالية في هذا المجال، ومن ضمن هذه الاساليب المساهمة في تأكيد الحضور الكولونيالي هي: (الأستلاب، والأبعاد عن الذاتية، والأبتعاد عن الجذور، والنفي عن الواقع الاصلاني للوصول الى إنتاج أجساد تابعة ثقافياً وفكرياً الى السياسة الكولونيالية لذلك فان اليات الرد ما بعد الكولونيالية تأتي من خلال:

• تفكيك مرجعيات الثبات والتمركز في مرتكزات الثقافة الغربية وصورها الذهنية عن الأجساد التي تقع خارج إطار المركز الكولونيالي .

• تفكيك ثنائيات التمايز الثقافي وتفعيل المغيب مقابل الحضور الكولونيالي .

• تفعيل الفضاء الثالث من خلال الكشف عن الممارسات الكولونيالية ضد الأجساد وما وقع عليها من ممارسات تهجين وقولبة لها .

• إيجاد فضاءات متكافئة من التعبير الحر بين الخطابين على الأجساد، من دون التركيز على البناء الثقافي الكولونيالي، أي فك عقدة السيطرة الثقافية التي تمارسها الثقافة الكولونيالية على الاجساد .

• العمل على التحفيز الثقافي للأجساد الأصلانية التي عملت السلطات الكولونيالية على قولبتها في أطر محددة وعناوين ونعوت ممنهجة من الممارسات لأجل الاخضاع .

وفي سياق الرد ما بعد الكولونيالي للأجساد يرسم (فوكو) صورة يمكن أن تستخدم في جعل سياق الرد قابل للتنفيذ من خلال نقد السلطة والتي يمكن الأستفادة منه في نقد الخطاب الكولونيالي، إذ يرى (فوكو) بأن: حجر الزاوية في كل نقد للسلطة يمر بتفكيك خارطة الجسد بعد ان يقع تفكيك الخطاب وآلياته، كما يتبين أن تتبع السلطة لا يكون عن طريق تحليل آلة الدولة، وإنما عن طريق تشريح الجسد وتشريح تقنية شده وتنظيمه وتنميطه حتى يتمكن هذا الجسد من تحرير قدراته وتوظيفها بعد التخلص من القولبة الثقافية التي وضع فيها للوصول الى بناء عملية رد ثقافية يتم فيها إظهار ما تم تغييبه وإبعاده عن الحضور الثقافي القابل على جعل هذه الأجساد قادرة على التغيير الفعلي دون الوقوع تحت هيمنة أخرى تمارس عليها، أي بمعنى يجب أن يتوفر الفضاء الثقافي القابل على إتاحة التعبير الجيد ضد الأفعال والسلوكيات على وفق أطر ثقافية ومناخات وبيئات سليمة تنمي روح الأنتماء الى ما هو أصلاني دون ان يكون للمركز الثقافي معايير خاصة للقبول، أو الرفض بأي طريقة تعبير خاصة وهنا يكون الرد ما بعد الكولونيالي البحث عن فضاء ثقافي جديد بعيد عن هيمنة المركز ومعاييره التي تقيد من خلال فروضها وشروطها بالقبول والرفض لكل فعل ناقد تجاه السلطة الكولونيالية، التي يرى فيها (فوكو) أنها الطريقة الجيدة للبحث عن فضاءات ثقافية أخرى قابلة لإنتاج رد موازي لهيمنتها على الأجساد .

 

بقلم الاستاذ الدكتور محمد كريم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم