قضايا

عقدة التنافس والتفوق في مراكز القوة

محمد كريم الساعديشكل الشرق في بواكير الحضارة للغرب عقدة المنافسة، فكان لابد من التفوق عليه، إذ تعددت الأساليب ضمن عمل المؤسسة الغربية ومنها دراسة مراكز القوة والضعف عند الآخر الشرقي، و تمثلت هذه الخطوة في اتجاهين، الأول: تدعيم صورة الشرقي في المخيال الغربي ولاسيما الشعبي وما تحويه من صور سلبية سابقة، يضاف إليها الجانب الغرائبي والذي كان للرحالة والمستشرقين دور مهم فيه. أما الجانب الثاني: فتح دراسات في عدد من المراكز العلمية والجامعات، وجاء هذا بتوجيه من مجموع الكنائس في (فينا) عام (1312)م لغرض معرفة الآخر وفهم لغته ومعتقداته وأهم نتاجاته المعرفية، إذ عرفت بالدراسات الشرقية واصبح لها كراسي في جامعات مثل أكسفورد وباريس وبولونيا و أفينون وغيرها،وأخذ الخطاب الإستشراقي بالتوسع في نظرته مع تطور الدراسات الإستشراقية، ولاسيما في عصر النهضة وما بعد، وساعدت في ذلك تطور الجوانب العلمية والمعرفية وازدهار الصناعة والاقتصاد في أوربا وازداد حجم التبادل التجاري مع بقاع العالم الأخرى ولاسيما الشرق، مما جعل الاهتمام بالشرق يتزايد ويزداد معه عدد الباحثين المهتمين به، الامر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الفرق البحثية في مختلف المجالات، إذ أدى ذلك الى ظهور عدد من المؤلفات في المجال الإستشراقي ولاسيما في نهاية القرن السابع عشر، وقد امتازت بالموسوعية والإرشيفية، مثل كتاب الفرنسي (بارتيملي ديربيلو : المكتبة الشرقية 1697م) الذي اصبح شكلاً كتابياً يُقلد وأنموذجاً يحتذى به من قبل المستشرقين من امثال (جول مول) في القرن التاسع عشر في كتابه (سبعة وعشرون عاماً من تاريخ الدراسات الشرقية) الذي رصد احداث الشرق ما بين 1840م-1860م، و(كارل بركمان) في تناوله للأدب العربي. وغيرها من المؤلفات التي وصلت الى ما يقارب ستين ألف مطبوعة ما بين عامي 1860م-1960، بحسب ما أشار إليه (ادوارد سعيد) في كتاب (الاستشراق).

فضلاً عن ذلك، أسهم (الإستشراق)، وما نتج عنه من خطاب موجه الى الداخل الغربي في تثبيت تصورات في غالبيتها سلبية في الوعي الجمعي الغربي عن الشرق، وتحولت فيما بعد إلى تقييم يقيم من خلاله المواطن الغربي الشرق وشعوبه وهذا ما يؤكده (تيري هنتش) بأن الأدوات الأساسية والتي بفضلها ينتقص الأوربي العادي وبشكل غريزي من العربي المسلم جاءتنا من بعيد. إنها تستمد جذورها من الخطاب الحقود الذي قامت بإشاعته الكنيسة الكاثوليكية حول الهرطقة والشعوذة (المحمدية) اعتباراً من القرن الحادي عشر ودوام هذا الخطاب تحت أشكال مخففة نوعاً ما ليعود إلى الاشتداد في بعض المناسبات في هذا القرن.

إن هذا النشاط الإستشراقي واكبه خطاب استعماري غربي مدعوم ببعض النظريات الفلسفية الغربية التي ميزت (الأنا الغربية) عن (الآخر)، على وفق رؤية ذات بعد متعالٍ، استثمرت في كون العقل الغربي قادراً على ادخال الحضارة والتعليم والثقافة الى الشرق وتحرير مواطنيه من الأفكار الاسطورية والخرافية وانتاج صيغ ثقافية اخرى له، تجعل من الثقافة الغربية مثالها الأعلى. وبذريعة التثقيف، عمل الغرب صاحب الحضارة المتفوقة في تفكيك الشبكة الرمزية من المعاني والتخيلات والأخلاقيات للجماعات الأصلية، وأحل معها بالقوة العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو بالتعليم الاستعماري، شبكة مختلفة من المعاني حملها معه من وراء البحار، وحينما استقام الأمر للقوى الاستعمارية وصمت المجتمعات الأصلية بالهمجية، ورسمت لها صورة سلبية، ولكي تنخرط في مسار التاريخ العالمي ينبغي عليها الاندماج في سياق الثقافة الاستعمارية وتبني ما تقدمه من أفكار وتصورات ومناهج، وطبقاً لقاعدة التبعية، فلا يجوز الابتكار وإنما ينبغي المحاكاة للتجربة الحضارية والثقافية الغربية، من أجل خلق منظومة ثقافية محلية ذات صبغة غربية في داخل المجتمعات الأصلية.

