قضايا

سبق عربي إسلامـي في صنع قلم الحبر

نور الدين صمودعُرف "القلم" منذ أقدم العهود، في جميع الشعوب، واختلفت أسماؤه في كل اللغات، وتنوعت أشكاله وأحجامه، فهذا بَرَى قلمه من خشب، وذلك اقتطعه من قصب، والآخر استلّه من ريش بعض الطيور، لذلك سمّي تارة باسم اليراعة أو اليراع، وهو من أسماء القصب، وسماه بعضهم الريشة لاتخاذه قديما من الريش، ثم أطلقوا على الجزء الذي يكتب به اسم الريشة من باب تسمية الجزء باسم الكل، وسماء بعضهم (المَدّاد) لأنه يمدّ الكاتب بالمِداد أي الحبر، عند الكتابة.

وقد ظلَّ القلم ملازما للدواة أو المحبرة عهودا طويلة يحملهما الكاتب في كمّه أو جيبه أو في محفظته... وكم لطخت تلك المحابر أثوابا وأريقت على دفاتر... ولم يكن الكتّاب القدماء ينعمون بما ننعم به نحن في العهود الحديثة من تنوّع الأقلام وصغر حجمها واستغنائها عن الدوايا أو المحابر، بحيث تُحمل في الجيوب بكامل السهولة وهي ذات أشكال مختلفة وألوان متعددة بحبر سائل أو جاف، حتى إنّه ليجوز لنا أن نُطلق عليه تلك الجموع القديمة للقلم. فقد جاء في لسان العرب: (القلم: الذي يُكتب به، والجمع أقلام وقِلام، قال ابن بَرّي: وجمع أقلام أقاليم !. وأنشد ابن الأعرابي:

كأنني، حين آتيها لـتُخبرني، * وما تُـبَـيِّنُ لي شيئا بتكليم،

صحيفةٌ كُتيبَتْ سرّا إلى رجلٍ* لم يَدْرِ ما خُطّ فيها بالأقاليم

والمِقلمة في اللغة هي: وعاءُ الأقلام. قال ابن سِيده: والقلم الذي في التنزيل (القرآن)لا أعرف كيفيّته، قال أبو زيد: سمعت أعرابيا مُحْرِمًا يقول: (سبق القضاء وجفّت الأقلام) والقلم: الزّلم. والقلم: السهم الذي يُجال بين القوم في القمار وجمعها أقلام، وفي التنزيل العزيز: "وما كنتَ لديهم إذ يُلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم"(1). قيل معناه سهامهم(وهذا المعنى لا دخل لعا في موضوعنا). وقيل أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة.(وهذا في صميم الموضوع) قال الزّجاج: الأقلام هاهنا القِداح، وهي قداح جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم على جهة القرعة. وإنّما قيل للسهم القلم لأنّه القلم الذي يكتب به، وإنّما سمّي قلما لأنّه قُلـِّمَ مَرّة بعد مرة. ومن هنا قيل: قلـَّمتُ أظفاري، وقلـّمْتُ الشيء: بريئة...(2).

وجاء في الموسوعة العربية المسيرة: "القلم: أداة الكتابة، ويُتّخذ من الغاب، وتنمو أحسن أنواعه في وسط وبطائح العراق... واستـَعمل اليونانُ والرومان لوحا ذا سنّ مدبب مغطى بطبقة من الشمع، واستُخدم ريشُ الطير في الكتابة في العصور الوسطى. وصُنع قلم الحبر ذو الخزان 1880م وقلم الحبر الجاف 1944م وإذن فإنّ قلم الحبر، المعروف لدينا الآن.3)

أما العرب فقد صنعوا قلم الحبر منذ أكثر من ألف سنة بكثير، وبين يدي نص قديم توفي كاتبه القاضي النعمان بن محمد، سنة 363 هـ = 977م وقد قال إن المُعِزَّ لدين الله الفاطمي المتوفى سنة 365 هـ = 975م أمرَ بصنع قلم يوضع الحبر في داخله دون أن يحتاج كاتبه إلى دواة يستمد منها. (وهو الخليفة الفاطمي الذي حكم أفريقية من المهدية بتونس ثم فتح مصر بواسطة قائده جوهر الصقلي وأسس القاهرة التي نسبت إليه فقيل لها القاهرة المُعِزِّيَّة. قال الدّكتور حسن الباشا محمود أستاذ تاريخ الفن بجامعة القاهرة: إنّ القلم المزوَّد بخزانٍ للحبر قد اخترع في مصر في القرن العاشر الميلادي، وقد لاحظ محققو كتاب "المجالس والمسايرات" أن مؤلفه القاضي النعمان الذي كتب هذا النص لم يذكر مصر قطّ وإنّما افترض ذلك صاحبُ المقال معتمدا على الفترة المصريّة من خلافة المعز وهي قصيرة جدّا بالنسبة إلى الفترة الإفريقية" في المهدية عاصمة الدولة الفاطمية.

