قضايا

رسم المعنى في حديث النهايات

علي المرهجإستخدم علي حرب مصطلح "حديث النهايات" ليُشير به لأفاعيل العولمة التي نقلتنا لعوالم "الأثيري" أو "الإفتراضي"، الذي خلقته تقنيات الإتصال، لنتجاوز به عوالم التطابق مع الواقع الذي إنشغلت به الفلسة العقلية والمثالية منذ إفلاطون وحتى هيجل.

الحقيقة اليوم في عالم ما بعد الحداثة هي ليست ما نعرفه، بل ما نختلقه من عوالم إفتراضية، ربما يكون في بعضها ـ هناك ـ إمكانية لتحققه في الواقع اليوم، أو لا تكون هناك إمكانية لتقبلنا له وفق منطق التطابق والمُشابهة، ورغم أن مثل هكذا فكر هو الأكثر حضوراً وفاعلية اليوم، لكن تحديات تحولات ما بعد الحداثة زعزعت مُرتكزات هذا التحجر الفكري، فصار كثير منَا اليوم لا يبحث عن تطابق "المفهوم" مع "الماصدق" بحسب المنطق الأرسطي، وبحسب السائد من الفكر بتحولاته المعرفية وثوراته التقنية والإعلامية والجينية، لإن شكل التفكير اليوم يقوم على التحويل، والنزوع نحو رفض التطابق مع الأصل، سواء أكان موضوع المُطابقة نصاً نبوياً أو قولاً فلسفياً، أثراً تراثياً أو عملاً منقولاً. (حديث النهايات/185ـ186).

ولا أبغي هنا شرح رؤى علي حرب، رغم ما ما فيها من حمولات معرفية لها مقبولية عند البعض، ورفض عند آخرين.

ولكننا نعيش اليوم فعلاً "حديث النهايات"، فمع فوكوياما عشنا حديث "نهاية التاريخ" الذي إستمد أصوله من هيجل، الذي جعل من وعي الروح بحريتها، إيذاناً بنهاية التاريخ، وهذا الوعي لا يتحقق بحسب الفهم الهيجلي إلَا حينما ينسجم أو يتوافق الروحي مع الواقعي، أو العكس.

مع ماركس كان "حديث النهايات"، حديث عن دفاعه عن طبقة "البروليتاريا" وتمكنها من الهيمنة على وسائل الإنتاج من خلال نضالها المستمر للخلاص من الطبقة الأرستقراطية التي لا تُحسن سوى الإستغلال والهيمنة على الموارد الاقتصادية و "فائض القيمة" الذي هو من حق "الشغيلة"، ومن يرسم المعنى هم هذه الطبقة المُضطهدة التي عانت من الطبقة الرأسمالية التي لا هم لها سوى تسمين الكروش وإدامة العروش.

كان لنيتشه رؤيته في "نهاية التاريخ" وأسطورة "الإنسان السوبرمان" الذي يُعيد إنتاج القيم، أو ما سُمي حسب فلسفة نتشه "إنقلاب القيم"، وهو نزوع وجودي عند نتشه، صير التاريخ في فلسفته تخليقاً لكل مُقتدر أو قادر، يستطيع بناء معيار أخلاقي جديد خارج نظام القيم التقليدي الذي صنعته وكيفت الناس لأجله الأخلاق المسيحية، التي هي عنده لا تعدو أن تكون سوى أخلاق للعبيد في ضعفهم وتخاذلهم، ولا تليق بإنسان يروم رسماً للمعنى وللوجود والمعرفة والأخلاق، وفق فلسفة نيتشه، ذلك الإنسان الذي لا يستكين ولا يهدأ، إلَا بصناعته لحُريته خارج هيمنة المُقدس الديني "المسيحي" فاللاهوت الديني الذي يُعلم الخضوع والطاعة لا وجود له في مُعجم نيتشه الفلسف، لأن "الله قد مات" عنده إن كان الإله هو ذلك الذي صيَره رجال الدين المسيح على أنه ضد الناس إلى جانب سادة لا قِبل له للعبيد.

تصور "دانيال بيل" في كتابه "نهاية الأيديولوجيا 1960" أنها هذه النهاية مرهونة بالخلاص من هيمنة الرؤى الشيوعية، وأن نجاح الأمم مرهون باتباعها لنظم المُجتمع الرأسمالي، فهو من له القُدرة على رسم المعنى وخط طريق أقصر لنجاح البشرية، وذلك ما جاء به "فوكوياما" وسار على نهجه، حينما نظر إلى الرأسمالية بوصفها ناظاماً اقتصادياً، ولليبرالية بكونها رؤية أنجع لحل مشكلة النهايات لشعوب العالم الغربي والشرقي على حد سواء لأنها رؤية تمكن مُنظروها من ربط ما هو عملي بما هو نظري، فبات مكنتها في النجاح في دنيا الواقع، وبالتالي فلا بد مما ليس له بُد من أن تعترف كل الأمم، غربية وشرقية، من أن الليبرالية الأمريكية قد "تتوجت عرش العالم" وهي إعلان لـ "نهاية التاريخ" ولا يعني ذلك توقف لأحداثه "التاريخ"، ولكنه سيسير وفق نمط إختطته "الليبرالية" التي جاءت مُتطابقة وفق رؤى وممارسات ليبراليين أمريكيين في الفلسفة، والسياسة، والاقتصاد، فلا رسم للمعنى خارج هذه المنظومة، سواء قبل من قبل أو رفض من رفض، لأن التاريخ لن يكون إرتكاسياً، ولا تراجع فيه، إلَا حينما يحلم السلفيون أنه كذلك.

الحُلم مُحرك لبعض الرؤى، وهو من مُحركات الوعي عند السلفيين ممن يؤمنون بـ "حديث النهايات"، ولكنه حديث لا يسير ولن يقبل بمُتغيرات العصر، إنه حديث حول نهايات مُسجلة في "اللوح المحفوظ" الذي لا مكنة لنا نحن البشر في التحكم به أو تغييره، ولكن السلفيين لهم مقدار ومقادير في الحديث عن الإستمكان والقدرة على التغيير، على قاعدة "وكم من فئة قليلة غلبة فئة كثيرة" والتاريخ لهم ضامن ورصيد نجاح لا يُتاح لمن خالفهم في القُدرة على توظيفه، وتوظيف كل مكنون النص وطاقات السماء لصالحهم، فهم الكُهان، وسدنة الحقيقة، وسُقاتها، وتباً لمن خالفهم، ممن لم يرغب بُسقيا ماء "زمزم" "الحقيقة" ورام السُقيا من ماء جهنم "الضلال"!!. فمصيره جهنم وبئس ذاك المصير!!.

وعند كل من السنة والشيعة هناك حديث عن النهايات، وإن إختلفا في رسم المعنى سُبل الوصول لها، فعند السنة يكتمل "حديث النهايات" حين الإيمان بمُهدي الأمة الذي يولد من سُلالة النبي مُحمد بعد نهاية الزمان بمُسمى النبي "مُحمد"، يُهدي الأمة لطريق الحق، بعد أن مُلأت جوراً وعدوانا، وبه يكتمل رسم المعنى وننكتفي بـ "حديث النهايات".

ولا يختلف الأمر كثيراً عند الشيعة حول أصل "الإمامة" في الهداية والخلاص من الجور، بعد ظُلم مُستدام، فيما يخص تسلسل الإمامة مع بني فاطمة وسُلالة الإمام علي، ولكن ليس مع إبنه البكر "الحسن"، بل تستمر السُلالة من صُلب ابنه الثاني "الحُسين"، الذي خرج لمُحاربة يزيد الذي خلف معاوية، كي يُصلح ما خربه الأمويون في أمة جده، وسيتمر سعي سلالة علي في الرغبة في الإصلاح لحين ظهور الإمام الثاني عشر "مُحمد المهدي" إبن الإمام الحادي عشر "الحسن العسكري" الذي سيكتب نهاية "حديث النهايات" حينما سيظهر بعد غيبة كُبرى، وهو مُرتجى الشيعة ومطمحهم، لينالوا رفقة إمامهم الحي "القائم" "المُنتظر"، ليرسموا المعنى وليكتبوا "حديث النهايات" الذي لا نهاية له على ما يبدو إلَا مع نهاية وجود بني البشر على هذه الأرض، وسيبقى لرسم المعنى في "حديث النهايات" تشويق وهيام في عوالم الغيب لإستحضار المعنى، وكتابة نهاية لا إقناع فيها لمن يرغب بحكايا "حديث النهايات" التذي يشبه الحديث عن "تنين" أو كائن خارق، مثل "الثور المُجنح" فيه كل مزايا القظة التي سجلتها لنا الأساطير، وبعض من مزايا الإنسان الطبيعي في الرغبة في نشر المحبة بين بني البشر، وإن إختلفوا في التنشأة القومية أو الدينية، أو المذهبية. إنه بطل من أبطال افلام هوليود الأمريكية، مثل "السوبرمان"، أو "البات مان" أو "زورو"، أو "سبيادر مان"، وربما هو بطل من الأفلام الهندية "بوليود"، "أميتاب"، أو "دارمندر" أو "جيتندر" أو سلمان خان" أو "شاروخان"، ممن يرسمون معناً للحياة خارج المألوف من حياة البشر، داخل المُتمنى مما نبتغي.

إنهم يرسمون المعنى ويكتبون "حديث النهايات" بما بحلم خارج الواقع، لكنهم يرسمونه على تخومه، كي لا نُغادره، أي لا نُغادر الواقع، وسنبقى في "حديث النهايات" نعيش على تخومه، لسنا حالمين فقط، ولكن فينا من بعض بقايا القوة في الرفض ما يصنع حديث لنهايات حُقبة وبدايات حُقبة تأسيسية لبناء مُجتمع أفضل.

  

في المثقف اليوم