قضايا

عالم قديم يتداعي.. دور نظريّة صدام الحضارات في بناء عالم متعدّد الأقطاب

عبد  السلام فاروقلم يتوقف الجدل والنقاش حول نظرية "صدام الحضارات" للمفكر الأمريكي صامويل هانتغتون، منذ ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، نقدا أو تقريظا، ذما تارة ومدحا تارة أحري. "كتاب " توازن القوي النسبي .. دور نظرية صدام الحضارات في بناء عالم متعدد الأقطاب " الصادر حديثا عن دار (-) للنشر والتوزيع بالقاهرة، يحاول بهدوء استجلاء دور هذه النظريّة في بناء نظام دولي قائم على التعدّدية القطبية، وليس على القطب الأوحد ؛ كما ادعت عديد الدراسات والأطروحات التي ظهرت في بداية تسعينيّات القرن العشرين ؛ أي : بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

وفي سبيل ذلك يطرح الباحث السوري محمد مرعي في البداية مجموعة مهمة من الأسئلةٌ، أبرزُها:- ما تعريفُ كلٍّ من الثقافة، والحضارة؟ وما العَلاقةُ بينهما؟ ثم ما أهمُّ فرضيّاتِ نظريّةِ صِدَام الحضارات؟ ولماذا ظهرت هذه النظريّة في حقبة مابعد الحرب الباردة؟ بعد مَضيّ أكثر من عقدين على ظهور نظريّة صدام الحضارات، هل أثبت واقع السّياسة الدّوليّة صحّة فروض تلك النّظريّة من حيث: هِراركيّة النّظام الدّولي؛ منذ سقوط الشّيوعيّة حتى الآن؟ وهل يشهد العالم، في هذه الآونة، انبثاق نظام دولي متعدّد الأقطاب، بعد أن تسيّدت الولايات المتّحدة الأمريكيّة العالمَ لبعض الوقت؟ ما معنى الحوار بشكلٍ عام؟ وما معنى حِوار الحضارات بشكلٍ خاص؟ ما تأثيرُ نظريّتَيْ صِدام الحضارات، وحوار الحضارات في العَلاقات الدَّوْليَّة؟ هل يُوجَدُ تأثيرٌ مُتبادَلٌ بين كلتا النظريّتين من جهةٍ، وبين ظاهرتَيْ: العولمة، والإسلامو – فوبيا من جهةٍ ثانيةٍ؟

وخلال ذلك المسعى لُاحظ محمد مرعي وجود لبس بين مصطلحي "الثقافة" و"الحضارة"، واستخدامهما في غير مواضعهما في بعض الأحيان. لذلك خصص مبحثا تمهيديا في هذا الكتاب لمناقشة أهمّ وأبرز الآراء العربيّة والغربيّة، التي تناولت هذين المصطلحين. ثم انتهي إلي ترجيح رأي يقول: إنّ الحضارة الإنسانيّة واحدة، ولكن الثّقافات متعدّدة؛ فالحضارة تُجسّد ذروة التّفاعل بين ثقافات وجماعات مختلفة، دون أن تنتمي إلى ثقافة واحدة، كما أن وحدة الانتماء الحضاري، لا تعني نفي التّعدّدية الثّقافيّة بقدر ما تُغنيها وتُغذّيها بقنوات ووسائل جديدة بهدف التّفاعل والتّواصل، وصياغة القواسم والأهداف والمصالح المشتركة.

وفي هذا الإطار، تناول الفصل الأوّل، من الباب الأوّل، أهمّ محرّضات ولادة نظريّة "صدام الحضارات"، ومن ثمّ التّركيز على الفرضيّة الأساسيّة التي بُنيت عليها تلك النّظريّة، والمتمثّلة في أنّ الثّقافة أو الهُويّة الثّقافيّة (والتي هي في أوسع معانيها الهُويّة الحضاريّة) هي التي تُشكّل نماذج التّفكّك والصّراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.

وينصب الفصل الثّاني، من الباب الأوّل، علي التعريف بحوار الحضارات، مستعرضا أهمّ الرّوافد التي شكّلته،ّ وشروط نجاحه. وكذلك تحديد أبرز المعوّقات التي تعترض تحقيق شروط الحوار الحضاري النّاجح، وعلى رأسها العوائق الثّقافيّة، والعوائق السّياسيّة. وأيضاً، أهمّ ما ذهبت إليه بعض الأطروحات والنّظريّات التي نمت في البيئة الفكريّة التي شكّلتها نظريّتا "حوار الحضارات" و"صدام الحضارات"، مثل: "حوار الأديان"، و"تعارف الحضارات".

أما الباب الثّاني،من هذا الكتاب فقد اهتم بإبراز أهمّ التّأثيرات التي خلّفتها تلك الرّؤى والتّصورات في منظومة العلاقات الدّوليّة في حقبة "ما بعد الحرب الباردة". كذلك يدرس المؤلف، في الفصل الأوّل، تأثير تغيّرات السّياسة الدّوليّة في البيئة التّنظيريّة لعلم العلاقات الدّوليّة، وكيف حرّضت الأحداث الجسام، مثل الحربين العالميّتين، على ولادة منظورات جديدة تهدف إلى تحليل تلك الأحداث وتعليلها ومحاولة التّنبّؤ بمستقبل الوضع الجديد الذي خلّفته تلك الأحداث. وأعقب ذلك، تبيان دور منظور "صدام الحضارات" في ترسيخ "البعد الثّقافيّ لعلم العلاقات الدّوليّة" وتغيير طبيعة مفهوم "القوّة"؛ فجعل من "الثّقافة" (وهي في أوسع معانيها "الحضارة") العنصر الفاعل والأهم في منظومة العلاقات الدّوليّة الجديدة.

ويناقش الفصل الثّاني،من الباب الثاني التّأثيرات المتبادلة بين كلٍّ من ظاهرتي "الإسلامو – فوبيا"، و"العولمة"، من جهة، وبين نظريّتي "صدام الحضارات" و"حوار الحضارات" من جهة ثانية، وخاصّة فيما يتعلق بإسهام نظريّة صدام "الحضارات" في تقديم الأساس الأكاديمي الذي بُنيت عليه ظاهرة "الإسلامو- فوبيا"، وكذلك الدور الذي تقوم به "العولمة" في إضعاف الثّقافات غير الغربيّة؛ لتأكيد هيمنة الثّقافة الغربيّة.

وإن كان من الصعب هنا الانتصار أو الانحياز إلي رّؤى أو تّصوّرات دون غيرها، إلا أن الباحث محمد مرعي ينتصر إلي رؤية مفادها أن هنالك تعدّدية ثّقافات، بينما الحضارة الإنسانيّة واحدة. مشيرا إلي أن الحديث عن (الحضارة الإغريقية، أو الحضارة الإسلاميّة، أو الحضارة الغربيّة... الخ)، يعني أنّ الثّقافات الإغريقيّة، أو الإسلاميّة... الخ، قد بلغت مرحلة الذروة من مراحل تطورها، واستطاعت بما تمتلك من عناصر القوّة وسمَ الحضارة الإنسانيّة في تلك المرحلة بسماتها الخاصّة، بحيث أصبحت هي الثّقافات الرّائدة للحضارة الإنسانيّة في تلك الفترات. ولكن ذلك لا ينكر تأثّر تلك الثقافة الرّائدة بالثّقافات السّابقة، أو المعاصرة لها.

ويمكننا القول مع "مرعي" إنَّ أحد أهم التَّأثيرات التي أحدثتها نظريّة "صدام الحضارات" في العلاقات الدّوليّة المعاصرة تمثّل في تغير مُعطى "القوّة"؛ فقد مثّلت كل من القدرة العسكريّة، والقدرة الاقتصاديّة، أساس قوّة الدّولة في المنظورات الكلاسّيكيّة؛ ولكن "صامويل هانتغتون" - في نظريّة "صدام الحضارات" – أدرك مبكّراً أهمّيّة التّطوّر التّكنولوجي الذي يعطي وسائل جديدة وفعّالة للسّيطرة الثّقافيّة على (الآخر)، فبدلاً من شن حرب عسكريّة باهظة التّكلفة، أو حصار اقتصادي قد لا يُحقّق الغرض المرجو منه، يتمّ إضعاف الدّولة عن طريق تدمير مجتمعها ثقافيّاً وتوجيه الرّأي العام فيها إلى ما تريده الدّول الأخرى. وأبرز الوسائل المستخدمة في إحداث التّغيّرات في مجتمعات وثقافات (الغير) تتمثّل في المؤسّسات المُصدّرة للتّدفّقات الثّقافيّة عبر العالم، من قبيل فيس بوك (Face Book) وتويتر (Tweeter)، وجوجل (Google)، ويوتيوب (YouTube)... .

والحقيقة أنّ عالم السياسة العالمية المعاصرة، ومنذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي (الواحد والعشرين)، يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى عالم الأقطاب المتعدّدة؛ بعد أن كانت "الولايات المتحدة الأمريكية"، ولمدّة عقدين من الزمن، الفاعل الأقوى، والقطب المهيمن على حلبة السياسة العالمية. وبذلك، تكون نظريّة "صدام الحضارات" قد صدقت في تنبّؤها، المبكّر، بحدوث هذا التحوّل الكبير في ميدان السياسة العالمية.

 

عبد السلام فاروق              

  

 

في المثقف اليوم