قضايا

حينما نحتار في رسم نهايات الحكايات

علي المرهجلكل حكاية نهاية كما يُقال، ولكن هناك حكايات خالية من النهايات، ولا أقصد هنا أن الحكاية لا نهاية لها، ولكني أعتقد أن هناك حكايات خالية من النهايات. القارئ والمُتلقي هو من له الحق في وضع النهاية التي يروم لها.

وحكاية العراق من هذا القبيل، فقد بدأت الحكايات في سومر، ولن تنتهي إلَا حينما يبتغي القارئ وضع نهايات لها.

فلكل حكاية بداية ونهاية، ولكن حكاية العراق لها بداية، إلَا أنها لا نهاية واضحة أو متصورة لها، ولا وجود لنهاية لها وفق نظريات فلسفة التاريخ والحتمية التاريخية.

بدأنا سادةٌ للعلم وللثقافة وللأسطورة وللحكاية في تصوراتها "الثيولوجية" والتاريخية، وصغنا الحرف، وصيَرنا الكتابة بأجمل ما تكون به، كتابة حروفية لا صورية، يتكثف المعنى فيها وتُختزل الصور، وتنطق آله الجمال والحب الأنثوي "إينانا" و "ديموزي" إله الحب والخير الذكوري، وخليلتها وأختها إلهة "الظلام" والعالم السُفلي "أريك شيكال"، وهناك إله للحكمة والمعرفة "نبو" إبن الإله "مردوخ" كبير آلهة البابليين، سيد الحكمة في الأرض والسماء الذي ورد في "أسطورة الخليقة البابلية" أنه قضى على كل الآلهة الذين سبقوه، فخلق بعض أجزاء من الكون والكواكب، ليُجسد فعل الإله الخير الباعث للأمن والطمأنينة مُحارباً عوالم الشياطين والأرواح الشريرة.

وخارج هيمنة المخيال الأسطوري وفي خضم صراع الحياة الواقعي بوجد ونقد لما وصل إليه الحال العراقي، فلا الكلام في "الميثولوجيا" فيه ترميم وبناء لخراب النفس، ولا في إستعادة بهاء "بيت الحكمة" العراقي أيام المأمون يُطيب العقل ويُرمم الذات التي خربتها الأنظمة وحروبها المُستعرة.

ولكني أطنب وأطرب في الخيال وعطايا الأمل والبعد عن السجال. حالم أرتجي بناء وطن تشظى ومواطن تلظى، وما عاد في الرجا والمُرتجى، سوى الحُلم وبقايا الأمل، في أن ينفض طائر العنقاء "الفينيق" ركام تاريخ التمذهب ليخرج من رماده طائر ذهبي لا مُتذهب، يخترق تاريخ العنف العراقي، ليُعيد مجد تاريخ كله ألق، كاد أن يضيع لولا بقية فينا من كبرياء جموح طائر الفينيق الذي شق أفق السماء في كبريائه، فاختط طريق له كله ألق، فبانت شمس عراق أصيل، نخيله سامق وسعفه شعاع هذي الشمس وبعض ما فيها فلق، هو الصبح ينشق من ظلمة الليل الذي عشنَا كثيرُ منه ساعة الشفق، وقد رأينا بعض من ملامحه، حُمرةٍ تظهر في الأفق، حينما بدى لنا أن شمس العراق قد غربت، فعادت لتنهض من جديد لتُغادر ظُلمة الليل أوساعة الغسق.

وبدت تربو عيون عراقية نحو الصبابة، فيها بعض عطايا الأمل الجديد، بعد الخلاص من "داعش" وسياسة النار والحديد، التي بدى نجمها يعلو مع الولاية الثاني للمالكي، وتجسدت بأجلى صورها مع هيمنة "داعش" الذين أذاقوا الناس في المناطق الغربية، ليس فقط "النار والحديد"، بل بكل غضب "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر" بإسم الله وسعير ناره و"الوعد والوعيد".

