قضايا

التراث والذاكرة

abdulsalam faroqلما كان التمسك بالموروث ضمانة حقيقية لاستمرار وجود الأمة بهويتها وخصوصيتها الثقافية والاجتماعية، فإن الأمة العربية أحوج من غيرها لممارسة هذا الفعل، خاصة في ظل ما تواجهه الذات العربية والهوية الحضارية للأمة من تحديات ومخاطر، ربما لم تشهد مثيلا لها عبر تاريخها الطويل.

ومن دون شك أن علاقة الإنسان العربي بتراثه علاقة عضوية حيث أن هويته الحضارية برمتها تتغذي من هذا التراث المرتبط في وعيه بأبعاد تاريخية ودينية وسياسية علي حد سواء، فتعلقه بما يختزنه ماضيه من انجازات علمية وفلسفية وأدبية أشد من تعلق أي انسان آخر بتراثه شرقا وغربا .

فالإنسان العربي ينتمي انتماءا كليا إلي تراثه حيث يشعر بأن تعلقه به هو امتداد لتعلقه بتصوره للدنيا والكون، ولذلك يتخذ التراث عنده بعدا روحانيا ونفسيا مما يضعه خارج دائرة التفكير العلمي، وداخل دائرة التقليد، فالمساس بالتراث غير وارد عنده وكذلك مساءلته إذ أن هذا التراث قيمة عليا لديه يتعامل معها بشكل مثالي، لكن هذه المثالية تبدأ بتجميد هذا التراث .

يحتوي التراث على جانبين رئيسيين هما : الملموس المادي مما أنتجه السابقون من مبان وأدوات ومدن وملابس وغير ذلك، وغير الملموس من معتقدات وعادات ولغات وتقاليد .

وبهذا بكون التراث بقيمه الثقافية والاجتماعية مصدرا تربويا علميا وفنيا، ويالتالي فإن تراكم الخبرات يكون الحضارة وتراكم المعلومات يشكل الذاكرة، وهذه الذاكرة بدورها تمكننا من فهم العالم فهما سليما و أن نربط بين خبرتنا الراهنة ومعارفنا السابقة عن العالم وكيف يعمل، ولهذه الذاكرة والتراث الثقافي (الذي ننادي بالحفاظ عليه) علاقة طردية مع الإبداع لدى الأفراد والشعوب.

وعادة ما يُطرح السؤال التالي وفقا للاعتبارات الحضارية والثقافية : لماذا يستطيع بعض الأفراد وبعض المجتمعات أن يقدموا أفكارا جديدة أو استعمالات إبداعية للأشياء، ولا يستطيع البعض الآخر أن يفعل الشيء نفسه ؟

جزء غير يسير من الإجابة علي هذا السؤال يحدده الموروث الثقافي أو الحضاري للفرد و المجتمع .

ولذلك فإن الحفاظ على التراث كمادة إستراتيجية لها دورها الاقتصادي في تطوير المجتمع المحلي، فالتراث الثقافي مادة إستراتيجية، أي أنها إذا فقدت فلن تتجدد مثلها مثل البترول .هذا لأن فقدان التراث الثقافي يعني فقدان الذاكرة ويعني إفقارا اقتصاديا حقيقيا لذلك البلد الذي يفقده، إن الذاكرة هي التي تساعد على اتخاذ القرار، فالإنسان الفاقد لذاكرته لا يستطيع أن يستدل على باب بيته، فكيف يصنع ويطور ذاته ؟ وهذا ينطبق على الفرد وعلى المجتمع علي حد سواء . ولذلك كان نداء اليونسكو والمواثيق العالمية الصادرة عن المجلس العالمي للمعالم والمواقع بأن تُحفظ الآثار في مواقعها وفي بلادها.

ويجدر بنا هنا التذكير بما يقوم بعمله المستعمرون بشكل عام في طمس الشواهد الحضارية للشعوب المستعمرة ومحاولة سلبها وتصديرها بطرق غير مشروعة إلى بلادهم أو إيداعها في متاحف بلادهم إن لم يقوموا بتدميرها، والسبب الرئيسي لهذه العملية هو طمس الهوية وضياع الذاكرة لتشعر بعد ذلك الشعوب المستعمرة بأنها في حاجة إلى من يتخذ القرارات لها ويسوس أمرها من خارجها أي من قبل المستعمر.

أما عن الجانب الاقتصادي للتراث، فلا شك أن دور التراث الثقافي في جلب السياح إلي منطقتنا هو دور مهم .فالسياحة في منطقتنا غالبا هي السياحة الثقافية، والتراث الثقافي هو الجانب الحقيقي الذي يبحث عنه الزائر والسائح في بلداننا، فإذا ما دمر أو نُهب في أي بلد عربي فسوف يقل عدد الزوار والسائحين، وتنحسر بذلك صناعة السياحة ويتقلص دخلها.       

واقع الحال إن ملكية التراث الثقافي هو ملكية للإنسانية جمعاء، ولأن الدولة أو المجتمع هو صاحب ذلك التراث الثقافي والحارس عليه فمن واجبه حمايته والمحافظة عليه قبل الآخرين والدفاع عنه إذا لزم الأمر. وعلى مر العصور كان الاعتداء على التراث الثقافي وسيبقى مادام الإنسان يحارب أخاه الإنسان الذي صنع ذلك التراث.وعلى مر العصور تعمد الغازي والمستعمر تدمير الميراث الثقافي للبلد المهزوم لعزل الشعوب المستعمرة عن ماضيها وعن ارتباطها بالأرض وعن انتمائها وهويتها الوطنية وحتى يحدث الاتزان وينتصر المهزوم كان لابد للشعوب المستعمرَة من أن تستمد قوتها من تراثها الثقافي.

وتظهر أهمية التراث الثقافي ودوره بوضوح أكثر في صنع الوحدة الثقافية في بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فهي لا تمتلك تراثا ثقافيا كبيرا كما هو الحال في عالمنا العربي، ومع ذلك قامت بجهود كبيرة في توفير مصادر ثقافية عديدة، وشيدت متاحف في كل قرية ومدينة ..وقد كنت استغرب أن يكون هناك متحف خاص مثلا بإكسسوارات وكاميرات واسكر يبت فيلم Citizen Cane الذي مثل البطولة فيه "ارسون ويلز " إلا أنه جزء من الميراث الثقافي كما هو الحال في هوليوود. وهذا ما يجعلهم يقتنون وينهبون التحف الأثرية من دول العالم، يشترون البعض ويأخذون البعض هدايا والبعض الآخر تتم سرقته.

 

عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم