قضايا

في مجلس ابن جِنِّي!: هواة التفسير المعاصرون (2)

عبد الله الفيفيرأينا في المقال السابق موقف (ابن جنِّي) من (أينشتاين) العصر الحديث في تفسير «القرآن المجيد»، أعني المهندس الطائر من الأشكال الهندسيَّة إلى الإشكالات اللغويَّة والتفسيريَّة. وها هو ذا يقول لمُحاوره:

- إذا أُفسِدت لغة «القرآن»، فما الذي يبقَى لكم؟ أوضِح ماذا يقول الرجل، على سبيل التمثيل.

- يذهب، طال عمرك...

- طال عمري؟!

- أقصد «طال علمك». يذهب ذلك الفقيه اللغويُّ الغريب، مثلًا، إلى أن كلمة «نساء»، في الآية ﴿نساؤكم حرثٌ لكم﴾، ليست جمع امرأة، كما يفهم كل الناس! كلَّا، بل هي تعني: «الراديو والموبايل...»، وما استجدَّ من أشياء في الحياة الإنسانية إلى أن تقوم الساعة! فهذه كلها «نساء»، في مذهبه التفسيري، وهي حرثٌ مباحٌ لكم، أيها الناس، فلا تسألوا المشايخ أهي حلالٌ أم حرام؟ بل ائتوا حرثكم أَنَّى شئتم، وشاءت الصين واليابان والثقافة الاستهلاكيَّة، فمن شاء أن يستخدم جوَّالًا من نوع «نوكيا»، مثلًا قديمًا، أو «سامسونج»، أو من طراز «الآي فون»، سواء بكمرة أو بغير كمرة، فلا حرج إن شاء الله، وَفق تلك النسخة المنقَّحة من التفسير الهندسيِّ المعاصر. فليأتِ الرجل حرثه أَنَّى شاء، أو فلتأتِ المرأة حرثها أَنَّى شاءت؛ فأكثر حارثي الجوَّالات من النساء! في حين أن كلمة «النساء» أحيانًا، حسب زعمه، قد تعني: النساء والرجال معًا، وإلَّا كيف يقول تعالى- كما يحتجُّ صاحبنا-: ﴿ولَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ.﴾ (النور، 13). فكيف يكون للنساء نساءٌ يبدين لهن زينتهن؟ فيما «النساء» لديه، في آية أخرى، جمع: نسيء: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والبَنِينَ والقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا واللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ.﴾ (آل عمران، 14). والدليل، في رأيه، أنه قد وُضِع النساء مع الدواب! وهذا غير معقول؛ فلا بُدَّ أن نبحث للنساء عن معنى تطمئنُّ له النفوس وإنْ لم تطمئن العقول. وطبعًا، هو، بخياله الجامح، لم ير في الآية غير «الدواب» و«النساء». ولو كانت «النساء» جمع امرأة، لوجبَ، وَفق قوله، أن لا يُستعمل في الآية لفظ «الناس» وهو يعني الرجال فقط، بل أن يقال: «زُيِّنَ للرجال». كما أنه ما كان ينبغي أن يقول «للناس» وهو يعني الجنسين كليهما، ثمَّ إذا هو يجعل النساء من ضمن الشهوات! بل كان لا بد من التفصيل، فيذكر ما زُيِّنَ للرجال على حدة، وما زُيِّنَ للنساء على حدة، منعًا للاختلاط.(1) هكذا تتضح الصورة ويستقيم المبنى والمعنى. لكنه لا يوضِّح كيف «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (=جمع نسيء، بزعمه)». وبذا فإن الرجل، بهذا الفهم، أو بالأحرى بهذا الوهم، لا يُلغي القرآن، كما فُهم منذ أن جاء به محمَّد، بل يُلغي لغة العرب نفسها!  

- ما شاء الله، تبارك الله! «أشاوُل أيضًا يتنبَّأ؟!».. [أجاب ابن جنينا]. واضحٌ أن مفسِّركم في وادٍ ولغة العرب في وادٍ آخر. ولا يُغني تقليب المعجمات لمن لا يفقه كلام العرب وأساليب العربيَّة، بل إن المعجمات ستزيده عمًى على عماه.

- ما قولك في ما ذهب إليه، يا ابن جنينا!

- إنْ هو إلَّا من المتكلِّفين، نعوذ بالله من أن نكون منهم! وبضاعته اللغويَّة البائسة تفتح خياله على ألوان من التحذلق والأوهام. عجيب أمر ما أسمع من هرطقة لغويَّة في زمانكم! ألم يقرأ الآية الأخرى من (سورة الحج، 18): ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ ومَن فِي الأَرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبَالُ والشَّجَرُ والدَّوَابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.﴾ فقد جمع الدواب بالسماوات والأرض والشمس والقمر والناس وغيرهم في سياقٍ واحد. والدوابُّ: كلُّ ما دبَّ على الأرض، وليس استعماله في كلِّ مقامٍ على سبيل التحقير. بل لقد قدَّم الدوابَّ على الناس، الذين جاؤوا في ذيل القائمة، وفضّل الدوابَّ على الناس بأنها تسجد لله جميعًا، والناس لا يسجد منهم لله إلَّا كثير. أو سَلْه عن الآية من (سورة فاطر، 28): ﴿ومِنَ النَّاسِ والدَّوَابِّ والأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ، إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾.

- هذا، في رأيكم، ما يردُّ من القرآن على زعمه الذي زعمَه بكثيرٍ من الثقة المستخفَّة بكل شيء؟

- نعم، وهو لا يستطيع أن يأتي بشاهدٍ واحدٍ من كلام العرب استُعمِلت فيه كلمة «نِساء» بالمعنى الذي يدَّعي. فعن أيِّ لغةٍ يتحدث؟ أمَّا ما يدلُّ على خطله اللغوي بعد خطله الحِجاجي، فنحن لا نقف للنسيء على جمع، وهو: مصدر، اللهم إلَّا «منسوءات»، أي مؤجَّلات. ومنه تلاعب المشركين بتقويم الأشهر، المشار إليه في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا ويُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّـهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّـهُ. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ، واللَّـهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ.﴾ (التوبة، ٣٧(. وهو ضربٌ من البيوع: البيع إلى أجل معلوم من غير تَقابُض. فكيف كان النسيء، وهو زيادةٌ في الكُفر، شهوةً محبوبةً مزيَّنةً للناس؟

- لعلَّه أغراه بذلك قول الآية: «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِم»!

- ثمَّ أيُّ ناس؟ إنَّما الآية عن شهوات الناس في كل زمان ومكان، لا عن العرب وحدهم. إنها مجازفات دلاليَّة ولفظيَّة، يا بُنيَّ، لم يجرؤ عليها قبل صاحبكم أحدٌ يحترم اللغة ويُقدِّر العقول. غير أن الأساس اللغوي الواهي الذي ينطلق منه، والذوق البياني المريض الذي يتمتَّع به، يجوِّزان له أن يخبط هكذا خبط عشواء، متخيِّلًا أنه قد اكتشف ما لم يكتشفه أحدٌ قبله.

- ربما لأنه يستشكل أيضًا أن يكون للنساء نساء، في قوله تعالى «أَوْ نِسَائِهِنَّ».

- لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله! لم يفهم «نساء النساء»؛ لأنه منفصمٌ عن ثقافة العرب، وعن سياق الآيات. نعم، كان للنساء نساء، لا من المحيطات بهنَّ بل من فتياتهن. وهذا واقع اجتماعيٌّ كان قائمًا. ولا سيما في بعض الطبقات الاجتماعيَّة العُليا، ربما كانت هناك الماشطة، والمزيِّنة أو المقيِّنة، والمعطِّرة، ومَن إلى أولئك من النساء.

- ومثلهن اليوم العاملات المنزليَّات وما شابههن من نساء النساء.

- هؤلاء هنَّ المقصودات بـ«نسائهن». ربما أغراه بتأويله المتكلَّف قول اللغويِّين: إنه يقال: «امرأَةٌ نَسْءٌ ونَسُوءٌ، ونِسْوةٌ نِساءٌ، إذا تأَخَّر حَيْضُها، ورُجِي حَبَلُها، فهو من التأْخير، وقيل بمعنى الزيادة من نَسَأْتُ اللَّبنَ إذا جَعَلْت فيه الماء تُكَّثِّره به، والحَمْلُ زيادةٌ.»(2) فقال، إذن: كل ما تأخَّر فهو «نِساء»، جمع (نسْء).

- وهل هذا يصح؟

- كما قلتُ لك لن تجد عربيًّا استعمل «نِساء» بهذا المعنى قط، وإنما بالمعنى المألوف، وهو جمع امرأة.

- لكن الرجل ظلَّ يقلِّب في المعجمات خمسين سنة للعثور على تخريجاتٍ ما كان يبتغيها؛ من حيث هو يقدِّم تفسيرًا رغبويًّا، فيأخذ بما تسعفه المعجمات به من استعمالات غريبة، أو حوشية، أو نادرة الاستعمال، أو بعيدة الاحتمال في الدلالة، ليحمِّل بها «القرآن» ويلوي أعناق الألفاظ والمعاني لأمرٍ في نفسه لا في النصوص. والأمر الذي في نفسه السعي لإلغاء التشريع، وجعل الحياة المعاصرة والواقع الإنساني حكَمًا على الشريعة؛ فهو ما ينفكُّ يردِّد التساؤل عن مصداق التشريع في حياة الناس. لكن ما فائدة التشريع إذا كان مجرد وصفٍ لحياة الناس؟!

- هو بهذا إمَّا ضالٌ أو مُغرِض...

- على رسلك، يا ابن جنينا! لا أظنه ضالًّا، فهو يبدو من الذكاء والمعرفة بما ينفي عنه الغفلة والجهل والضلال. لكنه أخذ على عاتقه مسخ الشريعة، بصفةٍ خاصة؛ بحيث لا يبقى للمسلم سِوَى عقيدة التوحيد، وما خلاها يناضل لتأويله بأيِّ صورةٍ من الصور، إمَّا لإلغائه، أو لتأويله تأويلًا بعيدًا، لا صِلَة له بالمعنى.

[للحِوار بقية].

 

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

 

 

في المثقف اليوم