إن مساهمة الفلسفة الغربية في تكوين خطاب إقصائي في الفكر الغربي كان له الدور الفاعل في ايجاد فروقات ثقافية ومعرفية استخدمت في ساحة الصراع الثقافي ضد الفكر الشرقي، إذ استمد الفلاسفة والمفكرون الغربيّون هذا الخطاب الإقصائي من الفلسفات الاغريقية وخصوصاً عند (أفلاطون وأرسطو)، الذي تطور على يد عدد من الفلاسفة الذين تأثروا بآرائهم وتوجهاتهم القائلة بتفوق العقل الغربي ونتاجاته الفكرية على العقل الشرقي ذي النزعة الأسطورية، وبذلك وضعوا تفوق الحضارة الغربية وفلسفاتها في السياق المعرفي والتطور الفكري الحاصل في الغرب الذي عمل على إثبات الأنا بتدمير الآخر، وحول هذا الموضوع لم يختلف فلاسفة التمركز الغربي ومؤرخوه من ( مونتسكيو) و(هيردر) و(فيكو) و(كوندرسيه) إلى (هيغل) و(ماركس) و(انجلز) فالتشويش والعماء المؤقت يرافقان كل تشكل حضاري جديد منغلق على نفسه،وعلى هذا عدت الحملة الفرنسية من نواح كثيرة، ولدى عدد لا يحصى من الدارسين، الحدث الذي ينبغي أن يؤرخ به واقعياً ورمزياً الإعلان عن بداية التحديث في الجزء العربي من الشرق.

ان تعدد أساليب إضعاف وتشويه صورة الآخر الشرقي في الفكر والفلسفة الغربية، لم تنتهِ عند رسم الملامح السلبية من خلال الاطلاع المباشر، أو النقل عن عدد من المستشرقين الذين قاموا برحلات إلى الشرق ونقلوا ما شاهدوه، بل أن (مونتسكيو)، كتب عن الشرق وصفات ابنائه بالنيابة عنهم، ورسم صور لم يستمدها من الواقع بل من خياله، إذ تعد (الرسائل الفارسية) التي تناغمت مع محاكاة الأخر الشرقي في المخيال الغربي الأكثر رواجاً في فرنسا لما تحويه من صور غرائبية عنه، إذ صَوَرَ الشرق عن لسان ابنائه برسائل مكتوبة بقلم (ريكا واوزبك) وهما سائحان فارسيان في فرنسا. ومراسليهما في أصفهان وان هذه الرسائل لم تعرض فقط نقاط الضعف والأهواء والتحيز عند الفرنسيين، ولكنها كشفت ـ أيضاً ـ عن حماقات السلوك والمعتقدات الشرقية من خلال الكتّاب أنفسهم، وكانت الهرطقات الدينية في الرسائل أكثر ترويجاً وتنفيراً من الهرطقات السياسية، ويرى (أوزبك) إن الزنوج يتصورون الإله أسود والشيطان أبيض. كذلك لم يكتفِ (مونتسكيو) بالكتابة نيابة عن الشرق وشعوبه بل قام بتصنيف شعوب العالم على أساس العامل الجغرافي والبيئي متأثر بـ(أرسطو)، إذ يرى بأن كل تقدم حضاري عند أي شعب من الشعوب يعود إلى عامل الطبيعة، فلذلك يقرر أن (الجنوب) هو موطن الكسل بسبب الحرارة السائدة فيه وان (الشمال) هو موطن العمل والنشاط بدافع البرودة انه من قدر الشعوب الجنوبية أن تغزوها الشعوب الشمالية باستمرار وأن من الطبيعي أن يكون العبيد من الجنوب والسادة من الشمال. وتأثر بهذا التصنيف (هردر) ـ أيضاًـ الذي قسم الشعوب بحسب المناخ والطبيعة.

أما (هيجل) الذي ركز في مفهوم التاريخ، وجعل عنصر التفوق في الحضارة الغربية من خلال مفهوم (الروح المطلقة)، التي وصلت عند الشعوب الجرمانية الغربية، إلى أعلى درجات الحرية والتطور بعد أن كان يعبر عنها بشكل رمزي في الحضارات الشرقية القديمة بسبب استبداد حكامها وشعوبها الذين لا يعلمون الروح، أو الإنسان بوصفه إنساناً، هو حر في ذاته، ولأنهم لا يعرفون، فأنهم ليسوا أحراراً ؛ إنهم يعلمون فقط إن الحاكم الوحيد هو حر، ولهذا السبب فأن مثل هذه الحرية ليست سوى نزوة وبربرية، إنها بلا قوة عاطفية أو عذوبة عاطفية لا تعدو هي نفسها أن تكون حادثة طبيعية أو نزوة، وهذا الفرد الوحيد لم يكن سوى مستبد، وليس رجلاً حراً ينشر العدالة والقيم ويجعل التعبير عن هذه القيم امراً في متناول الشعوب، لذلك فأن الروح المطلقة لم يعبر عنها سوى بشكل رمزي.

 

أ.د محمد كريم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم