قضايا

من سرق منا حلم التغيير

قبل عقد ونصف حلم العراقييون جميعاً وباستثناء قلة قلية منهم كانت لها مصالح مرهونة باستمرار النظام الدكتاتوري القمعي انذاك ولا استثني من كلامي هذا عن فرحة التغيير حتى قطاع واسع من المنتمين الى الحزب الحاكم والاجهزة الامنية والعسكرية على وجه الخصوص. اذ كان جميع العراقيين وبمختلف مكوناتهم متضررين من استمرار وجود النظام السياسي القمعي وبخاصة في عقده الاخير. صحيح ان الضرر كان على درجات فقد نال الكرد والشيعة ولاسباب منها نمط العلاقات الاجتماعية البطريركية الذي انعكس على بنية السلطة السياسية منذ تشكل الدولة العراقية الحديثة، ومنها سياسية اقليمية وشكل العلاقات الخارجية لسلطة الحزب وحكومته ولا اقول الدولة (فمفهوم الدولة أوسع وغير متحقق في بلداننا العربية). من منا لا يتذكر سنوات العجاف ايام الحصار الاقتصادي الذي طال ضرره كل العراقيين وبخاصة الطبقة الوسطى. من منا لا يتذكر كيف كان العراقي مهان وهو يفترش بسطيته في الساحة الهاشمية في عمان ليعيل عائلته بحفنة من الدولارات يعزز فيها دخله المتهالك. من منا لا يتذكر حالة الرعب وهو يجتاز السيطرات الامنية في منفاذ الحدود. من منا لا يتذكر القرارات المهينة للانسان والتي منها حبس ومصادرة كل من كان يخفي لدية كيس حنطة لم يسلمه للدولة.

من منا لا يتذكر مآسي الحرب الايرانية وقوافل الضحايا. من منا لا يتذكر حالة اليأس والخوف وهو يوع اهله ملتحقاً بجبهة القتال وهو يعرف ان الموت بأنتظاره وربما هذه الرؤية الاخيرة لعائلته. من منا لم يحلم أن يكون مثل كل خلق الله له بيت يملكه وجواز سفر تستقبله كل بلدان العالم، وللاسف اقول مثل كل خليجي. أنا واحد من بين اغلب العراقيين مازالت ذاكرتي وقادة اتذكر كيف كنا نخطط في الليل مع العائلة لإخفاء عدد من اكياس الحنطة بدفنها بحديقة المنزل كي لا تقع بأيدي جلاوزة السلطة. اتذكر ذلك البعثي المسكين وهو عضو فرقة وكان مدرساً ومدير ثانوية هيت يحمل بندقيته طوال الليل يقف حارساً في الحي الصناعي وهو بعمر جاوز الستين السنة. لا أعتقد انه كان سعيداً بحالته هذه، ولكنه كان مثل (بلاع الموس) حسب المثل العراقي. اتذكر كيف كنا نستأجر بيتاً فقيراً بائساً في الكفاح ونحن خمسة اساتذة في الجامعة لا نستطيع ان نستاجر بيتاً لائقاً. اتذكر السجن وابو غريب والحبس الانفرادي اتذكر عند اول سماعي بنشوب الحرب مع ايران بعد خمسة ايام من وقوعها حيث كنا بالسجن المغلق فيه المقطوع عن العالم. اتذكر فلاح عاكولة وجمهوريته المستقلة ويتذكرها معي كل من ذاق عذابات ابو غريب. اتذكر ... واتذكر .. ويتذكر معي كل العراقيين الذين عاشوا تلك المرحلة المرعبة. وكنا نحلم حينها بالتغيير الذي صار قاب قوسين في بدايات هذا القرن. كنا نتناقش ونختلف في آلية حصوله. كنا نقول هل أمريكا جادة؟ وهل في هذا التغيير تحقق لأحلامنا؟. وأنا كنت من المقتنعين إن حصل هذا التغيير سيكون لصالح العراق والعراقيين. مع علمي أن امريكا تسعى لمصالحها وهي ليست جمعية خيرية تحركت لسواد عيون العراقيين ولكونها دولة راعية للحريات ومدافعة عنها؟ ولكني كنت مؤمناً ان لا امل بتغيير الحال إلا بتدخل خارجي. وإن هذا التدخل ومن اية جهت كانت هو آني وسيفتح امكانات التغيير امام العراقيين ولن تكون خسارتنا وبالمجمل اكبر من خسارتنا في دوام الحالة السابقة. كنا نحسبها حسابات مصلحة وطن تتجسد مصالحة بمصالح مواطنيه لا بحسابات الموقف السياسي الذي يحسب للتاريخ حسابه لا حساب مصلحة المواطن والوطن.