إن اختراع وانبثاق فكرة هذا القلم وصنعه وتعديل هذا الصنع إمّا أن يكون قد وقع بالمهدية عاصمة الفاطميين في تونس، وهذا هو الأرجح لطول مدة حياة المعز وخلافته بها (من 319 هـ إلى 358 هـ) أو القاهرة المُعِزيّة التي أسسها بمصر جوهر الصقلـّي قائد المعز لدين الله الفاطمي بعد أن فتح مصر وهيأها لتكون عاصمة لدولته الفاطمية عند انتقاله إليها من عاصمة دولته الأولى بالمهدية التونسية، وهذا الرأي مرجوح لقصر مدّة خلافة المعز بمصر (من 358 هـ إلى 365 هـ) سنة وفاته. وهذا هو النصّ الطريف بعدما وضعناه في إطاره الزماني والمكاني:

في صناعة القلم الذي اخترعه الإمام المعز

قال القاضي: النعمان بن محمد رضي الله عنه: ذكر الإمام المعز لدين الله... القلم، فوصف فضله ورمز فيه بباطن العلم ثم قال: نريد أن نعمل قلما يُكتب به بلا استمداد من دواة، يكون مداده من داخله، فمتى شاء الإنسان كتب به فأمدّه وكتب بذلك ما شاء، ومتى شاء تركه، فارتفع المداد، وكان القلم ناشفا منه، يجعله الكاتب في كمّه أو حيث شاء فلا يؤثّر فيه ولا يرشح شيء من المداد عنه، ولا يكون ذلك إلاّ عندما يبتغي منه ويراد الكتابة به، فيكون آلة عجيبة لم نعلم أنّا سُبقنا إليها، ودليلا على حكمة بالغة لمن تأمّلها وعرف وجه المعنى فيها. فقلت: ويكون هذا يا مولانا؟. قال: يكون إن شاء الله. فما مرّ بعد ذلك إلاّ أيّام قلائل حتّى جاء الصانع، الذي وصف له الصنعة، به معمولا من ذهب، فأودعه المِداد وكتب به فكتب، وزاد شيئا من المداد على مقدار الحاجة. فأمر بإصلاح شيء منه، فأصلحه وجاء به فإذا هو قلم يُقلب في اليد ويميل إلى كلّ ناحية فلا يبدو منه شيء من المداد. فإذا أخذه الكاتب وكتب به كتب أحسن كتاب ما شاء أن يكتب به، ثمّ رفعه عن الكتاب أمسك المِداد. فرأيت صنعة عجيبة لم أكن أظنّ أنّي أرى مثلها، وتبيّن لي فيه مثـَلٌ حسن في أنّه لا يسمح بما عنده إلاّ عند طلب ذاك منه، وفيما يعود بالنفع ممّا جُعِلَ سببا له، لا يجود لغير مبتغ ولا يُخرج ما فيه إلاّ لمن يجب إخراجُ ذلك له لمن يحب، ولا يخرِج منه ما يضرّ فيلطخ يد من يمسكه أو ثوبه أو ما لصق به، فهو نفع ولا ضرر، وجواد لمن سأل، وممسك عمن لم يسأل، ومستغن بما فيه عن غيره أن يستمد منه."(4)

إن هذا الابتكار المبكر الصنع عربي صميم قد سبق التونسيون أو المصريون الغربيين في مجرد الفكير في صنعه بعدة قرون، وأرجو أن أعود إلى أمثال هذا السبق الذي لم نواصل السير في دربه وأن نتركه للغربيين يصولون في ميدانه ويجولونونبقى لهم في ميدانه تابعين، وبسبقهم لنا فيه مقتنعين.

 

أ . د: نورالدين صمّود

.............................

هوامش وتعليقات

1) سورة آل عمران الآية 44

2) لسان العرب لابن منظور: مادة قلم.

3) في كتاب (الموسوعة العربية الميسرة) - بإشراف محمد شفيق غربال، أنّ القلم الاحامل للحبر قد صنع منذ أكثر من مائة سنة بقليل فقط.

4) مصدر النص: كتاب: المجالس والمسايرات ص 319-320. تحقيق: الحبيب الفقي أستاذ محاضر، إبراهيم شبوح، باحث بالمعهد القومي للآثار والفنون، محمد اليعلاوي أستاذ محاضر.

 

 

في المثقف اليوم