قضايا

حكاية اللامعنى في وطن له تاريخ ومعنى

ali almirhigأشهد أن عشت، "عشت لأروي" لكني بالتأكيد لست بماركيز، ولكن جداتنا روين لنا حكاياتهن، فلمن يعيشون في هوامش الحكايات حكاياتهم أيضاً، وأنا ممن يعيشون على هوامش حكاية وطن، هو أرض سقيناها بالحقد، فأنجبت تمذهباً وطائفيةً.

الوطن نحن، فلا نلومن أرض أنجبتنا، ولنلم بعض أو كل ما فينا، فالوطن لا يبيع ولا يشتري، ولكن البشر يبيع ويشتري، وهناك بشر يُباع ويُشترى، وفي العراق من هذه وتلك كُثر، يبيع وطناً ليربح مالاً، يبيع نفسه ليشتري تاريخاً للخسة يُدونه على جباه سُلالته.

و"حياتي في اللامعنى" تكمن في ضياعها بشعارات الوطنية، مذ كنت طفلاً عرفت العراق، أرض حضارة، ولكن فيه أناس يبيعون ويشترون فيه في سوق النخاسة القوموي أو الإسلاموي، فكثير منهم رفع شعارات القومية، وهو يصرخ "أبيع، راح أبيع" وهي عبارة نعيم الشطري بائع الكتب رحمه الله في مازاد الكتب في يوم الجمعة في المُتنبي، ومن يدفع أكثر ـ طبعاً ـ يبيع له، وشتان بين ما يبتغيه الشطري ببيعه من نشر للمعرفة، وبين من يصيح "أبيع، راح أبيع" ليبيع الوطن وما فيه، لصالح ترميم جيبه، أو لصالح أيديولوجية لا وطنية، تجعل الوطن رهين نظريات لا تاريخية، أو "لا تاريخانية" بعبارة عبدالله العروي. فستجد في مازاد بيع الهوية الوطنية من يرهن الوطن لصالح الأمة، ذلك المفهوم المثالي الموجود في مخيال الحالمين من "القومويين"، لا أنال هنا من "العروبيين" لأننا عرب، ولكني وجدت عوالم "اللامعنى" حينما صار الوطن والمواطن العراقي أضحية من أجل تحقيق شعارات "القومويين".

وزاد المازاد في البيع والشراء، حينما صار الوطن سلعة تُباع وتُشترى عند "الإسلامويين"، ولا أنال هنا من الإسلاميين، لأننا مجتمع إسلامي، ولكني تهت في "اللامعنى" حينما وجدت الوطن والمواطن رهين أيديولوجيا "الإسلامويين" من الذي ربطوا مصير العراق بمصير دول الجوار الإسلامي، السُنة باعوا حينما جعلوا من السعودية ناطقاً رسمياً بإسمهم، والشيعة باعوا، حينما جعلوا من إيران النطاق الرسمي بإسمهم.

ولو تأملنا معنى هذا الوطن، الذي علم البشر صياغة المعنى، لعرفنا قيمة قول صمؤيل كريمر "يبدأ التاريخ من سومر"، ولن أخوض بكلام رومانسي، فهو حقيقة تاريخية، أن العراق "ميزوبوتاميا" بلاد ما بين النهرين" هو من بدأت معه العلوم والفنون، فصيّر الحياة والمعنى لسُكان هذه البسيطة.

ولربما يكون حالنا كحال اليونانيين اليوم، فبعد أن كانوا بُناة للتعقل والتفكير الفلسفي، نجدها اليوم في ذيل قائمة الدول، وهي من صنعت المعنى، فعلمت الأمم معنى التفكير المنطقي والعلمي. وهذا على ما يبدو مصيرنا فبعد أن كانت سومر وبابل ونينوى وبغداد حواضر صناعة الجمال والعمران والعلم والفلسفة، وفن صياغة المعنى، صرّنا اليوم في ذيل الدول، بل من الدول الأكثر فساداً في العالم!! هل يوجد ضياع في اللامعنى أكثر مما نحن فيه؟.

أشهد أنني عشت، "عشت لأروي" بعض من حكايات المعنى واللامعنى في وطن المعنى واللامعنى!!.

وعوالم "اللامعنى" تتضح حينما صار العراق والعراقيين أسارى قُطبي صراع خارجي، ولا وجود لوطن، إنام الوجود كله للطائفة والهوية الفرعية، التي غيبت الهوية الوطنية، ولولا التحدي "الداعشي" الذي خُدع فيه السنة قبل الشيعة، وخسر فيه الشيعة قدرتهم على إدارة دفة الحكم لوطن خسروا ثلثي أراضيه بفعل سياساتهم الطائفية المبنية على شعورهم القديم بأنهم مُعارضة في جوهر وجودهم، لذلك كانت السلطة عارضة في حياتهم الساسية، فلم يُتقنوا لعبة "فن المُمكن"، فجالوا وصالوا في شعاراتهم فيما ينبغي، وبين الينبغي واليجب، كدنا أن نخسر وطن ونفقد فاعلية مواطن ومُكون أصيل من مكونات الهوية الوطنية، نتيجة لجهل الفاعل في القرار بالسياسة وإدارة السلطة، لأنه يُجيد "المُعارضة".

 

 

في المثقف اليوم