لنعود الى عنوان مقالنا. من سرق منّا حلم التغيير؟؟. سؤال بحجم مأساتنا ... مصيبتنا التي فاقت وتجاوزت مصائبنا السابقة قبل التغيير. من حول حلم التغيير الى شوارع مقطعة مسكونة بالموت والقاذورات ؟؟ من حول حلم العرقي بالعيش في كرامة داخل وخارج وطنه الى مدن مهدمة وعوائل مهجرة؟ من حوّل الوطن الى مستوطنات تهجير لا كرامة للانسان فيها؟؟؟. من حول حلم التغيير الى رعب يطارد المواطن داخل بيته، والخوف من جيرانه؟؟. من قتل فينا حتى الحلم بحياة تشبه حياة اغلب البشر؟؟. من غيب العراق وحضّر اشلائه؟؟

اليست كل بلدان العالم فيها اثنيات ومتعددة الاعراق ؟؟. إذاً لماذا يصر ساستنا ومن ورائهم الاعلام ومؤسساته بوصفنا مكونات لا مواطنين ؟؟. لماذ نحن الوحيدين (ولا يشبهنا في هذا الشقاء إلا لبنان) لدينا احزاب مكونات لا احزاب سياسية معبرة عن مصالح شرائح اجتماعية عابرة للاثنية؟؟. لماذا غاب الافندي الحلو ابو سدارة من شوارعنا وبرامجنا الاعلامية وحظرت وجوه لا اتجرأ حتى بوصفها مخافة ان يعلم اصحابها القصد وينالني منهم ما نال غيري؟. لماذ غاب عنا شخصيات ثقافية مثل علي الوردي وظهرت شخصيات نتعجب حين نسمعها تُحّسن الكلام؟ وجوه ما كان لها ان تحضر في ابسط المجالس الشعبية، تتسيد المشهد السياسي والثقافي والاعلامي.

لا اريد ان اتحدث بلغة المؤامرة وانقل الاسباب الى قوى خارجية اقليمية أوعالمية فهذه دول ومن منطق العلاقات الدولية البحث عن مصالحها. ولا يعنيها أمر العراق والعراقيين وهي ليست كما قلنا جمعيات خيرية تسعى لمرضاة الله بل تسعى لمصالحها فقط. إذا لنتفق على أن السبب الاساسي الذي اغتال حلمنا بالتغيير هو داخلي بالدرجة الاولى. لا أمريكا والصهيونية ولا السعودية وايران وتركيا ولا سوريا. إن كل الذين ساهموا بخلق الفوضى وإلاحتراب الداخلي بين مكونات الشعب العراقي هم عراقيون ولا كان بامكان اي اجنبي يدخل بغير رضى ومساعدة عراقيين من الداخل. هذه ايضاً بديهية يجب أن نتفق عليها إذا ما اردنا ان نحدد وبصدق المسؤول الاول عن اغيال حلمنا بالتغيير. ولنتفق ايضا ولا أظن ان احداً يخالفني الرأي (إلا من له علاقة بهذا الخراب) ان اكثر من 95% من العراقيين هم ضحايا ما يجرى وغير سعداء بالذي يجري حتى وإن لم يصبهم ضرر مباشر فلا احد يتمنى أن لا يكون بيته في حي من احياء دبي وعمان المدينان اللتان كانتا تحلمان أن تكونا قرينتين لبغداد وأن يكون لديه جواز تستقبله كل سفارات العالم. وينظرون اليه بحسد حين يمشي في شوارع لندن وباريس مثلما كان العراقي قبل اكثر من خمسين سنة. لا احد لا يتمنى ان يجد فرصة تعليم جيد لاولاده وان لا يفكر بالسفر حين يمرض. من المؤكد أن 95% من العراقيين هم يحلمون بكل هذا واكثر. إذا هل 5% هي فقط مسؤولة عن مأساتنا. نعم لا يتجاوز المنتفعين من خراب بيوتنا أكثر من ذلك وهم لا تعنيهم احلامنا هذه كونهم يعيشون خارج العراق وكل مصالحهم خارج الحدود والعراق بالنسبة لهم ليس أكثر من مكان عمل يدر عليهم الرزق الوفير ولا يتواجدون فيه إلا حين يحين أوان الحاصل. هؤلاء هم من استغل جهلنا وغفلتنا وجعلوا منا مللا واشياعا ووظفوا كل علامات التاريخ ترسيخاً لانقسامنا وصاروأ ائمة لهذه الملل يتحدثون بأسمها ويدافعون عن مصالحها. وهنا ومن واجب التوضيح اقول لا نعني بكلامنا كل من كان مهجراً قبل التعيير وعاد بعده فهم مثلنا من ضحايا النظام السابق ولكن اعني كل السياسيين الذيين يتحدثون باسم المكونات لا المواطنيين وكل من كانت له يد في ترسيخ نظام انتخابي لا يمكن أن يخرج قوى سياسية معبرة بحق عن مصالح كل العراقيين وأشدد على عراقيين لا كرد ولا عرب لا سنة ولا شيعة. ويعلن صراحة على نجاعة هذا النظام الانتخابي الذي صمم بما يسمح بسرقة اصوات الناخبين ويسمح بصعود اشخاص لم يحصلوا على اكثر من خمسة آلاف صوت الى قبة الرلمان. أن كل من يصر على استمرار الحال هو سارق لحلمنا بالتغيير. المشكلة هي ليست اسلاميين وعلمانيين أو مدنيين ولا المشكلة هي مشكلة فساد مالي او اداري كل هذه هي مشكلات ناتجة عن المشكلة الاساسية وهي بنية نظامنا السياسي الذي عجز حتى عن تحديد حتى مفهوم الهوية العراقية. وفي الختام اقول : أن كل من لا يعترف بالعراقية هوية وطنية تشمل كل العراقيين القاطنين داخل حدود هذا الوطن ويحملون جنسيته يأكلون من خيراته ويتحملون مصاباته هي الهوية العراقية ويستبدلونها بهويات اخرى قومية أو دينية هم المسؤولين عن سرقة حلمنا بالتغيير.

 

فوزي حامد الهيتي

 

 

في المثقف اليوم