قضايا

القُمُّص وباولو كويللو.. معركة اليوم العالمي للمرأة

عبد الله الفيفياشرأبَّ أحد القَمامصة المشلوحين، متشنِّجًا، في يوم المرأة العالمي- وهو يثير العَجَاج في وجه الإسلام، عجاجًا استنشقه من سلفه في التراث، ويستنشقه عنه من تلاه، ثمَّ مَن تبعهما بحرب دِينيَّة إلى يوم الدِّين- مستشهدًا بالآية القرآنيَّة: (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...)، [سورة البقرة: 223]، في معرض الطعن في مكانة المرأة المدَّعاة في الإسلام، وصاح:

- كيف تُجعل النساء مجرد حَرْثٍ للرِّجال، فهنَّ كالأرض التي تُداس وتُحرث وتُبذر وتُستغلّ؟!(1)

فاشرأبَّ من ورائه طرزان الرواية العالمي (باولو كويللو)(2):

- عن مكانة المرأة في المسيحيَّة حدِّثنا، أوَّلًا، يا «أبانا الذي في قناة الحياة»! أمَّا أنا فسأحكي لكم عجبًا، في المقابل، وسأنوب عن المسلمين في فُتْيا قُمُّصِنا المشلوح. فأيُّ ذكوريَّة ترمي بها الإسلام، سيادة القُمُّص، وبيتك من زجاج الذكوريَّة المعشَّق؟! أين (مريم) من أقانيمك الذكوريَّة الصِّرفة؟ ألم تُجرَّد من أيِّ مكانة، واقتصرت الكراسي على: الأب والابن والروح القدس؟ فليس للأنثى مكانة البتَّة، لا في الملكوت ولا على الأرض، وإنما هي وسيلة، ووعاء إنجابٍ لأعلام السلطنة، بل للآلهة وأبنائها، بحسب اعتقادك، أيُّها القُمُّص المكرَّم؛ لتتوارى المرأة من ثَمَّ خلف الكواليس، بعد أداء وظيفتها المرسومة، إلَّا من بعض الرسومات على جدران الكنائس. هي مجرد «وليَّة»، من «الولايا»، و«الولايا»، كما ذكر العلَّامة (عادل إمام)، في «مدرسة المشاغبين»، جمع «وليَّة»، والوليَّة هي التي «تولول على زوجها لمَّا يموت»، أو تولول على ابنها لمَّا يُصلَب، لا فرق! وفي رواية أخرى، الوليَّة: البرذعة، أو شِبْه البرذعة، أو ما يُجعل تحت البرذعة من كساء.

فسمعهما (أبو الطيِّب المتنبِّي)، خارجًا من عجاجته ضُحَى ذلك اليوم، فتنحنح:

- صدقت، يا أخا (البرازيل)، وأنا القائل:

وأُسقِطَتِ الأَجِنَّةُ في الوَلايا ** وأُجهِضَتِ الحَوائِلُ والسِّقابُ

فتدخَّل هنالك الإمام العلَّامة (عادل إمام) في الحوار:

- لا تُفْتُوا عنِّي وأنا ما زلت على قيد الحياة، فأنا ابن بجدتها! نعم، هكذا أُطلِق على المرأة في اللهجة المِصْريَّة، التي حفظتْ لنا هذا التقييم المجتمعي لمنزلة المرأة «الوليَّة»، كما شرحتُ ذلك مستندًا إلى (الزمخشري)، بوصف المرأة شيئًا موطوءًا، ووسيلة تَنَعُّمٍ للراكب، لا أكثر، في واقع الأمر، لا بمعنى أن لها ولاية، لا كُبرى ولا صُغرى. إنها المرأة في عالم العُربان، يا قوم. والمرأة حكاية رهيبة في عالمهم، حتى الليبرالي المدَّعِي منهم، تنحصر ليبراليته في شؤون المرأة لتحريرها من ثيابها، وبخاصَّة إذا كانت من نساء الجيران، لكنها لا تمتدُّ إلى شؤون المجتمع الأخرى، أو شؤون السياسة، أو التحضُّر. بل إن هؤلاء في المُلِمَّات يُظهرون من الأمَّعيَّة والاصطفاف والسير في ركاب القبيلة، ما لا يستسيغه سواهم. المرأة حكاية الحكايات كلها في عالمهم. لذلك تراها تُستدعَى في الخصومات للمعايرة، ففلان هو «ابن فلانة»؛ لا لأن فلانة فيها ما يُعاب، ولكن يكفي أنها امرأة، واسمها معروف. وقد بات ذلك يُستنجَد به حتى في الخطاب السياسي العربي ضِدَّ من عُرف اسم أُمِّه، ويا للعار! بل بلغت عبقرية الشتيمة العربيَّة في بعض المجتمعات العريقة في حضارتها- كمجتمعنا المفاخر بأن تاريخه يعود إلى آلاف السنين، مع أنه ليس بتاريخه في حقيقة الأمر- إلى شتيمةٍ مبتكرةٍ على مستوى الشتائم العالميَّة، تستأهل براءة اختراع، هي: «يا ابن المَرَة!» أنْ تكون ابن امرأة فهذا كافٍ لمحق كرامتك، وكأن هناك من هو «ابن رجل» فقط! وما أظنها مَرَّت على البشريَّة حقبة أكثر انحطاطًا أخلاقيًّا من هذه.

- (باولو كويللو): هذا يحيلنا إلى أُسطورة (باندورا) الإغريقيَّة، وجرَّة أشرارها وشياطينها.(3)

- (القُمُّص المشلوح): دعوكم من اللفِّ والدوران؛ فأنْ تُجعل المرأة حرثًا للرجل تلك غاية الإهانة!

- (باولو كويللو): قل لي: أيُّ الحرثَين أدعى للانتقاد هنا؟ أ حرثٌ يصوِّر الابن وقد أصبح إلاهًا لأُمِّه، وللعالَمين أجمع- ومَن سوَّلت له نفسه أن يُخرِج رأسه عن صندوق هذا المعتقد، حتى من أتباعه أنفسهم، هرطقوه، نافين عنه الاستقامة (الأرثوذكسيَّة)- أم حرثٌ يعنى الإخصاب البيولوجي الطبيعي، كما هي سُنَّة الحياة؟! إنَّما هي، إذن، النظرة الذكوريَّة الانتقاصيَّة للأنثى: بتحميلها عبء عذريَّتها، وعبء ما يخدش عذريَّتها، ومِن قَبل ومِن بَعْدُ تهميشها كلِّيًّا، ناسوتيًّا ولاهوتيًّا، وإنْ كانت العذراءَ أُمَّ المسيح! وهذا التهميش للمرأة، للأُمِّ العذراء، صاحبة التضحيات الأُولى، والمبتلاة الصابرة قبل المسيح، وفي حياته، ومن بعد وجوده، هو ما دفعني إلى الدعوة إلى تأنيث الكاثوليكيَّة بعد ذكوريَّتها، وذلك باعتماد ثالوث جديد، هو: (الأُمُّ، والابن، والروح القدس)، بدل (الأب، والابن، والروح القدس)!(4) في حين تبدو صورة (مريم بنت عمران) في «القرآن» نموذجًا إنسانيًّا مشرقًا جدًّا، يُضرَب مثلًا عاليًا للبشر؛ ما «المسيح عيسى بن مريم»- (الإنسان، لا الإله)- إلَّا ابن رحمها المحصن، وإليها انتسابه، لا إلى سِواها، وعليه مديونيَّة فضلها، بوصفه ثمرةَ عظمتها وطهرها، وطفلَها الذي إنَّما كان يَلْهَج بالتقرُّب إلى الخالق ببِرِّه إيَّاها، لا بسيادته الألوهيَّة عليها. فأيُّ الحرثَين أدعى للانتقاد؟!

 

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

.........................

(1) كأن غير المسلمين، من وجهة نظر القُمُّص ومَن على نهجه، على سراطٍ مستقيم. وهذا النموذج يكشف في المحصِّلة أن الحكاية أبعد عن مسائل العقائد والأديان وحبِّ الله والدعوة إليه، وأنأى عن قضايا التبشير والكِرازة، وإنَّما هي الحرب الدِّينية السجاليَّة!

(2) هو الروائي البرازيلي المتكثلك- وإنْ كان يبدو عربيَّ الهوى، إسلاميَّ التصوُّف، كما عبَّر من خلال روايته «الخيميائي»، أو مقدِّمته لسلسلة رواياته الصادرة بالعربيَّة. والإشارة هنا إلى مقدّمته المنشورة في مستهل (الخيميائي، ترجمة: جواد صيداوي، تدقيق: روحي طعمة (بيروت: شركة المطبوعات، 2008)، ص9- 12)، حيث حديثه عن قصَّة (الصوفي المسلم حسن)، الذي ذكر أن أبرز معلِّميه في الحياة ثلاثة: لِصٌّ، وكلبٌ، وطِفلٌ، وتأكيد ارتباط الروائيِّ هذا بالثقافة العربيَّة والإسلاميَّة.

(3) (باندورا): أَوَّل امرأة وُجدت على الأرض، حسب الأُسطورة الإغريقيَّة. لمَّا سرق (بروميثيوس) النار، إشفاقًا على البشر من بردهم وأكلهم نيء الطعام، أراد (زيوس) الانتقام منه؛ لأنه رأى في منح البشر النار شرًّا مستطيرًا سيستخدمونها فيه، فخلق امرأة تتصف بالجمال والحُب، وبعض الذكاء، لها قلب كلب، ونفس لِصٍّ، وعقل ثعلب. لكن بروميثيوس استعصم، فيما هام بها أخوه (أبيمثيوس) حُبًّا. ثمَّ كانت هديَّة زيوس للعروسين جرَّةً مغلقة. أبى أبيمثيوس فتحها. لكن بندورا انتهزت غيابه ففتحتها، فانبثقت بأرواح الشرِّ والظلام في العالم. فالمرأة، بحسب هذه الأُسطورة، أصل الشرور.

(4) انظر مقالًا قيّمًا حول باولو كويللو، لـ(سُلافة حجاوي)، بعنوان «باولو كويللو واستراتيجياته»، (مجلة الطريق، فِلسطين، عدد نيسان 2008).

 

 

في المثقف اليوم