وبعد لأي وجد واجتهاد وتضحيات النساء العراقيات اللواتي لا يُحسنن سوى تقديم أولادهن أضحيات وقرابين من أجل أن ينعم الخائبون أمثالنا وساستنا وأولادهم برغيد العيش، وهن صابرات مُصدَقات يُقدَمن أولادهن فلذات أكبادهن أُضحيات لوطن نسرح ونمرح به نحن والساسة والشيوخ من رجال الدين "وعاظ السلاطين" الأوغاد.

فكان جزاءُ المُضحَين بيوتاً من صفيح، أو مساكن عشوائية، لا مقوم للحياة فيها سوى القبول بأرذل السُكنى ومهانات العيش الذي لا كرامة فيه إلَا للذين صفقوا وهللوا لقادة أحزاب الأسلمة وبهم صدقوا، وغيرهم لا عيش له ولا كرامة، و كرامته تُمتهن بمجرد خروجه عن وصايا الجمع في القبول بالتصفيق لمن صفق له سادته في بيوت الصفيح الذين تسيدوا عليهم بفرط إنتكاستهم ونكوص رؤوسهم أمام أسيادهم.

في ضوء ذلك لك الحق في أن تضع النهايات وتتصورها وفق حالك وحاجتك، فإن كان حالك ممن يطيعون، فالحال على أفضل مما يُرام، وإن كان الحال ال يُناسب الحاجة، وفق مُقتضيات العيش السليم، فالحال لم تزل نهاياته ليست قابلة للوصف ولا مجال فيه للإمعان في السرد لإستكمال النهايات، فلا نهايات تُكتب في عالم لا زال في طور البدايات وجمال الهيام فيها وإستمرار العشق في أوسطها سعة إبداع وصناعة "عصر ذهبي" أينما تمطر الغُمامة، فخراجها يعود للمركز "بغداد" التي منحت للشمس رفعتها وبقيً وريق عمرها أخضر، وإن تهاوى صرحها حُطما.

ويقول الجواهري: نحن الذين أعرنا الكون رفعته

لكنما الدهر إقبالٌ وإدبارُ

ويقول عبدالرزاق عبدالواحد:

صبر العراق صبور أنت يا جملُ

وصبر كل العراقيين أنت ياجملُ

وقد غنت أم كلثوم "رحمها الله"إنما للصبر حدود" بكلمات عبدالوهاب محمد وألحان الموجي.

"وأهي غلطة ومش ح تعود

ولو إن الشوق موجود

....

أنا فاض بيه ومليت

وكما أعتقد أن للصبر حدود عند العراقيين وستثور ثائرتهم، ولن تُبقي ولن تذر وستقضي على الأخضر واليابس في حال لم ولن ينتبه صُناع القرار في الحكومة العراقية إلى ما وصل إليه الحال من خراب وفساد في كل مناطق العراق: الشمالية والغربية والجنوبية.

وتبقى الحكايات خالية من النهايات، أو أن نهاياتها مُلك لك سيدي القارئ، فلك أن تضع الصبر نهاية لها، ولك أن تضع الحزن وصفاً للنهايات، ولا نهايات من دونك، فلربما فيك بعض أو كثير من تفاؤل لتضع لنا نهايات لحكايات عراق الفرح الذي حلمنا ولا زلنا نحلم بوجوده وهو يستحق أن يوسم بأبهى آيات الأمل والفرح، ولك سيدي القارئ أن تكون جزءاً من حكاية وطن، فيه ألم وحزن، وفيه بقايا فرح ورثناه من عصر إنسانية بدأ تاريخ بنا، ولربما نحن من سيكتب له نهاياته، أو سنعلن بدايات عصر جديد يبتدأ بنا، لحظة نهاية أزمة صراع أثني على وطن، وتقبل لتنوع لى أرض الوطن ذاته، ولكنه عود على بدء، عود لقبول تعايش وتثاقف حضاري، بدأ بسومر، وإستمر ببابل، وبان ببيان معماري وحضاري مُتراص في آشور، وتوسطته بغداد ونينوى والكوفة والبصرة، حاضرات لا نهاية ولا مُنتهى ولا قُدرة لنا ولغيرنا على رسم النهايات لها، لأننا نحار في رسم نهاياتها.

 

 

في المثقف اليوم